Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 67, Ayat: 1-30)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { طِبَاقاً } بعضها فوق بعض ، من طابق النعل بالنعل إِذا قطعه بقدره وجعله فوقه { فُطُورٍ } شقوق وخروق ، من فطر بمعنى شق قال الشاعر : @ بنى لكمو بلا عَمدٍ سماءً وسوَّاها فما فيها فُطور @@ { حَسِيرٌ } كليل من الحسور وهو الإِعياء يقال حسر البعير إِذا كلَّ وانقطع قال الشاعر : @ نظرتُ إِليها بالمحصب من منى فعاد إِليَّ الطَّرف وهو حسير @@ { شَهِيقاً } صوتاً منكراً كصوت الحمير { تَمَيَّزُ } تتقطع وينفصل بعضها من بعض ، وأصلها تتميَّز حذفت احدى التاءين تخفيفاً { مَنَاكِبِهَا } أطرافها ونواحيها ، وأصل المنكب : الجانب ومنه منكب الرجل { لَّجُّواْ } تمادوا وأصروا { تَمُورُ } ترتج وتضطرب { زُلْفَةً } قريباً منهم { غَوْراً } غائراً ذاهباً في الأرض . التفسِير : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } أي تمجَّد وتعالى اللهُ العلي الكبير ، المفيض على المخلوقات من فنون الخيرات ، الذي بقبضة قدرته ملك السماوات والأرض ، يتصرف فيهما كيف يشاء قال ابن عباس : بيده الملك ، يعزُّ من يشاء ويذل من يشاء ، ويحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي وهو القادر على كل شيء له القدرة التامة ، والتصرف الكامل في كل الأمور ، من غير منازع ولا مدافع … ثم بيَّن تعالى آثار قدرته ، وجليل حكمته فقال { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } أي أوجد في الدنيا الحياة والموت ، فأحيا من شاء وأمات من شاء ، وهو الواحد القهار ، وإِنما قدم الموت لأنه أهيب في النفوس وأفزع قال العلماء : ليس الموت فناءً وانقطاعاً بالكلية عن الحياة ، وإِنما هو انتقال من دار إِلى دار ، ولهذا ثبت في الصحيح أن الميت يسمع ، ويرى ، ويُحسُّ وهو في قبره كما قال عليه السلام " إِنَّ أحدكم إِذا وضع في قبره وتولَّى عنه أصحابه وإِنه ليسمع قرع نعالهم " الحديث وقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم لكنهم لا يجيبون " فالموتُ هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ، ومفارقتها للجسد { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي ليمتحنكم ويختبركم - أيها الناس - فيرى المحسن منكم من المسيء قال القرطبي : أي يعاملكم معاملة المختبر ، فإِن الله تعالى عالم بالمطيع والعاصي أزلاً { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } أي الغالبُ في انتقامه ممن عصاه { ٱلْغَفُورُ } لذنوب من تاب وأناب إِليه { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } أي خلق سبع سماواتٍ متطابقة ، بعضها فوق بعض ، كل سماء كالقبة للأُخرى { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } أي لست ترى أيها السامع في خلق الرحمن البديع من نقص أو خلل ، أو اختلاف أو تنافر ، بل هي في غاية الإِحكام والإِتقان ، وإِنما قال { فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } ولم يقل " فيهن " تعظيماً لخلقهن ، وتنبيهاً على باهر قدرة الله { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } ؟ أي فكرّر النظر في السماوات وردّده في خلقهن المحكم ، هل ترى من شقوق وصدوع ؟ { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي ثم ردِّد النظر مرةً بعد أُخرى ، وانظر بعين الاعتبار في هذه السماوات العجيبة ، مرةً بعد مرة { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً } أي يرجع إِليك بصرك خاشعاً ذليلاً ، لم ير ما تريد { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي وهو كليلٌ متعب قد بلغ الغاية في الإِعياء قال الإِمام الفخر : المعنى إِنك إِذا كررت نظرك لم يرجع إِليك بصرك بما طلبته من وجود الخلل والعيب ، بل رجع خاسئاً مبعداً لم ير ما يهوى مع الكلال والإِعياء وقال القرطبي : أي اردد طرفك وقلّب البصر في السماء { كَرَّتَيْنِ } أي مرةً بعد أخرى ، يرجع إِليك البصر خاشعاً صاغراً ، متباعداً عن أن يرى شيئاً من ذلك العيب والخلل ، وإِنما أمر بالنظر كرتين ، لأن الإِنسان إِذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ، ما لم ينظر إِليه مرة أخرى ، والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } وهو دليلٌ على كثرة النظر . . ثم بيَّن تعالى ما زين به السماء من النجوم الزاهرة والكواكب