Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 1-52)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱلْحَاقَّةُ } القيامة سيمت حاقة لأنها حقٌّ مقطوع بوقوعها { صَرْصَرٍ } شديدة الصوت والبرد { حُسُوماً } متتابعة لا تنقطع من الحسم وهو القطع قال الشاعر : @ " فدارت عليهم فكانت حُسوماً " @@ { رَّابِيَةً } زائدة في الشِّدة والعذاب { وَاهِيَةٌ } ساقطة القوة ، ضعيفة متراخية من قولهم : وهي البناء اذا ضعف وتداعى للسقوط { هَآؤُمُ } اسم فعل أمر بمعنى خذوا { قُطُوفُهَا } جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمر ويقطف { غِسْلِينٍ } صديد أهل النار قال الكلبي : هو ما يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو { غِسْلِينٍ } فعلين من الغسل { ٱلْوَتِينَ } عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه ويسمى الأبهر وفي الحديث " ما زالت أكلةُ خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " { حَسْرَةٌ } ندامة عظيمة . التفسِير : { ٱلْحَاقَّةُ } اسم للقيامة سميت بذلك لتحقق وقوعها ، فهي حقٌ قاطع ، وأمر واقع ، لا شك فيه ولا جدال { مَا ٱلْحَآقَّةُ } ؟ التكرار لتفخيم شأنها ، وتعظيم أمرها ، وكان الأصل أن يقال : ما هي ؟ ولكنه وضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التعظيم والتهويل { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } ؟ وما أعلمك يا محمد ما هي القيامة ؟ إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ، ولم تر ما فيها من الأهوال ، فإِنها من العظم والشدة بحيث لا يحيط بها وصف ولا خيال ، وهذا على طريقة العرب فإنهم إِذا أرادوا تشويق المخاطب لأمرٍ أتوا بصيغة الاستفهام يقولون : أتدري ماذا حدث ؟ والآية من هذا القبيل زيادة في التعظيم والتهويل كأنه قال : إِنها شيء مريع وخطب فظيع … ثم بعد أن عظَّم أمرها وفخَم شأنها ، ذكر من كذَّب بها وما حلَّ بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لكفار مكة وتخويفاً لهم فقال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } أي كذب قوم صالح ، وقوم هود بالقيامة ، التي تقرع القلوب بأهوالها { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } أي فأمَّا ثمود - قوم صالح - فأُهلكوا بالصيحة المدمرة ، التي جاوزت الحدَّ في الشدة قال قتادة : هي الصيحة التي خرجت عن حدِّ كل صيحة { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } أي وأما - قوم هود - فأُهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد وهي الدَّبور وفي الحديث " نصرتُ بالصبا ، وأُهلكت عادٌ بالدَّبور " { عَاتِيَةٍ } أي متجاوزة الحدَّ في الهبوب والبرودة ، كأنها عتت على خزانها فلم يتمكنوا من ضبطها ، قال ابن عباس : ما أرسل الله من ريح قط إِلا بمكيال ، ولا أنزل قطرة قطُّ إِلا بمكيال ، إِلا يوم نوحِ ويوم عاد ، فإِن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } وإِن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } أي سلطها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام متتابعة لا تفتر ولا تنقطع { فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ } أي فترى أيها المخاطب القوم في منازلهم موتى ، لا حراك بهم { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } أي كأنهم أصول نخلٍ متآكلة الأجواف قال المفسرون : كانت الريح تقطع رؤوسهم كما تقطع رءوس النخل ، وتدخل من أفواههم وتخرج من أدبارهم حتى تصرعهم ، فيصبحوا كالنخلة الخاوية الجوف { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } ؟ أي فهل ترى أحداً من بقاياهم ؟ أو تجد لهم أثراً ؟ لقد هلكوا عن آخرهم كقوله تعالى { فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } أي وجاء فرعون الجبار ، ومن تقدَّمه من الأمم الطاغية التي كفرت برسلها { وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ } أي والأمم الذين انقلبت بهم ديارهم - قرى قوم لوط - حيث جعل الله عاليها سافلها قال الصاوي : { ٱلْمُؤْتَفِكَاتُ } أي المنقلبات وهي قرى قوم لوط ، التي اقتلعها جبريل ورفعها على جناحه قرب السماء ثم قلبها ، وكانت خمس قرى { بِالْخَاطِئَةِ } أي بالفعلة الخاطئة المنكرة ، وهي الكفر والعصيان { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } أي فعصى فرعون رسول الله موسى ، وعصى قوم لوطٍ رسولهم لوطاً { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } أي فأخذهم الله أخذةً زائدةً في الشدة ، على عقوبات من سبقهم ، كما أن