Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 1-52)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { يَسْطُرُونَ } يكتبون ، سَطَر العلمَ كتبه بالقلم { مَمْنُونٍ } مقطوع يقال : مننتُ الحبل إذا قطعته { عُتُلٍّ } العُتل : الغليظ الجافي ، السريع إلى الشر ، مأخوذ من العَتل وهو الجر { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ } [ الدخان : 47 ] قال في الصحاح : عَتلت الرجل إذا جذبته جذباً عنيفاً { زَنِيمٍ } الزنيمُ : الملصق بالقوم وليس منهم ، وهو الدعيُّ الذي لا يعرف أبوه قال الشاعر : @ زنيمٌ ليس يُعرف من أبوه بغيُّ الأم ذو حَسبٍ لئيم @@ { صَارِمِينَ } صرم الشيء قطعه ، وصرم النخلة قطع ثمرها { حَرْدٍ } قصد وعزم { زَعِيمٌ } كفيل وضمين { مَكْظُومٌ } مملوءٌ غيظاً وغماً . التفسِير : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } نون حرف من الحروف المقطعة ، ذكر للتنبيه على إِعجاز القرآن … أقسم تعالى بالقلم الذي يكتب الناس به العلوم والمعارف ، فإِن القلم أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده والمعنى : أُقسم بالقلم وما يكتبه الكاتبون على صدق محمد وسلامته مما نسبه إِليه المجرمون من السفه والجنون ، وفي القسم بالقلم والكتابة إِشادة بفضل الكتابة والقراءة ، فالإِنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله بمعرفة الكتابة ليفصح عما في ضميره { ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 4 - 5 ] وحسبك دليلاً على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيداً لشأن الكاتبين ، ورفعاً من قدر أهل العلم ، ففي القلم البيان كما في اللسان ، وبه قوام العلوم والمعارف قال ابن كثير : والظاهر من قوله تعالى { وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } أنه جنس القلم الذي يكتب به ، وهو قسم منه تعالى لتنبيه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أي لست يا محمد بفضل الله وإنعامه عليك بالنبوة بمجنون ، كما يقول الجهلة المجرمون ، فأنت بحمد الله عاقل لا كما قالوا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] قال ابن عطية : هذا جواب القسم ، وقوله { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } اعتراض كما تقول للإِنسان : أنت - بحمد الله - فاضل { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي وإنّ لك لثوابا على ما تحملت من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله غير مقطوع ولا منقوص { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي وإِنك يا محمد لعلى أدب رفيع جم ، وخلق فاضل كريم ، فقد جمع الله فيك الفضائل والكمالات … يا له من شرف عظيم ، لم يدرك شأوه بشر ، فرب العزة جل وعلا يصف محمداً بهذا الوصف الجليل { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } وقد كان من خلقه صلى الله عليه وسلم العلم والحلم ، وشد الحياء ، وكثرة العبادة والسخاء ، والصبر والشكر ، والتواضع والزهد ، والرحمة والشفقة ، وحسن المعاشرة والأدب ، إلى غير ذلك من الخلال العلية ، والأخلاق المرضية ولقد أحسن القائل : @ إذا الله أثنى بالذي هو أهله عليك فما مقدار ما تمدح الورى ؟ @@ { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } أي فسوف ترى يا محمد ، ويرى قومك ومخالفوك - كفار مكة - إذا نزل بهم العذاب { بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } أي أيكم الذي فتن بالجنون ؟ هل أنت كما يفترون ، أم هم بكفرهم وانصرافهم على الهدى ؟ قال القرطبي : والمفتون : المجنون الذي فتنه الشيطان ، ومعظم السورة نزل في " الوليد بن المغيرة " و " أبي جهل " وقد كان المشركون يقولون : إن بمحمد شيطاناً ، وعنوا بالمجنون هذا ، فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم المجنون أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي هو سبحانه العالم بالشقي المنحرف عن دين الله وطريق الهدى { وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } أي وهو العالم بالتقي المهتدي إِلى الدين الحق ، وهو تعليل لما قبله وتأكيد للوعد والوعيد كأنه يقول : إنهم هم المجانين على الحقيقة لا أنت ، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها ، ولا استعملوها فيما ينجيهم ويسعدهم { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } أي فلا تطع رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا برسالتك وبالقرآن ، فيما يدعونك إليه قال الرازي : دعاه رؤساء أهل مكة إلى دين آبائه ، فنهاه الله أن يطيعهم ، وهذا من الله إلهاب وتهييج للتشدد في مخالفتهم { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } أي تمنوا لو تلين لهم يا محمد ، وتترك بعض ما لا يرضونه مصانعة لهم ، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك في التسهيل : المداهنة : هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي ، روي أن الكفار قالوا النبي صلى الله عليه وسلم : لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت الآية { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ } أي ولا تطع يا محمد كثير الحلف بالحق والباطل ، الذي يكثر من الحلف مستهيناً بعظمة الله { مَّهِينٍ } أي فاجر حقير { هَمَّازٍ } أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب { مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } أي يمشي بالنميمة بين الناس ، وينقل حديثهم ليوقع بينهم وهو الفتان ، وفي الحديث الصحيح " لا يدخل الجنة نمام " { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي بخيل ممسك عن الإِنفاق في سبيل الله { مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي ظالم متجاوز في الظلم والعدوان ، كثير الآثام والإِجرام ، وجاءت الأوصاف { حلاف ، هماز ، مشاء ، مناع } بصيغة المبالغة للدلالة على الكثرة { عُتُلٍّ } أي جاف غليظ ، قاسي القلب عديم الفهم { بَعْدَ ذَلِكَ } أي بعد تلك الأوصاف الذميمة التي تقدمت { زَنِيمٍ } أي ابن زنا ، وهذه أشد معايبه وأقبحُها ، أنه لصيق دعي ليس له نسب صحيح قال المفسرون : نزلت في " الوليد بن المغيرة " فقد كان دعياً في قريش وليس منهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة - أي تبناه ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب - قال ابن عباس : لا نعلم أحداً وصفه الله بهذه العيوب غير هذا ، فألحق به عاراً لا يفارقه أبداً ، وإِنما ذُمَّ بذلك لأن النطفة إِذا خبثت خبث الولد ، وروي أن الآية لما نزلت جاء الوليد إِلى أمه فقال لها : إن محمداً وصفني بتسع صفات ، كلها ظاهرة فيَّ اعرفها غير التاسع منها يريد أنه { زَنِيمٍ } فإن لم تصدقيني ضربت عنقك بالسيف ، فقالت له : إن أباك كان عنيناً - أي لا يستطيع معاشرة النساء - فخفت على المال فمكنت راعياً من نفسي فأنت ابن ذلك الراعي ، فلم يعرف أنه ابن زنا حتى نزلت الآية { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } أي لأن كان ذا مال وبنين قال في القرآن ما قال ، وزعم أنه أساطير الأولين ؟ وكان ينبغي أن يقابل النعمة بالشكر لا بالجحود والتكذيب { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي إذا قرئت آيات القرآن على ذلك الفاجر قال مستهزئاً ساخراً : إنها خرافات وأباطيل المتقدمين اختلقها محمد ونسبها إِلى الله ، قال تعالى رداً عليه متوعداً له بالعذاب { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } أي سنجعل له علامة على أنفه بالخطم عليه يعرف بها إِلى موته ، وكنى بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به ، لأن الخرطوم للفيل والخنزير ، فإِذا شبه أنف الإِنسان به كان ذلك غاية في الإِذلال والإِهانة كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر ، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر ، قال ابن عباس : سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش ، وقد خطم يوم بدر بالسيف قال الإِمام الفخر : لما كان الوجه أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنفَة ، وقالوا في الذليل : رغم أنفه ، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإِذلال والإِهانة ، لأن السمة على الوجه شين ، فكيف على أكرم موضع من الوجه ! ! ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحديقة وما ابتلاهم تعالى به من إتلاف الزروع والثمار وضربه مثلاً لكفار مكة فقال { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } أي إنا اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه ، وكلفنا أهل مكة أن يشكروا ربهم على النعم ، كما كلفنا أصحاب الجنة أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم قال المفسرون : كان لرجل مسلم بقرب صنعاء بستان فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار ، وكان إذا حان وقت الحصاد دعا الفقراء فأعطاهم نصيباً وافراً منه وأكرمهم غاية الإِكرام فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة فقالوا : عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا ، فتشاوروا فيما بينهم وعزموا على ألا يعطوا أحداً من الفقراء شيئاً ، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفية عنهم ، وحلفوا على ذلك ، فأرسل