الساطعة فقال { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } اللام لام القسم و { قد } للتحقيق والمعنى والله لقد زينا السماء القريبة منكم أيها الناس بكواكب مضيئة ساطعة ، هي السماء الأولى أقرب السماواتِ إِلى الأرض قال المفسرون : سميت الكواكب مصابيح لإِضاءتها بالليل إِضاءة السراج { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } أي وجعلنا لها فائدةً أُخرى وهي رجم أعدائكم الشياطين ، الذين يسترقون السمع قال قتادة : خلق الله تعالى النجوم لثلاثٍ : زينةً للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلاماتٍ يُهتدى بها في البر والبحر وقال الخازن : فإِن قيل : كيف تكون زينةً للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وكونها زينة يقتضي بقاءها ، وكونها رجوماً يقتضي زوالها ، فكيف الجمع بين هاتين الحالتين ؟ فالجواب أنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب ، بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وتُرمى الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب ، ومثلها كمثل قبسٍ يؤخذ من النار وهي على حالها ، أقول : ويؤيده قوله تعالى { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] فعلى هذا ، الكواكب لا يرجم بها ؛ وإِنما يكون الرجم بالشهب { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } أي وهيأنا وأعددنا للشياطين في الآخرة - بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا - العذاب المستعر ، وهو النار الموقدة { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } أي وللكافرين بربهم عذاب جهنم أيضاً ، فليس العذاب مختصاً بالشياطين بل هو لكل كافر بالله من الإِنس والجن { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي وبئست النار مرجعاً ومصيراً للكافرين … ثم وصف تعالى جهنم وما فيها من العذاب والأهوال والأغلال فقال { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا } أي إِذا قذفوا وطرحوا في جهنم كما يطرح الحطبُ في النار العظيمة { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً فظيعاً كصوت الحمار ، لشدة توقدها وغليانها قال ابن عباس : الشهيقُ لجهنم عند إِلقاء الكفار فيها ، تشهق إِليهم شهقة البغلة للشعير ، ثم تزفرُ زفرة لا يبقى أحدٌ إِلا خاف { وَهِيَ تَفُورُ } أي وهي تغلي بهم كما يغلي المرجل - القدر - من شدة الغضب ومن شدة اللهب قال مجاهد : تفور بهم كما يفور الحبُّ القليل في الماء الكثير { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } أي تكاد جهنم تتقطع وينفصل بعضها من بعض ، من شدة غيظها وحنقها على أعداء الله { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } أي كلما طرح فيها جماعةٌ من الكفرة { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ } أي سألتهم الملائكة الموكلون على جهنم - وهم الزبانية - سؤال توبيخ وتقريع { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } أي ألم يأتكم رسولٌ ينذركم ويخوفكم من هذا اليوم الرهيب ؟ قال المفسرون : وهذا السؤال زيادة لهم في الإِيلام ، ليزدادوا حسرةً فوق حسرتهم ، وعذاباً فوق عذابهم { قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } أي أجابوا نعم لقد جاءنا رسول منذر ، وتلا علينا آيات الله ، ولكننا كذبناه وأنكرنا رسالته { وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } أي وقلنا إِمعاناً في التكذيب وتمادياً في النكير : ما أنزل الله شيئاً من الوحي على أحدٍ قال الرازي : هذا اعترافٌ منهم بعدل الله ، وإِقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل الكرام ، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا ما نزَّل الله من شيء { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } هذا من تتمة كلام الكفار أي ما أنتم يا معشر الرسل إِلا في بعدٍ عن الحق ، وضلال واضح عميق { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ } أي وقال الكفار : لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو كنا نسمع سماع طالب للحق ، ملتمسٍ للهدى { مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي ما كنا نستوجب الخلود في جهنم { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ } أي فأقروا بإِجرامهم وتكذيبهم للرسل { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي فبعداً وهلاكاً لأهل النار قال ابن كثير : عادوا على أنفسهم بالملامة ، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة ، والجملة دعائية أي أبعدهم الله من رحمته وسحقهم سحقاً . . ثم لما ذكر حال الأشقياء الكفار أتبعه بذكر حال السعداء الأبرار فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ } أي يخافون ربهم ولم يروه ، ويكفُّون عن المعاصي طلباً لمرضاة الله { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي لهم عند الله مغفرةٌ عظيمة لذنوبهم ، وثواب جزيل لا يعلم قدره غير الله تعالى { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } الخطاب لجميع الخلق أي أخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه وأظهروه ، فسواءٌ أخفيتموه أو أظهرتموه فإِنَّ الله يعلمه { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي لأنه تعالى العالم بالخفايا والنوايا ، يعلم ما يخطر في القلوب ، وما توسوس به الصدور قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوا ، فقال بعضهم لبعض : أسرُّوا قولكم حتى لا يسمع إِله محمد ، فأخبره الله أنه لا تخفى عليه خافية { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } ؟ أي ألا يعلم الخالق مخلوقاته ؟ كيف لا يعلم من خلق الأشياء وأوجدها سرَّ المخلوق وجهره ؟ { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } أي والحال أنه اللطيف بالعباد ، الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها ، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء ، فلا تتحرك ذرة ، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ إِلا وعنده خبرها . . ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته ، وآثار فضله وامتنانه على العباد فقال { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينةً سهلة المسالك { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها وأطرافها قال ابن كثير : أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وتردّدوا في أقاليمها وأرجائها للمكاسب والتجارات { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } أي وانتفعوا بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق قال الألوسي : كثيراً ما يُعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم ، وفي الآية دليل على ندب التسبب والكسب ، وهو لا ينافي التوكل ، فقد مرَّ عمر رضي الله عنه بقومٍ فقال : من أنتم ؟ فقالوا : المتوكلون فقال : بل أنتم المتواكلون ، إِنما المتوكل رجلٌ ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل { وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } أي وإِليه تعالى المرجع بعد الموت والفناء ، للحساب والجزاء … ثم توعّد تعالى كفار مكة المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ } أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العليَّ الكبير أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها ، بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها ؟ { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي فإِذا بها تضطرب وتهتز بكم هزاً شديداً عنيفاً قال الرازي : والمراد أنَّ الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون ، والأرضُ فوقهم تمور فتلقيهم إِلى أسفل سافلين { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } أي أم أمنتم الله العليَّ الكبير أن يرسل عليكم حجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل ؟ { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي فستعلمون عند معاينة العذاب ، كيف يكون إِنذاري وعقابي للمكذبين ! ! وفيه وعيد وتهديدٌ شديد ، وأصلها { نذيري } و { نكيري } حذفت الياء مراعاةً لرءوس الآيات { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي ولقد كذب كفار الأمم السابقة رسلهم ، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وأمثالهم ، وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد لقومه المشركين { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي فكيف كان إِنكاري عليهم بنزول العذاب ؟ ألم يكن في غاية الهول والفظاعة ؟ ثم لما حذَّرهم ما عسى أن يحل بهم من الخسف وإِرسال الحاصب ، نبَّههم على الاعتبار بالطير ، وما أحكم الله من خلقها ، وعن عجز آلهتهم المزعومة عن خلق شيءٍ من ذلك فقال { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } أي أولم ينظروا نظر اعتبار الى الطيور فوقهم ، باسطاتٍ أجنحتهن في الجو عند طيرانها وتحليقها ، { وَيَقْبِضْنَ } أي ويضممنها إِذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت ؟ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين فكأنه هو الثابت عبَّر عنه بالإِسم { صَافَّاتٍ } وكان القبض متجدداً عبَّر عنه بالفعل { وَيَقْبِضْنَ } قال في التسهيل : فإِن قيل : لِمَ لم يقل " قابضات " على طريقة { صَافَّاتٍ } ؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران ، كما أن مدَّ الأطراف هو الأصل في السباحة ، فذكره بصيغة اسم الفاعل { صَافَّاتٍ } لدوامه وكثرته ، وأما قبضُ الجناحين فإِنما يفعله الطائر قليلاً للاستراحة والاستعانة ، فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض ، إِلا الخالق الرحمن الذي وسعت رحمته كل ما في الأكوان قال الرازي : وذلك أنها مع ثقلها وضخامة أجسامها ، لم يكن بقاؤها في جو الهواء إِلا بإِمساك الله وحفظه ، وإِلهامها الى كيفية البسط والقبض المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } أي يعلم كيف يخلق ، وكيف يبدع العجائب ، بمقتضى علمه وحكمته . . ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم لما لا ينفع ولا يسمع فقال { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } ؟ أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم عذاب الله من الأنصار والأعوان ؟ ! قال ابن عباس : أي من ينصركم مني إِن أردتُ عذابكم ؟ { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } أي ما الكافرون في اعتقادهم أن آلهتهم تنفع أو تضرُّ إِلا في جهل عظيم ، وضلال مبين ، حيث ظنوا الأوهام حقائق ، فاعتزوا بالأوثان والأصنام { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ؟ أي من هذا الذي يرزقكم غير الله إِن منع الله عنكم رزقه ؟ والخطاب في الآيتين للكفار على وجه التوبيخ والتهديد ، وإِقامة الحجة عليهم { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } أي بل تمادوا في الطغيان ، وأصرّوا على العصيان ، ونفروا عن الحق والإِيمان … ثم ضرب تعالى مثلاً للكافر والمؤمن فقال : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؟ أي هل من يمشي منكساً رأسه ، لا يرى طريقه فهو يخبط خبط عشواءً ، مثل الأعمى الذي يتعثر كل ساعة فيخرّ لوجهه ، هل هذا أهدى أم من يمشي منتصب القامة ، يرى طريقه ولا يتعثر في خطواته ، لأنه يسير على طريق بيّن واضح ؟ قال المفسرون : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر كالأعمى الماشي على غير هدى وبصيرة ، لا يهتدي الى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه ، والمؤمن كالرجل السويّ الصحيح البصر ، الماشي على الطريق المستقيم فهو آمن من الخبط والعثار ، هذا مثلهما في الدنيا ، وكذلك يكون حالهما في الآخرة ، المؤمن يحشر يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم ، والكافر يحشر يمشي على وجهه إِلى دركات الجحيم قال قتادة : الكافر أكبَّ على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه ، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله على الطريق السويّ يوم القيامة وقال ابن عباس : هو مثلٌ لمن سلك طريق الضلالة ولمن سلك طريق الهدى . . ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة ، ليعرفوا قبح ما هم عليه من الكفر والإِشراك فقال { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } أي قل لهم يا محمد : الله جل وعلا هو الذي أوجدكم من العدم ، وأنعم عليكم بهذه النعم " السمع والبصر والعقل " وخصَّ هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي قلَّما تشكرون ربكم على نعمه التي لا تُحصى قال الطبري : أي قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي خلقكم وكثَّركم في الأرض { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي وإِليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدوننا به ؟ إِن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من مجيء الساعة والحشر ، وهذا استهزاء منهم { قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ } أي قل لهم يا محمد : علم وقت قيام الساعة ووقت العذاب عند الله تعالى لا يعلمه غيره { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي وما أنا إِلا رسولٌ منذر أخوفكم عذاب الله امتثالاً لأمره … ثم أخبر تعالى عن حال المشركين في ذلك اليوم العصيب فقال { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } أي فلما رأوا العذاب قريباً منهم ، وعاينوا أهوال القيامة { سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي ظهرت على وجوههم آثار الاستياء ، فعلتها الكآبة والغم والحزن ، وغشيها الذل والانكسار ، قال في البحر : أي ساءت رؤية العذاب وجوههم ، وظهر فيها السوء والكآبة ، كمن يساق الى القتل { وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } أي وقالت لهم الملائكة توبيخاً وتبكيتاً : هذا الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاءً وتكذيباً { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتمنون هلاكك : أخبروني إِن أماتني الله ومن معي من المؤمنين ، أو رحمنا بتأخير آجالنا { فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي فمن يحميكم من عذاب الله الأليم ، ووضع لفظ { ٱلْكَافِرِينَ } عوضاً عن الضمير " يجيركم " تشنيعاً وتسجيلاً عليهم بالكفر قال المفسرون : كان الكفار يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فأمره الله أن يقول لهم : إِن أهلكني الله بالإِماتة وأهلك من معي ، فأي راحةٍ وأي منفعة لكم فيه ، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إِذا نزل بكم ؟ هل تظنون أن الأصنام تخلصكم وتنقذكم من العذاب الأليم ؟ { قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } أي قل لهم : آمنا بالله الواحد الأحد ، وعليه اعتمدنا في جميع أمورنا ، لا على الأموال والرجال { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي فسوف تعلمون عن قريب من هو في الضلالة نحن أم أنتم ؟ وفيه تهديد للمشركين { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } أي قل لهم يا محمد : أخبروني إِذا صار الماء غائراً ذاهباً في أعماق الأرض ، بحيث لا تستطيعون إِخراجه { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } أي فمن الذي يخرجه لكم حتى يكون ظاهراً جارياً على وجه الأرض ؟ هل يأتيكم غير الله به ؟ فلم تشركون مع الخالق الرازق غيره من الأصنام والأوثان ؟ البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { ٱلْمَوْتَ . . وَٱلْحَيَاةَ } وبين { وَأَسِرُّواْ أَوِ ٱجْهَرُواْ } وبين { صَافَّاتٍ … وَيَقْبِضْنَ } لأن المعنى صافات وقابضات . 2 - وضع الموصول للتفخيم والتعظيم { ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } أي له الملك السلطان ، والتصرف في الأكوان . 3 - الإِطناب بتكرار الجملة مرتين زيادة في التذكير والتنبيه { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ … ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } وكذلك { مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ … فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } . 4 - الاستفهام الإِنكاري للتقريع والتوبيخ { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ؟ 5 - المقابلة { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } قابله بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } وهو من المحسنات البديعية . 6 - الاستعارة المكنية { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } شبَّه جهنم في شدة غليانها ولهبها بإِنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه يكاد يتقطع من شدة الغيظ ، وحذف المشبه به ورمز إِليه بشيء من لوازمه وهو الغيظ الشديد بطريق الاستعارة المكنية . 7 - الاستعارة التمثيلية { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هذا بطريق التمثيل للمؤمن والكافر ، فالمؤمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، والكافر يمشي مكباً على وجهه إِلى طريق الجحيم ، ويا لها من استعارة رائعة ! ! 8 - السجع المرصَّع مراعاة لرءوس الآيات مثل { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } ؟ { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } ومثل { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } الخ .