جرائمهم زادت في القبح والشناعة على سائر الكفار { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } أي لما تجاوز الماء حدَّه حتى علا كل شيء وارتفع فوقه حملناكم في السفينة { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } أي لنجعل تلك الحادثة عظةً للناس وعبرة ، تدل على انتقام الله ممن كذَّب رسله { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي وتحفظها وتذكرها أذن واعية للمواعظ ، تنتفع بما تسمع قال القرطبي : والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حلَّ بهم من العذاب ، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ختم الآية بقوله { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } قال قتادة : الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عزّ وجّل . . ولما ذكر قصص المكذبين ، أتبعه بذكر أهوال القيامة وشدائدها فقال { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } أي فإِذا نفخ إِسرافيل في الصور نفخةً واحدة لخراب العالم قال ابن عباس : هي النفخة الأولى التي يحصل عنها خراب الدنيا { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } أي ورفعت الأرض والجبال عن أماكنها ، فضرب بعضها ببعضٍ حتى تندق وتتفتَّت وتصير كثيباً مهيلاً { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } أي ففي ذلك الحين قامت القيامة الكبرى ، وحدثت الداهية العظمى { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } أي وانصدعت السماء فهي يومئذٍ ضعيفة مسترخية ، ليس فيها تماسك ولا صلابة { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } أي والملائكة على أطرافها وجوانبها قال المفسرون : وذلك لأن السماء مسكن الملائكة ، فاذا انشقت السماء وقفوا على أطرافها فزعاً مما داخلهم من هول ذلك اليوم ، ومن عظمة ذي الجلال ، الكبير المتعال { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أي ويحمل عرش الرحمن ثمانية من الملائكة العظام فوق رءوسهم وقال ابن عباس : ثمانية صفوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إِلا الله { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } أي في ذلك اليوم الرهيب ، تعرضون على ملك الملوك ذي الجلال للحساب والجزاء ، لا يخفى عليه منكم أحدٌ ، ولا يغيب عنه سرٌّ من أسراركم ، لأنه العالم بالظواهر والسرائر والضمائر . . ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم فقال { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } أي فأما من أُعطي كتاب أعماله بيمينه لأنه من السعداء { فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } أي فيقول ابتهاجاً وسروراً : خذوا اقرءوا كتابي ، والهاء في { كِتَابيَهْ } هاء السكت وكذلك في { حِسَابِيَهْ } و { مَالِيَهْ } و { سُلْطَانِيَهْ } قال الرازي : ويدل قوله { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } على أنه بلغ الغاية في السرور ، لأنه لما أُعطي كتابه بيمينه ، علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم ، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أي إِني أيقنت وتحققت بأني سألقى حسابي وجزائي يوم القيامة ، فأعددت له العدة من الإِيمان ، والعمل الصالح قال الحسن : إِن المؤمن أحسن الظنَّ بربه فأحسن العمل ، وإِنَّ المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل وقال الضحاك : كل ظنٍ في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك … قال تعالى مبيناً جزاءه { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي فهو في عيشة هنيئة مرضية ، يرضى بها صاحبها ، لما ورد في الصحيح " أنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ، ويصحون فلا يمرضون أبداً ، وينعمون فلا يرون بؤساً أبداً " { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي في جنةٍ رفيعة القدر ، وقصور عالية شاهقة { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } أي ثمارها قريبة ، يتناولها القائم ، والقاعد ، والمضطجع قال في التسهيل : القطوف جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالعنقود ، روي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها وهو قائم أو قاعد أو مضطجع { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً } أي يقال لهم تفضلاً وإِنعاماً : كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنيئاً ، بعيداً عن كل أذى ، سالماً من كل مكروه { بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية يعني أيام الدنيا … ولما ذكر حال السعداء أعقبه بذكر حال الأشقياء فقال { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } أي وأما من أعطي كتابه بشماله وهذه علامة الشقاوة والخسران { فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } أي فيقول اذا رأى قبائح أعماله : يا ليتني لم أعط كتابي قال المفسرون : وذلك لما يحصل له من الخجل والافتضاح فيتمنى عندئذٍ أنه لم يعط كتاب أعماله ، ويندم أشد الندم { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي ولم أعرف عظم حسابي وشدته ، والاستفهام للتعظيم والتهويل { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } أي يا ليت الموتة الأولى التي متُّها في الدنيا ، كانت القاطعة لحياتي ، فلم أبعث بعدها ولم أُعذب قال قتادة : تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره من الموت ، لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمرَّ ممَّا ذاقه من الموت { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } أي ما نفعني مالي الذي جمعته ولا دفع عني من عذاب الله شيئاً { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أي زال عني ملكي وسلطاني ، ونسبي وجاهي ، فلا معين لي ولا مجير ، ولا صديق ولا نصير { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أي يقول تعالى لزبانية جهنم : خذوا هذا المجرم الأثيم فشدوه بالأغلال قال القرطبي : فيبتدره مائة ألف ملك ، ثم تجمع يده الى عنقه ، فذلك قوله تعالى : { فَغُلُّوهُ } { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي ثم أدخلوه النار العظيمة المتأججة ، ليصلى حرَّها { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } أي ثم أدخلوه في سلسلةٍ حديدية طولها سبعون ذراعاً قال ابن عباس : بذراع الملك ، تدخل السلسلة من دبره ، وتخرج من حلقه ، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه والسلسلة هي حلق منتظمة ، كل حلقة منها في حلقة ، يلف بها حتى لا يستطيع حراكاً . . لمّا بيَّن العذاب الشديد بيَّن سببه فقال { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } أي كان لا يصدق بوحدانية الله وعظمته قال في البحر : بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله ، وهو تعليلٌ مستأنف كأن قائلاً قال : لم يعذِّب هذا العذاب البليغ ؟ فأجيب إِنه كان لا يؤمن بالله { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي ولا يحُثُّ نفسه ولا غيره على إِطعام المسكين قال المفسرون : ذكر الحضَّ دون الفعل للتنبيه على أن تارك الحضّ بهذه المنزلة ، فكيف بتارك الإِحسان والصدقة ؟ { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ } أي فليس له في الآخرة صديق يدفع عنه العذاب ، لأن الأصدقاء يتحاشونه ، ويفرُّون منه { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } أي وليس له طعام إِلا صديد أهل النار ، الذي يسيل من جراحاتهم { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } أي لا يأكله إِلا الآثمون المجرمون المرتكبون للخطايا والآثام قال المفسرون : { ٱلْخَاطِئُونَ } جمع خاطىء وهو الذي يتعمد الذنب ، والمخطىء الذي يفعل الشيء خطأ دون قصد ، ولهذا قال { ٱلْخَاطِئُونَ } ولم يقل المخطئون … ولما ذكر أحوال السعداء من أهل الجنة ، ثم أحوال الأشقياء من أهل النار ، ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } أي فأقسم بالمشاهدات والمغيبات ، أُقسم بما ترونه وما لا ترونه ، مما هو واقعٌ تحت الأبصار ، وما غاب وخفي عن الأنظار ، و { لا } في قوله { فَلاَ أُقْسِمُ } لتأكيد القسم وليست نافية قال الإِمام الفخر : والآية تدل على العموم والشمول ، لأنها لا تخرج عن قسمين : مبصرٍ وغير مبصر ، فشملت الخالق والخلق ، والدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإِنس والجن ، والنعم الظاهرة والباطنة قال قتادة : هو عام في جميع مخلوقاته جلَّ وعلا ، وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي إن هذا القرآن لكلام الرحمن ، يتلوه ويقرأه رسولٌ كريم ، هو محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم قال القرطبي : والرسول هٰهنا محمد صلى الله عليه وسلم ونسب القول إِليه لأنه تاليه ومبلغه عن الله تعالى { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } أي وليس القرآن كلام شاعر كما تزعمون ، لأنه مباين لأوزان الشعر كلها ، فليس شعراً ولا نثراً { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } أي قلَّما تؤمنون بهذا القرآن