Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 66, Ayat: 1-12)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { تَحِلَّةَ } تحليل اليمين بالكفارة { صَغَتْ } مالت عن الحقِّ وزاغت ، وأصغى الإِناء أماله { قَانِتَاتٍ } مطيعات من القنوت وهو ملازمة الطاعة مع الخضوع { نَّصُوحاً } خالصة صادقة ، والتوبةُ النَّصوح هي التي لا عودة بعدها إِلى الذنب ، سميت نصوحاً لما فيها من الصدق والإِخلاص يقال : هذا عسلٌ ناصح إِذا خلص من الشمع { ٱغْلُظْ } من الغلظة وهي الشدة { أَحْصَنَتْ } عفَّت وصانت نفسها عن مقارفة الفاحشة . سَبَبُ النّزول : أ - روي " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه ، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبويها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل إِلى جاريته " مارية القبطية " فعاشرها في بيت حفصة ، فرجعت فوجدتها في بيتها ، فغارت غيرةً شديدة ، وقالت : أدخلتها بيتي في غيابي وعاشرتها على فراشي ؟ ! ما أراك فعلت هذا إِلا لهواني عليك ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضياً لها : إِني حرمتها عليَّ ولا تخبري بذلك أحداً ، فلما خرج من عندها قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة - وكانتا متصافيتين - وأخبرتها بسرِّ النبي صلى الله عليه وسلم فغضب رسول الله وحلف ألا يدخل على نسائه شهراً واعتزلهن " فأنزل الله { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … } الآية . ب - وروي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زوجه " زينب " رضي الله عنها فيشرب عندها عسلاً ، فاتفقت عائشة وحفصة على أن تقول له كل واحدة إِذا دنا منها : أكلتَ مغافير - وهو طعام حلوٌ كريه الريح - فلما مرَّ على حفصة قالت له ذلك ، ثم دخل على عائشة فقالت له مثل ذلك - وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة كريهة - فقال عليه السلام : لا ولكني شربت عسلاً عند زينب ولن أعود له وحلف " فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … } الآيات . التفسِير : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } الخطاب بلفظ النبوة مشعرٌ بالتوقير والتعظيم ، والتنويه بمقامه الرفيع الشريف ، فلم يخاطبه باسمه العلم كما خاطب سائر الرسل بقوله " يا إِبراهيم ، يا نوحُ ، يا عيسى بن مريم " وإِنما خاطبه بلفظ النبوة أو الرسالة ، وذلك أعظم دليلٍ وبرهانٍ على أنه - صلوات الله عليه - أفضل الأنبياء والمرسلين ومعنى الآية : يا أيها الموحى إِليه من السماء ، المنبأ بواسطة الأمين جبريل عليه السلام ، لماذا تمنع نفسك ما أحلَّ الله لك من النساء ؟ ! قال المفسرون : إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بأم ولده " مارية " في بيت حفصة وعلمت بذلك فقال لها : اكتمي عليَّ وقد حرمت مارية على نفسي فنزلت الآية { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } وفي افتتاح العتاب من حسن التلطف ما لا يخفى ، فقد عاتبه على إِتعاب نفسه والتضييق عليها من أجل مرضاة أزواجه ، كأنه يقول : لا تتعب نفسك في سبيل أزواجك ، وأزواجك يسعين في مرضاتك ، فأرح نفسك من هذا العناء { تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } ؟ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحلَّ الله لك ؟ قال في التسهيل : يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة ، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية ، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإِنما تركه لرائحته { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي والله واسع المغفرة ، عظيم الرحمة ، حيث سامحك في امتناعك عن مارية ، وإِنما عاتبك رحمة بك ، وفي هذا إِشارة إِلى أن عتابه في ذلك إِنما كان كرامةً له ، وإِنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه ، وامتناعه مما كان له فيه أُنسٌ ومتعة ، وبئس ما قاله الزمخشري في أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم زلة لأنه حرَّم ما أحل الله له الخ فإِن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة ، وجهل بصفات المعصوم ، فلم يكن منه صلوات الله عليه تحريمٌ للحلال كما زعم حتى تعتبر مخالفة ومعصية ، وإِنما امتنع عن بعض إِمائه تطييباً لخاطر بعض أزواجه ، فعاتبه الله تعالى عليه رفقاً به ، وتنويهاً بقدره ، وإِجلالاً لمنصبه عليه السلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه ، جرياً على ما أُلف من لطف الله تعالى به { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أي قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحللون به من أيمانكم وذلك بالكفارة { وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } أي واللهُ وليُكم وناصركم { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } أي وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه ، فلا يأمر ولا ينهى إِلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة . . ثم شرع تعالى في بيان القصة التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض زوجاته فقال { وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } أي واذكر حين أسرَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم إِلى زوجته حفصة خبراً