Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 70, Ayat: 1-44)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { ٱلْمَعَارِجِ } المصاعد والمدارج التي يرتقي بها الإِنسان جمع معرج وهو المصعد ، والعروج الارتفاع إِلى السماء ومنه معراج النبي صلى الله عليه وسلم { ٱلْمُهْلِ } النحاس المذاب { ٱلْعِهْنِ } الصوف المنفوش { فَصِيلَتِهِ } الفصيلة : العشيرة الذي فصل عنهم وتولد منهم { لَظَىٰ } اسم لجهنم سميت بذلك لأن نيرانها تتلظى أي تلتهب { الشَّوَىٰ } جمع شواة وهي جلدة الرأس قال الأعشى : @ قالت قتيلة ماله قد جللت شيباً شواته ؟ @@ { هَلُوعاً } كثير الجزع والضجر ، قال أبو عبيدة : الهلوع هو الذي اذا مسَّه الخير لم يشكر ، وإِذا مسَّه الضر لم يصبر { عِزِينَ } جماعات متفرقين جمع عزة وهي الجماعة المتفرقة قال الشاعر : @ فجاءوا يَهْرعون إِليه حتى يكونوا حول منبره عزينا @@ { يُوفِضُونَ } يسرعون يقال : أوفض البعير اذا أسرع السير . سَبَبُ النّزول : عن ابن عباس أن النضر بن الحارث قال حين خوَّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من عذاب الله { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأنفال : 32 ] فأنزل الله { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } . التفسِير : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أي دعا داعٍ من كفار مكة لنفسه ولقومه بنزول عذاب واقع لا محالة قال المفسرون : السائل هو " النضر بن الحارث " من صناديد قريش وطواغيتها ، لمَّا خوفهم رسول الله عذاب الله قال استهزاء { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] فأهلكه الله يوم بدر ، ومات شر ميتة ، ونزلت الآية بذمه { لِّلْكَافِرِينَ } أي دعا بهذا العذاب على الكافرين { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } أي لا رادَّ له إِذا أراد الله وقوعه ، وهو نازل بهم لا محالة ، سواءً طلبوه أو لم يطلبوه ، وإِذا نزل العذاب فلن يرفع أو يُدفع { مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } أي هو صادر من الله العظيم الجليل ، صاحب المصاعد التي تصعد بها الملائكة ، وتنزل بأمره ووحيه ، ثم فصَّل ذلك بقوله { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ } أي تصعد الملائكة الأبرار وجبريل الأمين الذي خصه الله بالوحي الى الله عز وجل { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } أي في يومٍ طوله خمسون ألف سنة من سني الدنيا قال ابن عباس : هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار قال المفسرون : والجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5 ] أن القيامة مواقف ومواطن ، فيها خمسون موطناً كل موطن ألف سنة ، وأن هذه المدة الطويلة تخف على المؤمن حتى تكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } أي فاصبر يا محمد على استهزاء قومك وأذاهم ولا تضجر ، فإِن الله ناصرك عليهم ، وهذا تسليةٌ له عليه الصلاة والسلام ، لأن استعجال العذاب إِنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بالصبر قال القرطبي : والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ، ولا شكوى لغير الله { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } أي إِن هؤلاء المستهزئين يستبعدون العذاب ويعتقدون أنه غير نازل ، لإِنكارهم للبعث والحساب { وَنَرَاهُ قَرِيباً } أي ونحن نراه قريباً لأن كل ما هو آتٍ قريب . . ثم أخبر تعالى عن هول العذاب وشدته وعن أهوال يوم القيامة فقال { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } أي تكون السماء سائلة غير متماسكة ، كالرصاص المذاب قال ابن عباس : كدردي الزيت أي كعكر الزيت { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } أي وتكون الجبال متناثرة متطايرة ، كالصوف المنفوش إِذا طيَّرته الريح قال القرطبي : العهن الصوف الأحمر أو ذو الألوان ، شبَّه الجبال به في تلونها ألواناً ، وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ، ثم عهناً منفوشاً ، ثم هباءً منثوراً … هذه حال السماء والأرض في ذلك اليوم المفزع ، أما حال الخلائق فهي كما قال تعالى { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } أي لا يسأل صديق صديقه ، ولا قريب قريبه عن شأنه ، لشغل كل إِنسانٍ بنفسه ، وذلك لشدة ما يحيط بهم من الهول والفزع { يُبَصَّرُونَهُمْ } أي يرونهم ويعرفونهم ، حتى يرى الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ، فلا يسأله ولا يكلمه بل