قال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله ، بمعنى لا يؤمنون به أصلاً ، والعرب تقول : قلَّما يأتينا يريدون لا يأتينا { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ } أي وليس هو بقول كاهنٍ يدعي معرفة الغيب ، لأن القرآن يغاير بأسلوبه سجع الكهان { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أي قلَّما تتذكرون وتتعظون { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي هو تنزيلٌ من ربِّ العزة جل وعلا كقوله تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 192 - 195 ] والغرض من الآية تبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم مما نسبه إِليه المشركون من دعوى السحر والكهانة ، ثم أكَّد ذلك بأعظم برهان على أن القرآن من عند الله فقال { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } أي لو اختلق محمد بعض الأقوال ، ونسب إِلينا ما لم نقله { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } أي لانتقمنا منه بقوتنا وقدرتنا { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } أي ثم لقطعنا نياط قلبه حتى يموت قال القرطبي : والوتينُ عرق يتعلق به القلب ، إِذا انقطع مات صاحبه والغرض أنه تعالى يعاجله بالعقوبة ولا يمهله ، لو نسب إِلى الله شيئاً ولو قليلاً ، فإِن تسمية الأقوال بالأقاويل للتصغير والتحقير { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه ، لو أردنا حينئذٍ عقوبته ، ولا أن يدفع عنه عذابنا قال الخازن : المعنى إِن محمداً لا يتكلم الكذب علينا لأجلكم ، مع علمه أنه لو تكلم لعاقبناه ، ولا يقدر أحدٌ على دفع عقوبتنا عنه { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } أي وإِن هذا القرآن لعظةٌ للمؤمنين المتقين الذين يخشون الله ، وخصَّ المتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } أي ونحن نعلم أن منكم من يكذب بهذا القرآن مع وضوح آياته ، ويزعم أنه أساطير الأولين ، وفي الآية وعيدٌ لمن كذب بالقرآن { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } أي وإِنه لحسرة عليهم في الآخرة ، لأنهم يتأسفون إِذا رأوا ثواب من آمن به { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } أي وإِنه لحقٌ يقينيٌ لا يحوم حوله ريب ، ولا يشك عاقل أنه كلام رب العالمين { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي فنزَّه ربك العظيم عن السوء والنقائص ، واشكره على ما أعطاك من النعم العظيمة ، التي من أعظمها نعمة القرآن . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي : 1 - الإِطناب بتكرار الاسم للتهويل والتعظيم { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ } الخ . 2 - التفصيل بعد الإِجمال زيادة في البيان { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } ثم فصله بقوله { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ * وَأَمَا عَادٌ } الآية وفيه لفٌ ونشر مرتب . 3 - التشبيه المرسل المجمل { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه . 4 - الاستعارة اللطيفة الفائقة { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ } الطغيان من صفات الإِنسان ، فشبه ارتفاع الماء وكثرته ، بطغيان الإِنسان على الإِنسان بطريق الاستعارة . 5 - جناس الاشتقاق مثل { وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } ومثل { لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } . 6 - المقابلة البديعة { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } قابلها بقوله { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ … } الخ وهي من المحسنات البديعية . 7 - طباق السلب { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } . 8 - الكناية { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } لفظ اليمين كناية عن القوة والقدرة . 9 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ومثل { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } ويسمى في علم البديع السجع المرصَّع والله أعلم . تنبيه : روى الحافظ ابن كثير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني الى المسجد فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، قال فقلت في نفسي : هذا والله شاعر كما قالت قريش ، فقرأ { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } فقلت : كاهن ، فقرأ { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } الخ السورة ، قال : فوقع في قلبي الإِسلام كل موقع ، حتى هداني الله تعالى له .