الله تعالى ناراً على الحديقة ليلاً أحرقت الأشجار وأتلفت الثمار ، فلما أصبحوا ذهبوا إِلى حديقتهم فلم يروا فيها شجراً ولا ثمراً ، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق ، ثم تبين لهم أنها بستانهم وحديقتهم وعرفوا أن الله تعالى عاقبهم فيها بنيتهم السيئة ، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح ، قبل أن يخرج اليهم المساكين { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } أي ولم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا ، كأنهم واثقون من الأمر { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } أي فطرقها طارق من عذاب الله ، وهم في غفلة عما حدث لأنهم كانوا نياماً ، قال الكلبي : أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } أي فأصبحت كالزرع المحصود إِذا أصبح هشيماً يابساً قال ابن عباس : أصبحت كالرماد الأسود ، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } أي نادى بعضهم بعضاً حين أصبحوا ليمضوا على الميعاد إِلى بستانهم { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } أي اذهبوا مبكرين إلى ثماركم وزروعكم وأعنابكم إن كنتم حاصدين للثمار تريدون قطعها { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أي فانطلقوا نحو البستان وهم يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين قائلين { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } أي لا تدخلوا في هذا اليوم أحداً من الفقراء إلى البستان ولا تمكنوه من الدخول { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } أي ومضوا على قصد وقدرة في أنفسهم يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم قال ابن عباس : { عَلَىٰ حَرْدٍ } على قدرة وقصد وقال السدي : على حنق وغضب وقال الحسن : على فاقة وحاجة ، وقول ابن عباس أظهر { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ } أي فلما رأوا حديقتهم سوداء محترقة ، قد استحالت من النضارة والبهجة إلى السواد والظلمة ، قالوا لقد ضللنا الطريق إليها وليست هذه حديقتنا قال أبو حيان : كان قولهم ذلك في أول وصولهم إليها ، أنكروا أنها هي واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق ، ثم وضح لهم أنها هي وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها فقالوا عند ذلك { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي لسنا مخطئين للطريق بل نحن محرومون ، حرمنا ثمرها وخيرها بجنايتنا على أنفسنا { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } ؟ أي قال أعقلهم وأفضلهم رأياً : هلا تسبحون الله فتقولون " سبحان الله " أو " إن شاء الله " قال في البحر : نبههم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من التسبيح ، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين ، واقتفوا سنة أبيهم في ذلك ، فلما غفلوا عن ذكر الله وعزموا على منع المساكين ابتلاهم الله وقال الرازي : إن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم ، قال الأوسط لهم توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب ، فلما رأوا حالة البستان ذكرهم بالكلام الأول ، فاشتغلوا بالتوبة ولكن بعد خراب البصرة { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي فقالوا حينئذٍ : تنزه الله ربنا عن الظلم فيما فعل ، بل نحن كنا الظالمين لأنفسنا في منعنا حق المساكين { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } أي يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول ذاك : بل أنت ، ويقول آخر : أنت الذي خوفتنا الفقر ورغبتنا في جمع المال ، فهذا هو التلاوم { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي قالوا يا هلاكنا وتعاستنا إن لم يغفر لنا ربنا ، فقد كنا عاصين وباغين في منعنا الفقراء ، وعدم التوكل على الله ، فقال الرازي : والمراد أنهم استعظموا جرمهم { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ } أي لعل الله يعطينا أفضل منها بسبب توبتنا واعترافنا بخطيئتنا { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } أي فنحن راجون لعفوه ، طالبون لإِحسانه وفضله . . ساق تعالى هذه القصة ليعلمنا أن مصير البخيل ومانع الزكاة إِلى التلف ، وأنه يضن ببعض ماله في سبيل الله فيهلك كل ماله مصحوباً بغضب الله ، ولذلك عقب تعالى بعد ذكر هذه القصة بقوله { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي مثل هذا العذاب الذي نزل بأهل الجننة ينزل بقريش ، ولعذاب الآخرة أعظم وأشد من عذاب الدنيا لو كان عندهم فهم وعلم ، قال ابن عباس : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إِلى بدر ، وحلفوا ألا يرجعوا إلى مكة حتى يقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويشربوا الخمور ، وتضرب القينات - المغنيات - على رءوسهم ، فأخلف الله ظنهم ، فقتلوا وأُسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا … ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين المتقين بعد أن ذكر حال المجرمين من كفار مكة فقال { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } أي إن للمتقين في الآخرة حدائق وبساتين ليس فيها إلا النعيم الخالص ، الذي لا يشوبه كدر ولا منغص كما هو حال الدنيا { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } ؟ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أفنساوي بين المطيع والعاصي ، والمحسن والمجرم ؟ { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؟ تعجب منهم حيث أنهم يسوُّون المطيع بالعاصي ، والمؤمن بالكافر ، فإن مثل هذا لا يصدر عن عاقل { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } ؟ أي هل عندكم كتاب منزل من السماء تقرءون وتدرسون فيه { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } هذه الجملة مفعول لتدرسون أي تدرسون في هذا الكتاب أن لكم ما تشتهون وتطلبون ؟ وهذا توبيخ آخر للمشركين فيما كانوا يزعمونه من الباطل حيث قالوا : إن كان ثمة بعث وجزاء ، فسنعطى خيراً من المؤمنين كما أعطينا في الدنيا قال الطبري : وهذا توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل ، ويتمنون من الأماني الكاذبة { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي هل لكم عهود ومواثيق مؤكدة من جهتنا ثابتة إلى يوم القيامة ؟ { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } هذا جوابه أي إن لكم الذي تريدونه وتحكمون به ؟ قال ابن كثير : المعنى أمعكم عهود ومواثيق مؤكدة أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } أي سل يا محمد هؤلاء المكابرين أيهم كفيل وضامن بهذا الذي يزعمون ؟ وفيه نوع من السخرية والتهكم بهم ، حيث يحكمون بأمور خارجة عن العقول ، يرفضها المنطق وتأباها العدالة { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أي أم لهم شركاء وأرباب يكفلون لهم بذلك ، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم قال في التسهيل : وهذا تعجيز للكفار والمراد إن كان لكم شركاء يقدرون على شيء ، فأتوا بهم وأحضروهم حتى نرى حالهم . . ولما أبطل مزاعمهم وسفه أحلامهم ، شرع في بيان أهوال الآخرة وشدائدها فقال { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } أي اذكر يا محمد لقومك ذلك اليوم العصيب الذي يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة ، قال ابن عباس : هو يوم القيامة يوم كرب وشدة قال القرطبي : والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عنها موضع الشدة كقول الراجز : @ قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدَّت الحرب بكم فجدوا @@ { وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } أي ويدعى الكفار للسجود لرب العالمين فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح طبقاً واحداً ، وفي الحديث " يسجد لله كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً " { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أي ذليلة متواضعة أبصارهم لا يستطيعون رفعها { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي تغشاهم وتلحقهم الذلة والهوان { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } أي والحال أنهم كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود وهم أصحاء الجسم معافون فيأبون قال الإِمام الفخر : لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً ، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا ، ثم إنه تعالى يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه ، حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمو الأطراف والمفاصل { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } أي اتركني يا محمد ومن يكذب بهذا القرآن لأكفيك شره وأنتقم لك منه ! ! وهذا منتهى الوعيد { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي سنأخذهم بطريق الاستدراج بالنعم ، إلى الهلاك والدمار ، من حيث لا يشعرون قال الحسن : كم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه قال الرازي : الاستدراج أن يستنزله إليه درجة درجة حتى يورطه فيه ، فكلما أذنبوا ذنباً جدَّد الله لهم نعمة وأنساهم الاستغفار ، فالاستدراج إنما