Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 94-129)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسََبََة : لما ذكر تعالى قصص الأنبياء ( نوح ، هود ، صالح ، لوط ، شعيب ) وما حلّ بأقوامهم من العذاب والنكال حين لم تُُجْد فيهم الموعظة ، ذكر تعالى هنا سنته الإِلهية في الانتقام ممن كذّب أنبياءه وذلك بالتدرج معهم بالبأساء والضراء ، ثم بالنعمة والرخاء ، ثم بالبطش بهم إن لم يؤمنوا ثم أعقب ذلك بقصة موسى مع الطاغية فرعون وفيها كثير من العبر والعظات . اللغَة : { ٱلْبَأْسَآءِ } شدة الفقر { ٱلضَّرَّآءِ } الضرُّ والمرض { عَفَوْاْ } كثروا ونموا { بَغْتَةً } فجأة { مَلَئِهِ } أشراف قومه { أَرْجِهْ } أخّرْ { صَاغِرِينَ } أذلاء { تَلْقَفُ } تبتلع وتلتقم { يَأْفِكُونَ } الإِفك : الكذب { أَفْرِغْ } الإِفراغ : الصبُّ أي اصببه علينا . التفسِير : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } في الكلام حذفٌ أي وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه أهلها { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ } أي عاقبناهم بالبؤس والفقر ، والمرض وسوء الحال { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ } أي ثم أبدلناهم بالفقر والمرض ، الغنى والصحة { حَتَّىٰ عَفَوْاْ } أي حتى كثروا ونموا { وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ } أي أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا كفراناً لها : هذه عادة الدهر وقد مسّ آباءنا مثل ذلك من المصائب ومن الرخاء وليست بعقوبة من الله فلنبق على ديننا ، والغرضُ أن الله ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه فما فعلوا ، ثم بالحسنة ليشكروا فما فعلوا ، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ولهذا قال تعالى { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي أخذناهم بالهلاك والعذاب فجأةً من حيث لا يدرون { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ } أي ولو أن أهل تلك القرى الذين كَذَّبوا وأُهلكوا آمنوا بالله ورسله واتقوا الكفر والمعاصي { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي لوسّعنا عليهم الخير من كل جانب وقيل : بركاتُ السماء المطرُ ، وبركات الأرض الثمارُ ، قال السدي : فتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق { وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي ولكنْ كذّبوا الرسل فعاقبناهم بالهلاك بسوء كسبهم { أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } الهمزة للإِنكار أي هل أمن هؤلاء المكذبون أن يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون غافلون عنه ؟ { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } ؟ أم هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا ونكالنا نهاراً جهاراً وهم يلهون ويشتغلون بما لا يُجدي كأنهم يلعبون ؟ { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي أفأمنوا استدراجه إياهم بالنعمة حتى يهلكوا في غفلتهم ؟ فإنه لا يأمن ذلك إلا القوم الذين خسروا عقولهم وإنسانيتهم فصاروا أخسَّ من البهائم قال الحسن البصري : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفقٌ خائفٌ وجلٌ ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو مطمئن آمن { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ } أي أولم يتضح ويتبيّن للذين يخلفون الأرض بعد هلاك أهلها الذين كانوا يعمرونها قبلهم ، والمراد بها كفار مكة ومن حولهم { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي لو أردنا لأهلكناهم بسبب ذنوبهم كما أهلكنا من قبلهم قال في البحر : أي قد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حلّ بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا { وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي ونختم على قلوبهم فلا يقبلون موعظةً ولا تذكيراً سماع منتفع بهما { تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا } أي تلك القرى المذكورة نقصُّ عليك يا محمد بعض أخبارها وما حصل لأهلها من الخسف والرجفة والرجم بالحجارة ليعتبر بذلك من يسمع وما حدث أهولُ وأفظع { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي جاءتهم بالمعجزات والحجج القاطعات { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل لتكذيبهم إياهم قبل مجيئهم بالمعجزات وبعد مجيئهم بها فحالهم واحد في العتو والضلال قال الزمخشري : أي استمروا على التكذيب من لدنْ مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين لا يرعوون مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَافِرِينَ } أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم نطبع على قلوب الكافرين فلا يكاد يؤثر فيهم النُّذر والآيات ، وفيه تحذير للسامعين { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أي ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء للعهد بل وجدناهم خارجين عن الطاعة والامتثال قال ابن كثير : والعهد الذي أخذه هو ما فطرهم عليه وأخذه عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم فخالفوه وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَآ } أي ثم بعثنا من بعد الرسل المتقدم ذكرهم موسى بن عمران بالمعجزات الباهرات والحجج الساطعات { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي أرسلناه إلى فرعون - ملك مصر في زمن موسى - وقومه { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي كفروا وجحدوا بها ظلماً وعناداً { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي انظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين كيف أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه ، وهذا أبلغُ في النكال لأعداء الله ، وأشفى لقلوب أولياء الله { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي إني رسولٌ إليك من الخالق العظيم رب كل شيء وخالقه ومليكه { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي جديرٌ بي وحقٌ عليَّ أن لا أخبر عن الله إلا بما هو حقٌ وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي جئتكم بحجة قاطعة من الله تشهد على صدقي فخلِّ واترك سبيل بني إسرائيل حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطنُ آبائهم قال أبو حيان : ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى بقوله { إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطلٌ لا محقٌ ، ولما كان قوله { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ولما قرّر رسالته فرَّع عليها تبليغ الحكم وهو قوله { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أي قال فرعون لموسى : إن كنت جئت بآية من ربك كما تدّعي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك ، قال ذلك على سبيل التعجيز لموسى { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي فإذا بها حية ضخمة طويلة قال ابن عباس : تحولت إلى حية عظيمة فاغرة فاها مسرعةً نحو فرعون و { مُّبِينٌ } أي ظاهر لا متخيَّل { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي أخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً عجيباً يغلب نورها نور الشمس قال ابن عباس : كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي قال الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته إن هذا عالمٌ بالسحر ماهرٌ فيه ، وقولهم { عَلِيمٌ } أي بالغٌ الغاية في علم السحر وخدعه وفنونه { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } أي يخرجكم من أرض مصر بسحره { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي بأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره ؟ وبأي شيء تشيرون فيه ؟ قال القرطبي : قال فرعون : فماذا تأمرون وقيل : هو من قول الملأ أي قالوا لفرعون وحده { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } كما يُخاطب الجبارون والرؤساء : ما ترون في كذا ، { قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } أي أخِّر أمرهما حتى ترى رأيك فيهما وأرسلْ في أنحاء البلاد من يجمع لك السحرة { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي يأتوك بكل ساحرٍ مثله ماهر في السحر ، وكان رؤساء السحرة بأقصى صعيد مصر { وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } في الكلام محذوفٌ يدل عليه السياق وهو أنه بعث إلى السحرة وطلب أن يُجمعوا له فلما جاءوا فرعون قالوا : إنَّ لنا لأجراً عظيماً إن نحن غلبنا موسى وهزمناه وأبطلنا سحره ؟ { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } أي قال فرعون : نعم لكم الأجر وأزيدكم على ذلك بأن أجعلكم من المقربين أي من أعزّ خاصتي وأهل مشورتي قال القرطبي : زادهم على ما طلبوا { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ } أي قال السحرة لموسى : اختر إمّا أن تُلقي عصاك أو نلقي نحن عصيّنا قال الزمخشري : تخييرهم إيّاه أدبٌ حسن كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يخوضوا في الجدال هذا ما قاله الزمخشري ، والأظهر أنهم قالوا ذلك من باب الاعتزاز بالنفس وتوهم الغلبة وعدم الاكتراث بأمر موسى كما يقول المعتد بنفسه : أبدأ أو تبدأ { قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ } أي قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا العصيّ والحبال سحروا أعين الناس أي خيلوا إليهم ما لا حقيقة له كما قال تعالى { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [ طه : 66 ] { وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أي أفزعوهم وأرهبوهم إرهاباً شديداً حيث خيلوها حياتٍ تسعى وجاءوا بسحر عظيم يهابه من رآه قال ابن اسحاق : صُفَّ خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحرٍ حبالُه وعصيُّه وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ، ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } أي أوحينا إليه بأن ألق عصاك فألقاها فإِذا هي تبتلع بسرعة ما يزوّرونه من الكذب قال ابن عباس { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } لا تمر بشيء من حبالهم وخشبهم التي ألقوها إلا التقمته { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ثبت وظهر الحق لمن شهده وحضره ، وبطل إفك السحر وكذبه ومخايله { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } أي غُلب فرعونُ وقومهُ في ذلك المجمع العظيم وصاروا ذليلين { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } أي خرّوا ساجدين معلنين إيمانهم بربّ العالمين لأن الحق بهرهم قال قتادة : كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } أي قال فرعون الجبار للسحرة آمنتم بموسى قبل أن تستأذنوني ؟ والمقصود بالجملة التوبيخ { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } أي صنيعكم هذا حيلةٌ احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد لتخرجوا منها القبط وتسكنوا بني اسرائيل ، قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإِيمان { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي فسوف تعلمون ما يحلُّ بكم ، وهذا وعيد وتهديد ساقه بطريق الإِجمال للتهويل ثم عقّبه بالتفصيل فقال { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } أي لأقطعنَّ من كل واحد منكم يده ورجله من خلاف قال الطبري : ومعنى { مِّنْ خِلاَفٍ } هو أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى ، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى فيخالف بين العضوين في القطع { ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أي ثم أصلبكم جميعاً تنكيلاً لكم ولأمثالكم ، والصلب التعليق على الخشب حتى الموت { قَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } إنّا راجعون إلى الله بالموت لا محالة فلا نخاف مما تتوعدنا به ولا نبالي بالموت وحبذا الموت في سبيل الله { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } أي ما تكره منا ولا تعيب علينا إلا إيماننا بالله وآياته ! ! كقوله { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] قال الزمخشري : أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإِيمان { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي أفضْ علينا صبراً يغمرنا عند تعذيب فرعون إيانا وتوفنا على ملة الإِسلام غير مفتونين { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } أي قال الأشراف لفرعون : أتترك موسى وجماعته ليفسدوا في الأرض بالخروج عن دينك وترك عبادة آلهتك ! ! وفي هذا إغراءٌ لفرعون بموسى وقومه وتحريضٌ له على قتلهم وتعذيبهم { قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي قال فرعون مجيباً لهم : سنقتل أبناءهم الذكور ونستبقي نساءهم للاستخدام كما كنا نفعل بهم ذلك وإنّا عالون فوقهم بالقهر والسلطان { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ } أي قال موسى لقومه تسليةً لهم حين تضجروا مما سمعوا : استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما ينالكم من أذاهم واصبروا على حكم الله { إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي الأرض كلها لله يعطيها من أراد من عباده ، أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي النتيجة المحمودة لمن اتقى الله { قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي أوذينا من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعدما جئتنا بها يعنون أن المحنة لم تفارقهم فهم في العذاب والبلاء قبل بعثة موسى وبعد بعثته { قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي لعل ربكم أن يهلك فرعون وقومه ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم وينظر كيف تعملون بعد استخلافكم من الإِصلاح والإِفساد ، والغرضُ تحريضهم على طاعة الله ، وقد حقق الله رجاء موسى فأغرق فرعون وملّك بن إسرائيل أرض مصر قال في البحر : سلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء . البَلاَغَة : 1 - { بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ } بين لفظ الحسنة والسيئة طباقٌ وكذلك بين لفظ { ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ } . 2 - { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } شبّه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول فهو من باب الاستعارة أي وسعنا عليهم الخير من جميع الأطراف . 3 - { أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ } تكررت الجملة والغرض منها الإِنذار ويسمى هذا في علم البلاغة الإِطناب ومثلها { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ } قال ابو السعود : تكريرٌ للنكير لزيادة التقرير ، ومكرُ الله استعارةٌ لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب . 4 - { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } أكد الجملة بإن واللام لإِزالة الشك من نفوس السحرة ويسمى هذا النوع من أضرب الخبر إنكارياً . 5 - { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ } فيه استعارة استعير الوقع للثبوت والحصول والله أعلم . تنبيه : لما عجز فرعون عن دفع الحجة بالبرهان عدل إلى البطش والفتك بالسنان ، وهكذا حال كل ضال مبتدع إذا أعيته الحجة مال إلى التهديد والوعيد .