Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 65, Ayat: 1-12)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { ٱلْعِدَّةَ } المدة التي تحتبس فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها { أَحْصُواْ } اضبطوا بطريق العَدَد { حَسْبُهُ } كافية { وُجْدكم } طاقتكم ووسعكم { ٱرْتَبْتُمْ } شككتم { كَأِيِّن } كثير { عَتَتْ } تكبرت وتجبرت وأعرضت { نُّكْراً } منكراً شنيعاً وفظيعاً { خُسْراً } خساراً وهلاكاً . سَبَبُ النّزول : أ - روى البخاري أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيَّظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ليراجِعْها ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإِن بدا له أن يطلِّقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يمسَّها ، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل . ب - وروي عن أنس قال طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فقيل له : راجعْها فإِنها صوَّامة قوَّامة ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة . ج - وروي أنه لما نزل قوله تعالى { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } البقرة : 228 ] قال جماعة من الصحابة يا رسول الله : فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كِبَر فنزلت { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ … } الآية . التفسِير : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولأمته ، وخصَّ هو بالنداء صلى الله عليه وسلم تعظيماً له ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك ، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم قال القرطبي : الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجماعة { طَلَّقْتُمُ } تعظيماً وتفخيماً والمعنى : يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي فطلقوهن مستقبلاتٍ لعدتهن ، وذلك في الطهر ، ولا تطلقوهن في الحيض قال مجاهد : أي طاهراً من غير جماع لقوله صلى الله عليه وسلم : " فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء " قال المفسرون : وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر ، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج ، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً ، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر ، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } أي خافوا الله ربَّ العالمين ، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أي لا تخرجوهن من مساكنهن ، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن { وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن ، إِلا إِذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها قال في التسهيل : نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه ، ونهاها هي أن تخرج باختيارها ، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها ، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف ، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة ، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل : إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها ، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى ، ويؤيده قراءة " إِلا أن يفحشن عليكم " { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي ومن يخرج عن هذه الأحكام ، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا يأتمر بها ، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب ، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه قال الرازي : وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة ، ومن يطلق لغير العدة { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } أي لا تعرف أيها السامع ماذا يحدث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر ؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها ، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها قال ابن عباس : يريد الندم على طلاقها ، والمحبة لرجعتها في العدة { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله ، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن قال المفسرون : الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة ، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة ، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق ، والمتعة عند الطلاق ، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة ، شخصين من أهل العدالة والاستقامة من تثقون في دينهما وأمانتهما قال في البحر : وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة ، مندوبٌ إِليه في الفرقة { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد ، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير ، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي هذا الذي شرعناه من الأحكام ، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله ، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده ، يجعل له من كل همٍ فرجاً ، ومن كل ضيقٍ مخرجاً ، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه قال مجاهد : كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال : إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً ، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه ، ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول : يا ابن عباس ، يا ابن عباس ! ! والله تعالى يقول { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً ، عصيت ربك وبانت منك امرأتك وقال المفسرون : الآية عامة وقد " نزلت في " عوف بن مالك الأشجعي " أسر المشركون ابنه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إِليه الفاقة وقال : إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني ؟ فقال صلى الله عليه وسلم له : اتق الله واصبر ، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول " لا حول ولا قوة إِلا بالله " ففعل هو وامرأته ، فبينا هو في بيته إِذ قرع ابنه الباب ، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها " فنزلت { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أي ومن يعتمد على الله ، ويثقْ به فيما أصابه ونابه ، فإِن الله كافيه قال الصاوي : أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه ، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل ، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب ، وفي الحديث " لو توكلتم على الله حقَّ توكله لزرقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً " { إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي نافذُ أمره في جميع خلقه ، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل : وهذا حضٌ على التوكل وتأكيدٌ له ، لأن العبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله ، توكَّل على الله وحده ولم يعوِّل على سواه { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أي قد جعل الله لكل أمرٍ من الأمور ، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً ، حسب الحكمة الأزلية قال القرطبي : أي جعل لكل شيءٍ من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إِليه … ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ ، إِن شككتم وجهلتم كيف عدتهن ؟ فهذا حكمهن { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر ، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة { وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل ، سواءً كانت مطلقة ، أو متوفى عنها زوجها { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } أي ومن يخشى الله في أقواله وأفعاله ، ويجتنب ما حرَّم الله عليه ، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير { ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم ، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به ، وتعملوا بمقتضاه { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه ، ويضاعف له الأجر والثواب قال الصاوي : كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين ، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى وقال في البحر : لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات ، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها ، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى ، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل } الآية { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها ، على قدر طاقتكم ومقدرتكم ، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة ، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة ، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ } أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً { فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي فعلى الزوج أن ينفق عليها - ولو طالت مدة الحمل - حتى تضع حملها { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة ، لأن الأولاد ينسبون إِلى الآباء قال في التسهيل : والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم ، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير ، من المسامحة والرفق والإِحسان ، قال القرطبي : أي ولْيقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل ، والمعروف منها : إِرضاعُ الولد من غير أجرة ، والمعروف منه : توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } أي تضايقتم وتشددتم ، وعسر الاتفاق بين الزوجين ، فأبى الزوج أن يدفع لها ما تطلب ، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ } أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها ، وهو خبرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى قال أبو حيان : وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها : سيقضيها غيرك ، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم قال الضحاك : إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى : لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير ، على قدر وسعه وطاقته ، قال في التسهيل : وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله ، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق ، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً ، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً وعسراً { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية { فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ } أي فلينفق على مقدار طاقته ، وعلى قدر ما آتاه الله من المال { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } أي لا يكلف الله أحداً إِلا بقدر طاقته واستطاعته ، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني قال أبو السعود : وفيه تطييبٌ لقلب المعسر ، وترغيبٌ له في بذل مجهوده ، وقد أكد ذلك الوعد بقوله { سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى ، وبعد الشدة السعة والرخاء ، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم . . ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده ، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ } أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم ، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال { وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار ، والخسران الذي ما بعده خسران … ولّما ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية ، أمر المؤمنين بتقوى الله ، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي أنتم يا معشر المؤمنين الذي صدقتم بالله ورسوله { قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً } أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم آياتِ الله ، واضحات جليات ، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام قال في البحر : والظاهر أن الذكر هو القرآن ، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم { لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي ليخرج المؤمنين المتقين ، من الضلالة إِلى الهدى ، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً } أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي يدخله في الآخرة جنات النعيم ، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي ماكثين في تلك الجنان - جنان الخلد - أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم ، لأن نعيمها دائم لا ينقطع قال الطبري : أي وسَّع لهم في الجنات الرزق ، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم ، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب . . ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته ، وعظيم سلطانه وجلاله فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سماواتٍ طباقاً ، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السماوات { يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السماوات والأرضين { لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ { وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } أي ولتعلموا أنه تعالى عالم بكل شيء ، لا تخفى عليه خافية . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ } وكذلك { بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } . 2 - الإِظهار في موضع الإِضمار للتهويل { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ } . 3 - الالتفات لمزيد الاهتمام { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ورد بطريق الخطاب والأصل أن يكون بطريق الغائب " لا يدري " . 4 - إِيجاز الحذف { وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } حذف منه الخبر أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً . 5 - تكرار الوعيد للتفظيع والترهيب { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } الآية . 6 - المجاز المرسل { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يراد بها أهل القرية من باب تسمية الحال باسم المحل . 7 - الاستعارة اللطيفة { لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } استعار الظلمات للضلال والكفر ، واستعار النور للهدى والإِيمان ، وهو من روائع البيان ، وجلال تعبير القرآن . 8 - السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً … يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً … وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً … وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } الخ وهو من المحسنات البديعية .