حصل لهم من الإِنعام عليهم ، لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين ، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم { وَأُمْلِي لَهُمْ } أي أُمهلهم وأُطيل في اعمارهم ليزدادوا إثماً { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي إن انتقامي من الكافرين قوي شديد وفي الحديث " إن الله ليملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } وإنما سمى إِحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد ، فما وقع لهم من سعة الأرزاق ، وطول الأعمار ، وعافية الأبدان ، إحسانٌ في الظاهر ، وبلاء في الباطن ، لأن المقصود معاقبتهم وتعذيبهم به { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي أتسألهم يا محمد غرامة مالية على تبليغ الرسالة ، فهم معرضون عن الإِيمان بسبب ذلك التكليف الثقيل ببذلهم المال ؟ والغرض توبيخهم في عدم الإِيمان فإن الرسول لا يطلب منهم شيئاً من الأجر قال الخازن : المعنى أتطلب منهم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم عن الإِيمان { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي أم هل عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب ، فهم ينقلون منه أنهم خير من أهل الإِيمان ، فلذلك أصروا على الكفر والطغيان ؟ وهو استفهام على سبيل الإِنكار والتوبيخ { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي فاصبر يا محمد على أذاهم ، وامض لما أُمرت به من تبليغ رسالة ربك { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } أي ولا تكن في الضجر والعجلة ، كيونس بن متى عليه السلام ، لما غضب على قومه لأنهم لم يؤمنوا فتركهم وركب البحر ثم التقمه الحوت ، وكان من أمره ما كان { إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي حين دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غماً وغيظاً بقوله { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي لولا أن تداركته رحمة الله { لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } أي لطرح في الفضاء الواسع الخالي من الأشجار والجبال ، وهو ملام على ما ارتكب ، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموماً { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك ، من قولهم نظر إلي نظراً كاد يصرعني قال ابن كثير : وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل ، ويؤيده حديث " لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين " { لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أي حين سمعوك تقرأ القرآن ، ويقولون من شدة بغضهم وحسدهم لك ، إن محمداً مجنون ، قال تعالى رداً عليهم { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإِنس والجن ، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون ؟ ! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن ، كما بدأها ببيان عظمة الرسول ، ليتناسق البدء مع الختام في أروع بيان وأجمل ختام . البَلاَغَة : تمضنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي : 1 - الجناس الناقص بين لفظي { مَجْنُونٍ } و { مَمْنُونٍ } لاختلاف الحرف الثاني . 2 - الوعيد والتهديد { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } وحذف المفعول للتهويل . 3 - صيغ المبالغة في { حَلاَّفٍ } ، { هَمَّازٍ } ، { مَّشَّآءٍ } ، { مَّنَّاعٍ } وكذلك في { أَثِيمٍ … وزَنِيمٍ } . 4 - الاستعارة الفائقة { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } استعار الخرطوم للأنف لأن أصل الخرطوم للفيل ، واستعارته لأنف الإِنسان تجعله في غاية الإِبداع لأن الغرض الاستهانة به والاستخفاف . 5 - الطباق بين { ٱلْمُسْلِمِينَ وٱلْمُجْرِمِينَ } وبين { ضَلَّ … وٱلْمُهْتَدِينَ } وهو من المحسنات البديعية . 6 - جناس الاشتقاق { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } . 7 - التقريع والتوبيخ { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } ؟ والجمل التي بعدها . 8 - التشبيه المقلوب بجعل المشبه به مشبهاً والعكس { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } ؟ لأن الأصل أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والمثوبة ؟ فقلب التشبيه ليكون أبلغ وأروع . 9 - الكناية الرائقة الفائقة { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } كناية عن شدة الهول ، وتفاقم الخطب يوم القيامة . 10 - السجع المرصع المحبوك ، كأنه الدر المنظوم إقرأ الآيات الكريمة { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } الخ وتدبر روعة القرآن ! !