واستكتمها إِياه قال ابن عباس : هو ما أسرَّ إِلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه ، كما أخبرها بأن الخلافة بعده تكون في أبي بكر وعمر ، وطلب منها ألا تخبر بذلك أحداً { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أي فلما أخبرت بذلك السرِّ عائشة وأفشته لها { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي وأطلع الله نبيه بواسطة جبريل الأمين على إفشائها للسرِّ { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } أي أعلمها وأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الحديث الذي أفشته معاتباً لها ، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً ، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات ، والتقصير في اللوم والعتاب قال الحسن : ما استقصى كريمٌ قط ، وقال سفيان : ما زال التغافل من شيم الكرام قال الخازن : المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية على نفسه ، وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم كره أن ينتشر ذلك في الناس { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } أي فلما أخبر الرسول حفصة بأنها قد أفشت سرِّه { قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } أي قالت : من أخبرك يا رسول الله بأني أفشيتُ سرك ؟ قال أبو حيان : ظنت حفصة أن عائشة فضحتها - وكانت قد استكتمتها - فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبت ، فأخبرها أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به فسكتت وسلَّمت { قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } أي فقال عليه السلام : أخبرني بذلك ربُّ العزة ، العليم بسرائر العباد ، الخبير الذي لا تخفى عليه خافية { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } الخطاب لحفصة وعائشة ، خاطبهما بطريق الالتفات ليكون أبلغ من معاتبتهما وحملهما على التوبة مما بدر منهما من الإِيذاء لسيد الأنبياء ، وجوابه محذوف تقديره أي إِن تبتما كان خيراً لكما من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإِيذاء { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أي فقد زاغت ومالت قلوبكما عما يجب عليكما من الإِخلاص لرسول الله ، بحب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } أي وإِن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوءه ، من الوقيعة بينه وبين سائر نسائه { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } أي فإِنَّ الله تعالى هو وليُّه وناصره ، فلا يضره ذلك التظاهر منكما { وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أي وجبريل كذلك وليه وناصره ، والصالحون من المؤمنين قال ابن عباس : أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر فقد كانا عوناً له عليه الصلاة والسلام عليهما قال في التسهيل : معنى الآية : إِن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم بما يسوءه من إِفراط الغيرة ، وإِفشاء سره ونحو ذلك ، فإِنَّ له من ينصره ويتولاه ، وقد ورد في الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : ما يشقُّ عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهنَّ فإِنَّ الله معك وملائكته وجبريل ، وأبو بكرٍ وعمر معك فنزلت الآية موافقة لقول عمر { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } أي والملائكة الأبرار بعد حضرة الله ، وجبريل ، وصالح المؤمنين أعوانٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من عاداه ، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء أعوانه وأنصارهُ ؟ ! أفرد { جِبْرِيلُ } بالذكر تعظيماً له ، وإِظهاراً لمكانته عند الله تعالى فيكون قد ذُكر مرتين : مرةً بالإِفراد ، ومرةً في العموم ، ووسَّط { صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } بين جبريل والملائكة تشريفاً لهم ، واعتناءً بهم ، وإِشادةً بفضل الصلاح ، وختم الآية بذكر { الْمَلاَئِكَةُ } أعظم المخلوقات وجعلهم ظهراء للنبي عليه السلام ليكون أفخم بالنبي صلوات الله عليه ، وعظم مكانته ، والانتصار له ، إِذ هم بمثابة جيشٍ جرارٍ ، يملأ القفار ، نصرةً للنبي المختار ، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوىء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ؟ ثم خوَّف تعالى نساء النبي بقوله { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } قال المفسرون : { عَسَىٰ } من الله واجبٌ أي حقٌ واجب على الله إِن طلقكنَّ رسوله { أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } أي أن يعطيه عليه السلام بدلكُنَّ زوجاتٍ صالحاتٍ خيراً وأفضل منكنَّ قال القرطبي : هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه نساءً خيراً منهن ، والله عالمٌ بأنه لا يطلقهن ، ولكنْ أخبر عن قدرته ، على أن رسوله لو طلقهن ، لأبدله خيراً منهن ، تخويفاً لهنَّ . . ثم وصف تعالى هؤلاء الزوجات اللواتي سيبدله بهنَّ فقال { مُسْلِمَاتٍ } أي خاضعات مستسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله { مُّؤْمِنَاتٍ } أي مصدقاتٍ بالله وبرسوله { قَانِتَاتٍ } أي مطيعاتٍ لما يُؤمرن به ، مواظباتٍ على الطاعة { تَائِبَاتٍ } أي تائباتٍ من الذنوب ، لا يصررن على معصية { عَابِدَاتٍ } أي متعبداتٍ لله