Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 150-170)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى عليه السلام مع بني إِسرائيل ، وما أغدق الله عليهم من النعم ، وما قابلوها به من الجحود والعصيان ، وقد ذكرت الآيات قصة { أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ } [ يس : 13 ] واعتداءهم يوم السبت بالاصطياد فيه وكيف أن الله تعالى مسخهم قردة ، وفي ذلك عبرةٌ للمعتبرين . اللغَة : { أَسِفاً } الأسف : شدة الحزن أو الغضب يقال هو أسِفٌ وأسيف { ٱبْنَ أُمَّ } أصلها ابن أمي وهي استعطاف ولين { تُشْمِتْ } الشماتة : السرور بما يصيب الإِنسان من مكروه وفي الحديث " وأعوذ بك من شماتة الأعداء " { ٱلرَّجْفَةُ } الزلزلة الشديدة { هُدْنَـآ } تبنا يقال : هاد يهودُ إِذا تاب ورجع فهو هائد قال الشاعر : إِني امرؤٌ مما جنيتُ هائد { إِصْرَهُمْ } التكاليف الشاقة وأصل الإِصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحِرَاك { ٱلأَغْلاَلَ } جمع غُل وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد { عَزَّرُوهُ } وقّروه ونصروه { أَسْبَاطاً } جمع سبط وهو ولد الولد أو ولد البنت ثم أطلق على كل قبيلة من بني إِسرائيل { تَأَذَّنَ } آذن من الإِيذان بمعنى الإِعلام { يَسُومُهُمْ } يذيقهم { خَلَفَ } بسكون اللام من يخلف غيره بالسوء والشر وأمّا بفتح اللام فهو من يخلف غيره بالخير ومنه قولهم : " جعلك الله خير خلف لخير سلف " . التفسِير : { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي ولما رجع موسى من المناجاة { غَضْبَانَ } مما فعلوه من عبادة العجل { أَسِفاً } أي شديد الحزن { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ } أي بئس ما فعلتموه بعد غيبتي حيث عبدتم العجل { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } أي أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور ؟ والاستفهام للإِنكار { وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } أي طرح الألواح لما عراه من شدة الغضب ، وفرط الضجر غضباً لله من عبادة العجل ، وأخذ بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه ظناً منه أنه قصَّر في كفهم عن ذلك وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه قال ابن عباس : لمّا عاين قومه وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها غضباً لله وأخذ برأس أخيه يجره إليه { قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } أي قال هارون يا ابن أمي - وهو نداء استعطاف وترفق - إن القوم استذلوني وقهروني وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك فأنا لم أقصّر في نصحهم { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا تُسئْ إليَّ حتى يُسرَّ الأعداء بي ويشمتوا بإهانتك إليَّ ولا تجعلني في عداد الظالمين بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير قال مجاهد : { ٱلظَّالِمِينَ } أي الذين عبدوا العجل { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } لما تحقق لموسى براءة ساحة هارون عليه السلام من التقصير طلب عند ذلك المغفرة له ولأخيه فقال { ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي } الآية قال الزمخشري : استغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ، ولأخيه مما عسى أن يكون فرط منه في حين الخلافة ، وطلب ألاّ يتفرقا عن رحمته ، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } أي إن الذين عبدوا العجل - ذكر البقر - واتخذوه إلهاً سيصيبهم غضب شديد من الرحمن ، وينالهم في الدنيا الذل والهوان قال ابن كثير : أما الغضب الذي نال بني إسرائيل فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتلَ بعضُهم بعضاً ، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصَغَاراً في الحياة الدنيا { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ } أي كما جازينا هؤلاء بإِحلال الغضب والإِذلال كذلك نجزي كل من افترى الكذب على الله قال سفيان بن عُيينة : كلُّ صاحب بدعة ذليل { وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوۤاْ } أي عملوا القبائح والمعاصي ثم تابوا ورجعوا إلى الله من بعد اقترافها وداموا على إيمانهم وأخلصوا فيه { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي إنَّ ربك يا محمد من بعد تلك التوبة لغفور لذنوبهم رحيم بهم قال الألوسي : وفي الآية إعلامٌ بأنَّ الذنوب وإن جلّتْ وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجلُّ ، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له : @ يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ إن كانَ لا يَرْجوكَ إلا محسنٌ فبمنْ يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ ؟ @@ { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ } أي سكن غضب موسى على أخيه وقومه { أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ } أي ألواح التوراة التي كان ألقاها { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } أي وفيما نُسخ فيها وكُتب هداية للحق ورحمة للخلق بإرشادهم إلى ما فيه سعادة الدارين { لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } أي هذه الرحمة للذين يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } أي اختار موسى من قومه سبعين رجلاً ممن لم يعبدوا العجل للوقت الذي وعده ربه الإِتيان فيه للاعتذار عن عبادة العجل { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } أي فلما رجف بهم الجبل وصعقوا { قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } أي قال موسى على وجه التضرع والإِستسلام لأمر الله : لو شئت يا ربِّ أن تهلكنا قبل ذلك لفعلتَ فإِنّا عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } ؟ أي أتهلكنا وسائر بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء السبعون في قولهم : { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] ؟ والاستفهام استفهام استعطاف وتذلل فكأنه يقول : لا تعذبنا يا ألله بذنوب غيرنا قال الطبري في رواية السدي : إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإِنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني اسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي " أقول : إذا كان هذا قول الأخيار من بني اسرائيل فكيف حال الأشرار منهم ؟ نعوذ بالله من خبث اليهود { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي ما هذه الفتنة التي حدثت لهم إلا محنتك وابتلاؤك تمتحن بها عبادك { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } أي تضل بهذه المحنة من تشاء إضلاله وتهدي من تشاء هدايته { أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا } أي أنت يا رب متولي أمورنا وناصرنا وحافظنا فاغفر لنا ما قارفناه من المعاصي وارحمنا برحمتك الواسعة الشاملة { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } أي أنت خير من صفح وستر ، تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ } هذا من جملة دعاء موسى عليه السلام أي حقّقْ وأثبتْ لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } أي تبنا ورجعنا إليك من جميع ذنوبنا { قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي قال تعالى أما عذابي فأصيب به من أشاء من عبادي وأما رحمتي فقد عمَّتْ خلقي كلهم قال أبو السعود : وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمة مقتضى الذات ، وأما العذاب فبمقتضى معاصي العباد { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي سأجعل هذه الرحمة خاصة في الآخرة بالذين يتقون الكفر والمعاصي ويعطون زكاة أموالهم ويصدّقون بجميع الكتب والأنبياء { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ } أي هؤلاء الذين تنالهم الرحمة هم الذين يتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم النبيَّ العربي الأمي أي الذي لا يقرأ ولا يكتب قال البيضاوي : وإنما سمّاه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى ، ونبياً بالإِضافة إلى العباد { ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } أي الذي يجدون نعته وصفته في التوراة والإِنجيل قال ابن كثير : هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء ، بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته ، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } أي لا يأمر إلا بكل شيء مستحسن ولا ينهي إلا عن كل شيء قبيح { وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } أي يحل لهم ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة بشؤم ظلمهم ويُحرّم عليهم ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التي تشبه الأغلال كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب والقصاص من القاتل عمداً كان القتل أو خطأً وشبه ذلك { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } أي فالذين صدقوا بمحمد وعظّموه ووقّروه ونصروا دينه { وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ } أي واتبعوا قرآنه المنير وشرعه المجيد { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي هم الفائزون بالسعادة السرمدية { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } هذا بيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الخلق أي قل يا محمد للناس إني رسولٌ من عند الله إلى جميع أهل الأرض { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي المالك لجميع الكائنات { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي لا ربَّ ولا معبود سواه فهو الإِله القادر على الإِحياء والإِفناء { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي صدّقوا بآيات الله وصدقوا برسوله المبعوث إلى جميع خلقه { ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي آمنوا بالنبي الأمي صاحب المعجزات الذي لا يقرأ ولا يكتب المصدق بالكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء { وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أى اسلكوا طريقه واقتفوا أثره رجاء اهتدائكم إلى المطلوب { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أى ومن بنى إسرائيل جماعة مستقيمون على شريعة الله يهدون الناس بكلمة الحق لا يجورون قال الزمخشري : لما ذكر تعالى الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين : عبادة العجل ، وطلب رؤية الله ، ذكر أن منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم ويرشدونهم على الاستقامة { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } أي وفرقنا بني اسرائيل فجعلناهم قبائل شتّى اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من أولاد يعقوب قال أبو حيان : أي فرقناهم وميّزناهم أسباطاً ليرجع أمر كل سبط أي " قبيلة " إلى رئيسه ليخفَّ أمرهم على موسى لئلا يتحاسدوا فيقع الهرج ، ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء ، وجعل لكل سبطٍ نقيباً ليرجعوا في أمورهم إليه { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } أي حين استولى عليهم العطش في التيه { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ } أي أوحينا إليه أن يضرب الحجر بعصاه فضربه { فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } أي انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً من الماء بعدد الأسباط { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } أي قد عرف كل سبطٍ وجماعة منهم عينهم الخاصة بهم قال الطبري : لا يدخل سبطٌ على غيره في شربه { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ } أي جعلنا الغمام يكنّهم من حر الشمس ويقيهم من أذاها قال الألوسي : وكان الظلُّ يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } أي وأكرمناهم بطعام شهي هو { ٱلْمَنَّ } وهي شيء حلوٌ ينزل على الشجر يجمعونه ويأكلونه و { وَٱلسَّلْوَىٰ } وهو طائر لذيذ اللحم يسمى السُمَّاني ، كلُّ ذلك من إفضال الله وإنعامه عليهم دون جهدٍ منهم { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي وقلنا لهم كلوا من هذا الشيء الطيب اللذيذ الذي رزقناكم إياه { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } في الكلام محذوف تقديره : فكفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك ولكنْ ظلموا أنفسهم حيث عرّضوها بالكفر لعذاب الله { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } أي واذكر لهم حين قلنا لأسلافهم اسكنوا بيت المقدس وكلوا من مطاعمها وثمارها من أي جهة ومن أي مكان شئتم منها { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } أي وقولوا حين دخولكم : يا ألله حُطَّ عنا ذنوبنا { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيۤئَاتِكُمْ } أي نمح عنكم جميع الذنوب التي سلفت منكم { سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي وسنزيد من أحسن عمله بامتثال أمر الله وطاعته فوقَ الغفران دخولَ الجنان { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ } أي غيَّر الظالمون منهم أمر الله بقولهم كلاماً لا يليق حيث قالوا بدل { حِطَّةٌ } حنطة في شعيرة وبدل أن يدخلوا ساجدين خشوعاً لله دخلوا يزحفون على أستاههم " أدبارهم " سخرية واستهزاء بأوامر الله { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } أي فأرسلنا عليهم عذاباً من السماء بسبب ظلمهم وعدوانهم المستمر سابقاً ولاحقاً قال أبو السعود : والمراد بالعذاب " الطاعون " روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعةٌ وعشرون ألفاً { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } أي واسأل يا محمد اليهود عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية التي كانت بقرب البحر وعلى شاطئه ماذا حلَّ بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت ؟ ألم يمسخهم الله قردة وخنازير ؟ قال ابن كثير : وهذه القرية هي ( أيلة ) وهي على شاطئ بحر القلزم { إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ } أي يتجاوزون حدّ الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } أي حين كانت الحيتان " الأسماك " تأتيهم يوم السبت - وقد حُرّم عليهم الصيدُ فيه - كثيرةً ظاهرةً على وجه الماء { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي وفي غير يوم السبت وهي سائر الأيام لا تأتيهم بل تغيب عنهم وتختفي { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي مثل ذلك البلاء العجيب نختبرهم ونمتحنهم بإظهار السمك لهم على وجه الماء في اليوم المحرَّم عليهم صيده وإخفائها عنهم في اليوم الحلال بسبب فسقهم وانتهاكهم حرمات الله قال القرطبي : روي أنها كانت في زمن داود عليه السلام وأن إبليس أوحى إليهم فقال : إنما نُهيتُم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد ويحتالون في صيدها { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } قال ابن كثير : يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق : فرقة ارتكبت المحظور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت ، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم ، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم ؟ { قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ } أي قال الناهون : إنما نعظهم لنعذر عند الله بقيامنا بواجب النصح والتذكير { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي ينزعون عمَّا هم فيه من الإِجرام قال الطبري : أي لعلهم أن يتقوا الله فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إيّاه وتعدّيهم الاعتداء في السبت { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي فلما تركوا ما ذكّرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عن قبول النصيحة إعراضاً كلياً { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ } أي نجينا الناهين عن الفساد في الأرض { وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أي وأخذنا الظالمين العصاة بعذابٍ شديد وهم الذين ارتكبوا المنكر { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي بسبب فسقهم وعصيانهم لأمر الله { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } أي فلما استعصوا وتكبروا عن ترك ما نهوا عنه { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } أي مسخناهم إلى قردة وخنازير ؛ والمعنى أنهم عُذبوا أولاً بعذاب شديد فلما لم يرتدعوا وتمادوا في الطغيان مسخوا قردة وخنازير ، والحاصل أن أصحاب القرية انقسموا ثلاث فرق : فرقةٌ عصتْ فحلَّ بها العذاب ، وفرقة نهت ووعظت فنجاها الله من العذاب ، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تُقارف المعصية وقد سكت عنها القرآن قال ابن عباس : ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة أنجوا أم هلكوا ؟ قال عكرمة : فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا لأنهم كرهوا ما فعله أولئك ، فكساني حلة { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } أي واذكر يا محمد حين أعلم ربك ليسلطنَّ على اليهود إلى قيام الساعة من يذيقهم أسوأ العذاب بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله واحتيالهم على المحارم ، وقد سلّط الله عليهم بختنصّر فقتلهم وسباهم ، وسلّط عليهم النصارى فأذلوهم وضربوا عليهم الجزية ، وسلَّط عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم فطهَّر الأرض من رجسهم وأجلاهم عن الجزيرة العربية ، وسلّط عليهم أخيراً " هتلر " فاستباح حماهم وكاد أن يبيدهم ويفنيهم بالقتل والتشريد في الأرض ، ولا يزال وعد الله بتسليط العذاب عليهم سارياً إلى أن يقتلهم المسلمون في المعركة الفاصلة إن شاء الله ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي سريع العقاب لمن عصاه وغفورٌ رحيم لمن أطاعه { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } أي فرّقناهم في البلاد طوائف وفرقاً ففي كل بلدة فرقة منهم ، وليس لهم إقليم يملكونه حتى لا تكون لهم شوكة ، وما اجتمعوا في الأرض المقدسة في هذه الأيام إلا ليذبحوا بأيدي المؤمنين إن شاء الله كما وعد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود … " الحديث أخرجه مسلم ثم بيّن تعالى أنهم ليسوا جميعاً فجاراً بل فيهم الأخيار وفيهم الأشرار فقال { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } أي منهم من آمن وهم قلة قليلة ومنهم من انحطّ عن درجة الصلاح بالكفر والفسوق وهم الكثرة الغالبة { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي اختبرناهم بالنعم والنقم والشدة والرخاء لعلهم يرجعون عن الكفر والمعاصي { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَابَ } قال ابن كثير : أي خلف من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح خلْفٌ آخر لا خير فيهم ورثوا الكتاب وهو التوراة عن آبائهم { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي يأخذون ذلك الشيء الدنيء من حطام الدنيا من حلال وحرامٍ ويقولون متبجحين : سيغفر الله لنا ما فعلناه ، وهذا اغترار منهم وكذب على الله { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } أي يرجون المغفرة وهم مصرّون على الذنب كلما لاح لهم شيء من حطام الدنيا أخذوه لا يُبالون من حلالٍ كان أو حرام { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ ٱلْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يؤخذ عليهم العهد المؤكد في التوراة أن يقولوا الحق ولا يكذبوا على الله ؟ فكيف يزعمون أنه سيغفر لهم مع إصرارهم على المعاصي وأكل الحرام ؟ { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } في هذا أعظم التوبيخ لهم أي والحال أنهم درسوا ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي والآخرة خير للذين يتقون الله بترك الحرام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ الاستفهام للإِنكار أي فلا ينزجرون ويعقلون ؟ والمراد أنهم لو كانوا عقلاء لما آثروا الفانية على الباقية { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أي يتمسكون في أمور دينهم بما أنزله الله ويحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } أي لا نضيع أجرهم بل نجزيهم على تمسكهم وصلاحهم أفضل وأكرم الجزاء . البَلاَغَة : 1 - { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ } شبّه الغضب بإِنسان يرعد ويزبد ويزمجر بصوته آمراً بالانتقام ثم اختفى هذا الصوت وسكت ، ففي الكلام " استعارة مكنية " ويا له من تصوير لطيف يستشعر جماله كل ذي طبع سليم وذوقٍ صحيح . 2 - بين لفظ " تضل " و " تهدي " طباقٌ وكذلك بين لفظ " يحيي " و " يميت " . 3 - { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة ، وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابلها على الترتيب . 4 - { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ } استعار الإِصر والأغلال للأحكام والتكاليف الشاقة . 5 - { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } التفات من الغيبة إلى الخطاب زيادة في التوبيخ والتأنيب . فَائِدَة : الخَلَف بفتح اللام من يخلف غيره بالخير ، والخَلْف بسكون اللام من يخلف غيره في الشر ومنه قوله تعالى { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] وهذه الآية { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَابَ } والله أعلم .