يفر منه كقوله تعالى { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34 - 37 ] قال ابن عباس : { يُبَصَّرُونَهُمْ } أي يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم ، ثم يفرُّ بعضهم من بعض { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } أي يتمنى الكافر - مرتكب جريمة الجحود والتكذيب - لو يفدي نفسه من عذاب الله ، بأعز من كان عليه في الدنيا من ابنٍ ، وزوجةٍ ، وأخٍ { وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } أي وعشيرته التي كانت تضمه إِليها ، ويتكل في نوائبه عليها ، وليس هذا فحسب بل يتمنى لو يفتدي بجميع أهل الأرض { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } أي وبجميع من في الأرض من البشر وغيرهم ثم ينجو من عذاب الله ، ولكن هيهات أن ينجو المجرم من العذاب ، أو ينقذه ذلك من شدة الكرب ، وفادح الخطب ، قال الإِمام الفخر : و { ثُمَّ } لاستبعاد الإِنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده ، وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك ، وهيهات أن ينجيه { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ } { كَلاَّ } أداة زجر وتعنيف أي لينزجر هذا الكافر الأثيم وليرتدع عن هذه الأماني ، فليس ينجيه من عذاب الله فداء ، بل أمامه جهنم ، تتلظَّى نيرانها وتلتهب { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } أي تنزع بشدة حرها جلدة الرأس من الإِنسان كلما قلعت عادت كما كانت زيادة في التنكيل والعذاب ، وخصَّها بالذكر لأنها أشد الجسم حساسيةً وتأثراً بالنار { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } أي تنادي جهنم وتهتف بمن كذب بالرحمن ، وأعرض عن الإِيمان ، قال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح تقول : إِليَّ يا كافر ، إِليَّ يا منافق ، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } أي وتدعو من جمع المال وخبأه وكنزه في الخزائن والصناديق ، ولم يؤد منه حقَّ الله وحق المساكين قال المفسرون : والآية وعيدٌ شديد لمن يبخل بالمال ، ويحرص على جمعه ، فلا ينفقه في سبيل الخير ، ولا يخرج منه حق الله حقَّ المسكين ، وقد كان الحسن البصري يقول : يا ابن آدم سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيت الدنيا أي جمعتها من حلالٍ وحرام ! ! ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان ، وما جبل عليه من الحرص الشديد على جمع حطام الدنيا فقال { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } أي إِن الإِنسان جبل على الضجر ، لا يصبر على بلاء ، ولا يشكر على نعماء قال المفسرون : الهلع : شدة الحرص وقلة الصبر ، يقال : جاع فهلع ، والمراد بالإِنسان العموم بدليل الاستثناء منه ، والاستثناء معيار العموم ، ثم فسَّره تعالى بقوله { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } أي إِذا نزل به مكروه من فقر ، أو مرضٍ ، أو خوف ، كان مبالغاً في الجزع مكثراً منه ، واستولى عليه اليأس والقنوط { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } أي وإِذا أصابه خيرٌ من غنى ، وصحة وسعة رزق كان مبالغاً في المنع والإِمساك ، فهو إِذا أصابه الفقر لم يصبر ، وإِذا أغناه الله لم ينفق قال ابن كيسان : خلق الله الإِنسان يحب ما يسره ، ويهرب مما يكرهه ، ثم تعبَّده بإِنفاق ما يحب والصبر على ما يكره { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } استثناهم من أفراد البشر الموصوفين بالهلع ، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا ، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } أي مواظبون على أداء الصلاة ، لا يشغلهم عنها شاغل ، لأن نفوسهم صفت من أكدار الحياة ، بتعرضهم لنفحات الله { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } أي في أموالهم نصيبٌ معيَّن فرضه الله عليهم وهو الزكاة { لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } أي للفقير الذي يسأل ويتكفف الناس ، والمحروم الذي يتعفف عن السؤال ، فيُظن أنه غنيٌ فيحرم كقوله تعالى { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } [ البقرة : 273 ] { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي يؤمنون بيوم الحساب والجزاء ، ويصدِّقون بمجيئه تصديقاً جازماً لا يشوبه شك أو ارتياب ، فيستعدون له بالأعمال الصالحة { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } أي خائفون على أنفسهم من عذاب الله ، يرجون الثواب ويخافون العقاب { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي لأن عذاب الله لا ينبغي أن يأمنه إِنسان ، إِلاَّ من أمنَّه الرحمن والأمور بخواتيمها … إِنَّ هؤلاء المصدقين المشفقين قلَّما تزدهيهم الدنيا ، أو يبطرهم نعيمها ، أو يجزعون على ما فاتهم من حطامها ، فسواءٌ عليهم أخسروا حظوظ الدنيا أم غنموا ، إِذ أن لديهم من الفكر في جلال ربهم ، وذكر معادهم ، ما يشغلهم عن الجزع إِذا مسَّهم الشر ، ويربأ بهم عن المنع إِذا مسهم الخير ، ثم ذكر تعالى الفريق الخامس من الموفقين للخيرات وفعل الطاعات فقال { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } أي أعفاء لا يرتكبون المحارم ، ولا يتلوثون بالمآثم ، قد صانوا أنفسهم عن الزنى والفواحش { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي يقتصرون على ما أحلَّ الله لهم من الزوجات المنكوحات ، والرقيقات المملوكات { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } أي فإِنهم غير مؤاخذين لأن وضع الشهوة فيما أباح الله من الزوجات والمملوكات ، حلالٌ يؤجر عليه الإِنسان ، لما فيه من تكثير النسل والذرية { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } أي فمن طلب لقضاء شهوته غير الزوجات والمملوكات ، فقد تعدَّى حدود الله وعرَّض نفسه لعذاب الله قال الطبري : من التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه ، ففاعلوا ذلك هم العادون ، الذين تعدوا حدود ما أحل الله لهم ، إِلى ما حرَّمه عليهم ، فهم الملومون { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي يؤدون الأمانات ، ويحفظون العهود ، فإِذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإِذا عاهدوا لم يغدروا { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } أي يشهدون بالحق على القريب والبعيد ، ولا يكتمون الشهادة ولا يغيرونها ، بل يؤدونها على وجهها الكامل ، بحيث تصان بها حقوق الناس ومصالحهم ، وخصَّها بالذكر مع اندراجها في الأمانات ، تنبيهاً على فضلها لأن في إِقامتها إِحياء للحقوق ، وفي تركها تضييع للحقوق { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } هذا هو الوصف الثامن من أوصاف المؤمنين الذين وفقهم الله إِلى تطهير نفوسهم من خلق الهلع المذموم أي يراعون شرائط الصلاة ويلتزمون آدابها ، ولا سيما الخشوع والتدبر ومراقبة الله فيها ، وإِلاَّ كانت حركات صورية لا يجني العبد ثمرتها ، فإِن فائدة الصلاة أن تكف عن المحارم { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ولما كانت الصلاة عمود الإِسلام بولغ في التوكيد فيها ، فذكرت في أول الخصال الحميدة وفي آخرها ، ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني عليها الإِسلام ، قال القرطبي : ذكر تعالى من أوصافهم في البدء { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } ثم قال في الختم { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } والدوام غير المحافظة ، فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها ، لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إِسباغ الوضوء لها ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ، ويكملوها بسننها وآدابها ، ويحفظوها من الإِحباط باقتراف المآثم ، فالدوام يرجع الى نفس الصلوات ، والمحافظة ترجع الى أحوانها ، وبعد أن ذكر تعالى أوصاف المؤمنين المتقين ، ذكر مآلهم وعاقبتهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } أي أولئك المتصفون بتلك الأوصاف الجليلة ، والمناقب الرفيعة ، مستقرون في جنات النعيم ، التي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات ، مع الإِنعام والتكريم بأنواع الملاذ والمشتهيات ، لا تصافهم بمكارم الأخلاق { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } ؟ أي ما لهؤلاء الكفرة المجرمين ، مسرعين نحوك يا محمد ، مادين أعناقهم إِليك ، مقبلين بأبصارهم عليك ؟ قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً حلقاً ، يسمعون كلامه ويستهزئون به وبأصحابه ، ويقولون : إِن دخل هؤلاء الجنة - كما يقول محمد - فلندخلنها قبلهم فنزلت الآية { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } أي جالسين عن يمينك وعن شمالك فرقاً فرقاً ، وجماعات جماعاتٍ يتحدثون ويتعجبون ؟ قال أبو عبيدة : عزين أي جماعات جماعات في تفرقة ومنه حديث " مالي أراكم عزين ؟ ألا تصفون كما تصفُّ الملائكة عند ربها " { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } استفهام إِنكاري مع التقريع والتوبيخ أي أيطمع كل واحد من هؤلاء الكفار ، أن يدخله الله جنات النعيم ، وقد كذب خاتم المرسلين ؟ { كَلاَّ } ردع وزجر أي ليس الأمر كما يطمعون ، فإِنهم لا يدخلونها أبداً ثم قال { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي خلقناهم من الأشياء المستقذرة ، من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، فمن أين يتشرفون بدخول جنات النعيم قبل المؤمنين ، وليس لهم فضل يستوجبون به دخول الجنة ؟ وإِنما يستوجب دخول الجنة من أطاع الله قال القرطبي : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي من القذر فلا يليق بهم هذا التكبر { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ } أي فأقسم برب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها { إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أي قادرون على إِهلاكهم ، واستبدالهم بقومٍ أفضل منهم وأطوع لله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي ولسنا بعاجزين عن ذلك { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي اتركهم يا محمد يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم ، واشتغل أنت بما أُمرت به ، وهو أمرٌ على جهة الوعيد والتهديد للمشركين { حَتَّىٰ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } أي حتى يلاقوا ذلك اليوم العصيب الرهيب ، الذي لا ينفعهم فيه توبة ولا ندم { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً } أي يوم يخرجون من القبور إِلى أرض المحشر مسرعين { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي كأنهم يسعون ويستبقون إِلى أصنامهم التي نصبوها ليعبدوها ، شبَّه حالة إِسراعهم إِلى موقف الحساب ، بحالة إِسراعهم وتسابقهم في الدنيا ، الى آلهتهم وطواغيتهم ، وفي هذا التشبيه تهكم بهم ، وتعريض بسخافة عقولهم ، إِذ عبدوا ما لا يستحق العبادة ، وتركوا عبادة الواحد الأحد { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أي خاضعة منكسرة أبصارهم إِلى الأرض لا يرفعونها خجلاً من الله { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي يغشاهم الذل والهوان من كل مكان ، وعلى وجوههم آثار الذلة والانكسار { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } أي هذا هو اليوم الذي وعدوا به في الدنيا وكانوا يهزءون ويكذبون ، فاليوم يرون عقابهم وجزاءهم ! ! البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { بَعِيداً . . قَرِيباً } وبين { ٱلْيَمِينِ … و ٱلشِّمَالِ } وبين { ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ } . 2 - جناس الاشتقاق { سَأَلَ سَآئِلٌ } وكذلك { تَعْرُجُ - ٱلْمَعَارِجِ } . 3 - ذكر الخاص بعد العام تنبيهاً لفضله وتشريفاً له { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ } الروح هو جبريل . 4 - التشبيه المرسل المجمل { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ * وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } لحذف وجه الشبه . 5 - ذكر العام بعد الخاص { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ … وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } جاء بالعموم بعد الخصوص لبيان هول الموقف . 6 - المقابلة اللطيفة { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } قابله بقوله { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } . 7 - الاستفهام الإِنكاري للتقريع والتوبيخ { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } ؟ 8 - الكناية الفائقة الرائقة { كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } كناية عن المني القذر ، مع النزاهة التامة في التعبير ، وحسن الإِيقاظ والتذكير ، بألطف عبارة وأبلغ إِشارة . 9 - التشبيه المرسل المجمل { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } وفي تشبيههم بذلك تهكم بهم ، وتعريض بسخافة عقولهم ، وتسجيل عليهم بالجهل المشين بالإِسراع في عبادة غير من يستحق العبادة ، 10 - السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } الخ . تنبيه : نبَّه تعالى بقوله { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } الآيات إِلى طبائع البشر ، فبيَّن أنَّ الإِنسان يتسرع إِلى مشتهاه ، اتباعاً لهواه ، وأنه مفرط في الهلع والجزع ، فإِن مسه خير شحت به نفسه ، وإِن نزل به شر اشتد له قلقه ، ثم استثنى من ذلك الخلق الذميم أصنافاً من البشر ، وهم الذين جمعوا مع الإِيمان صالح الأعمال .