تعالى يكثرن العبادة ، كأنَّ العبادة امتزجت بقلوبهن حتى صارت سجيةً لهن { سَائِحَاتٍ } أي مسافراتٍ مهاجراتٍ إِلى الله ورسوله { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } أي منهنَّ ثيباتٍ ، ومنهن أبكاراً قال ابن كثير : قسمهن إِلى نوعين ليكون ذلك أشهى إِلى النفس ، فإنَّ التنوع يبسط النفس ، وإِنما دخلت واو العطف هنا { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } للتنويع والتقسيم ، ولو سقطت لاختل المعنى ، لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان ، فتدبر سرَّ القرآن … ولما وعظ نساء الرسول موعظةً خاصة ، أتبع ذلك بموعظةٍ عامةٍ للمؤمنين فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } أي يا من صدقتم بالله ورسوله وأسلمتم وجوهكم لله ، احفظوا أنفسكم ، وصونوا أزواجكم وأولادكم ، من نارٍ حامية مستعرة ، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات ، وبتأديبهم وتعليمهم قال مجاهد : أي اتقوا الله ، وأوصوا أهليكم بتقوى الله وقال الخازن : أي مروهم بالخير ، وانهوهم عن الشر ، وعلموهم وأدبوهم حتى تقوهم بذلك من النار ، والمراد بالأهل النساءُ والأولاد وما ألحق بهما { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } أي حطبها الذي تُسعَّر به نار جهنم هو الخلائق والحجارة قال المفسرون : أراد بالحجارة حجارة الكبريت ، لأنها أشد الأشياء حراً ، وأسرع اتِّقاداً ، وعنى بذلك أنها مفرطة الحرارة ، تتقد بما ذكر ، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه قال ابن مسعود : حطبها الذي يلقى فيها بنو آدم ، وحجارةٌ من كبريت ، أنتن من الجيفة { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } أي على هذه النار زبانيةٌ غلاظ القلوب ، لا يرحمون أحداً ، مكلفون بتعذيب الكفار قال القرطبي : المراد بالملائكة الزبانية ، وهم غلاظ القلوب لا يرحمون إِذا استرحموا ، لأنهم خلقوا من الغضب ، وحُبّب إِليهم عذاب الخلق كما حُبب لبني آدم أكل الطعام والشراب { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ } أي لا يعصون أمر الله بحالٍ من الأحوال { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي وينفِّذون الأوامر بدون إِمهال ولا تأخير . . ثم يقال للكفار عند دخولهم النار { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ } أي لا تعتذروا عن ذنوبكم وإِجرامكم ، فلا ينفعكم اليوم الاعتذار ، لأنه قد قُدّم إِليكم الإِنذار والإِعذار { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي إِنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة ، ولا تظلمون شيئاً كقوله تعالى { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ غافر : 17 ] ثم دعا المؤمنين إِلى التوبة الصادقة الناصحة فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } أي توبوا إِلى الله من ذنوبكم توبةً صادقةً خالصة ، بالغةً في النصح الغاية القصوى ، سئل عمر عن التوبة النصوح فقال : هي أن يتوب ثم لا يعود إِلى الذنب ، كما لا يعود اللبن إِلى الضَّرْع قال العلماء : التوبة النصوح هي التي جمعت ثلاثة شروط : الإِقلاع عن الذنب ، والندم على ما حدث ، والعزم على عدم العودة إِليه ، وإِن كان الحق لآدمي زيد شرط رابع وهو : ردٌّ المظالم لأصحابها { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي لعل الله يرحمكم فيمحو عنكم ذنوبكم قال المفسرون : " عسى " من الله واجبة بمنزلة التحقيق ، وهذا إِطماعٌ من الله لعباده في قبول التوبة ، تفضلاً منه وتكرماً ، لأن العظيم إِذا وعد وفَّى ، وعادة الملوك أنهم إِذا أرادوا فعلا قالوا " عسى " فهو بمنزلة المحقق { وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي ويدخلكم في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة ، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } أي يوم لا يفضح الله النبي وأتباعه المؤمنين أمام الكفار ، بل يعزهم ويكرمهم قال أبو السعود : وفيه تعريضٌ بمن أخزاهم اللهُ تعالى من أهل الكفار والفسوق { نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } أي نور هؤلاء المؤمنين يضيء لهم على الصراط ، ويسطع أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم ، كإِضاءة القمر في سواد الليل { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } أي يدعون الله قائلين : يا ربنا أكمل علينا هذا النور وأدمه لنا ، ولا تتركنا نتخبط في الظلمات قال ابن عباس : هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين ، يدعون ربهم به إِشفاقاً حتى يصلوا إِلى الجنة { وَٱغْفِرْ لَنَآ } أي وامح عنا ما فرط من الذنوب { إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي إِنك أنت القادر على كل شيء ، من المغفرة والعقاب ، والرحمة والعذاب … ثم أمر تعالى بجهاد أعداء الله من الكفرة والمنافقين فقال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي جاهد الكفار بالسيف والسِّنان ، والمنافقين بالحجة والبرهان ، لأن المنافقين يظهرون الإِيمان ، فهم مسلمون ظاهراً فلذلك لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بقتالهم { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } أي وشدِّد عليهم في الخطاب ، ولا تعاملهم بالرأفة واللين ، إِرعاباً وإِذلالاً لهم ، لتنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي ومستقرهم في الآخرة جهنم { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي وبئست جهنم مستقراً ومصيراً للمجرمين . . ثم ضرب الله تعالى مثلاً للكفار في عدم انتفاعهم بصلة القرابة أو المصاهرة أو النكاح ، لأن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة ولا ينفع إِلا العمل الصالح فقال { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ } أي مثلَّ تعالى للكفار في عدم استفادتهم بقرابة المؤمنين ، بحال امرأة نوحٍ وامرأة لوط { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } أي كانتا في عصمة نبيين عظيمين هما " نوح و " لوط " عليهما السلام ، وإِنما وصفهما بالعبودية تشريفاً وتكريماً لهما بإِضافتهما إِليه تعالى { فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي فخانت كل واحدة زوجها بالكفر وعدم الإِيمان ، فلم يدفعا عن امرأتيهما - مع نبوتهما - شيئاً من عذاب الله { وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } أي وتقول لهما خزنة النار يوم القيامة : ادخلا نار جهنم مع سائر الداخلين ، من الكفرة المجرمين قال القرطبي : ضرب تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن قريبٍ ولا نسيب ، إِذا فرَّق بينهما الدين ، كما لم يدفع نوح ولوط - مع كرامتهما على الله تعالى - عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب الله { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } وهذا مثلٌ آخر للمؤمن في عدم تضرره ببقاء قريبه على الكفر إِذا كان هو مؤمناً قال أبو السعود : أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفر لا تضرهم ، حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله " فرعون " وهي في أعلى غرف الجنة قال المفسرون : واسمها " آسية بنت مزاحم " آمنت بموسى عليه السلام ، فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها ، فنجَّاها الله من شره ، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا ربِّ العالمين { إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } أي حين دعت ربها قائلةً : يا ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنة النعيم قال بعض العلماء : ما أحسن هذا الكلام فقد اختارت الجار قبل الدار حيث قالت { ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور ، وفي الآية دليل على إِيمانها وتصديقها بالبعث { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه { وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي وأنقذني من الأقباط ، أتباع فرعون الطاغين ، قال الحسن : لما دعت بالنجاة نجَّاها الله تعالى أكرم نجاة ، فرفعها إِلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ } أي ومريم ابنة عمران مثلٌ آخر في الإِيمان { ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي حفظت فرجها وصانته عن مقارفة الفواحش ، فهي عفيفةٌ شريفة طاهرة ، لا كما زعم اليهود عليهم لعنة الله ، أنها زنت وأن ولدها عيسى ابن زنى { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } أي فنفخ رسولنا جبريل في فتحة جيبها ، فوصل أثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى قال ابن كثير : إِن الله بعث جبريل فتمثل لها في صورة بشر ، وأمره أن ينفخ بفيه في جيب درعها ، فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } أي وآمنت بشرائع الله القدسية ، وكتبه السماوية { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } أي وكانت من القوم المطيعين ، العابدين لله عز وجل ، وهو ثناءٌ عليها بكثرة العبادة والطاعة ، والخشوع ، وفي الحديث " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إِلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بن خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين حرَّم وأحلَّ { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ } وبين { عَرَّفَ … وَأَعْرَضَ } وبين { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } وكلها من المحسنات البديعية التي تزيد في جمال الكلام . 2 - الإلتفات من الغيبة إِلى الخطاب { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } زيادةً في اللوم والعتاب . 3 - صيغ المبالغة { ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } { نَّصُوحاً } { ظَهِيرٌ } { قَدِيرٌ } الخ . 4 - ذكر العام بعد الخاص { وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ } فقد خصَّ جبريل بالذكر تشريفاً ، ثم ذكره ثانية مع العموم اعتناءً بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ووسَّط صالح المؤمنين بين الملائكة المقربين . 5 - المجاز المرسل { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } ذكر المسبَّب وأراد السبب أي لازموا على الطاعة لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله . 6 - المقابلة بين مصير أهل الإِيمان ومصير أهل الطغيان { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } و { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } . 7 - التغليب { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } غلَّب الذكور على الإِناث . 8 - السجع المرصَّع كأنه اللؤلؤ والمرجان ، وهو كثير في القرآن فتدبره بإِمعان .