Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 71, Ayat: 1-28)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱسْتَغْشَوْاْ } غطوا غشَّاه أَي غطاه ، والغشاء الغطاء { مِّدْرَاراً } غزيراً متتابعاً { أَطْوَاراً } أحوالاً مختلفة طوراً بعد طور قال الشاعر : @ " والمرء يخلق طوراً بعد أطوار " @@ { فِجَاجاً } واسعات جمع فج وهو الطريق الواسعة { كُبَّاراً } كبيراً بالغ الغاية في الكبر { دَيَّاراً } أحداً يدور أو يتحرك على ظهر الأرض { تَبَاراً } هلاكاً ودماراً . التفسِير : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } أي بعثنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام إِلى سكان جزيرة العرب قال الألوسي : واشتهر أنه عليه السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي بأن خوف قومك وحذرهم إن لم يؤمنوا من عذاب شديد مؤلم ، وهو عذاب الطوفان في الدنيا ، وعذاب النار في الآخرة { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي فدعاهم إلى الله وقال لهم : إني لكم منذر ، موضح لحقيقة الأمر ، أُنذركم وأُخوفكم عذاب الله ، فأمري واضح ودعوتي ظاهرة قال المفسرون : نوح عليه السلام أول نبي أرسل ، ويقال له : شيخ المرسلين ، لأنه أطولهم عمراً فقد مكث في قومه كما قص القرآن الكريم { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } [ العنكبوت : 14 ] يدعوهم إلى الله ، ومع طول هذه المدة لم يؤمن معه إلا قليل ، وقد أفرد القرآن قصته في هذه السورة الكريمة التي تسمى " سورة نوح " من بدء الدعوة إِلى نهايتها ، حيث أهلك الله قومه بالطوفان ، وهو أحد الرسل الكبار من أولي العزم وهم خمسة " نوح ، ابراهيم ، موسى ، عيسى ، محمد " صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد شاع الكفر في زمانه وذاع ، واشتهر قومه بعبادة الأوثان ، واكثروا من البغي والظلم والعصيان ، فبعث الله لهم نوحاً عليه السلام وكان من خبرهم مع نبيهم ما قصه الله علينا في القرآن { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } أي فقال لهم : اعبدوا الله وحده ، واتركوا محارمه ، واجتنبوا مآثمه ، وأطيعوني فيما أمرتكم به من طاعة الله ، وترك عبادة الأوثان والأصنام { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي إنكم إن فعلتم ما أمرتكم به ، يمحو الله عنكم ذنوبكم التي اقترفتموها ، وإنما قال { مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي بعض ذنوبكم التي حصلت قبل الإِسلام ، لأن الإِيمان يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي ويمد في أعماركم إن أطعتم ربكم ، إلى وقت مقدر ومقرر في علم الله تعالى ، مع التمتع بالحياة السعيدة ، والعيش الرغيد قال المفسرون : المراد بتأخير الأجل هو التأخير بلا عذاب ، أي يمهلهم في الدنيا بدون عذاب إلى انتهاء آجالهم ، وأما العمر فهو محدود لا يتقدم ولا يتأخر { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] ولهذا قال بعده { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } أي إن عمر الإِنسان عند الله محدود ، لا يزيد ولا ينقص ، وإنما أضيف الأجل إلى الله سبحانه لأنه هو الذي كتبه وأثبته { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإِيمان { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } أي قال نوح بعد أن بذل غاية الجهد ، وضاقت عليه الحيل : يا رب إِني دعوت قومي إلى الإِيمان والطاعة ، في الليل والنهار ، من غير فتور ولا توانٍ { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } أي فلم يزدهم دعائي لهم إلى الإِيمان إلا هرباً ، وشروداً عن الحق ، وإعراضاً عنه . . ثم وصف نفورهم وصور إعراضهم أبلغ تصوير فقال { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي كلما دعوتهم إلى الإِقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته ، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل : ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان ، والعمل بطاعته ، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل : ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان ، ليظهر قبح إعراضهم عنه ، فإنهم أعرضوا عن سعادتهم { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا دعوتي { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أي غطوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم ، لئلا يسمعوا كلامي أو يروني قال في البحر : والظاهر أن ذلك حقيقة ، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إِليه ، وتغَطَّوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه ، كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح ، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عمَّا دعاهم إليه ، فهم بمنزلة من سد سمعه ، ومنع بصره { وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } أي واستمروا على الكفر والطغيان ، واستكبروا عن الإِيمان استكباراً عظيماً ، وفيه إِشارة إلى فرط عنادهم ، وغلوهم في الضلال { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } أي دعوتهم علناً على رؤوس الأشهاد ، مجاهراً بدعوتي لهم دون خوف أو تحفظ { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } أي أخبرتهم سراً وعلناً ، خفيةً وجهراً ، وسلكت معهم كل طريق في الدعوة إِليك قال المفسرون : والعطف بثُمَّ يشعر بأن الإِعلان والإِسرار الأخيرين ، كانا طريقة ثالثة سلكها نوح في الدعوة ، غير طريقة السر المحضة ، وغير طريقة الجهر المحضة ، فكان في الطريقة الثالثة يعلن لهم الدعوة مرة حيث يصلح الإِعلان ، ويسرها لهم أخرى حيث يتوقع نفع الإِسرار ، ثم وضح ما وعظهم به سراً وعلانية فقال { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } أي آمنوا بالله وتوبوا عن الكفر والمعاصي ، فإن ربكم تواب رحيم ، يغفر الذنب ويقبل التوب { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } أي ينزل المطر عليكم غزيراً متتابعاً ، شديد الانسكاب { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي يكثر أموالكم وأولادكم { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } أي ويجعل لكم الحدائق الفسيحة ، ذات الأشجار المظلة المثمرة ، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها … أطمعهم نوح عليه السلام بالحصول على بركات السماء وبركات الأرض ، إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتيح هذه الخزائن ، وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف ، ولبيان أن ما هم فيه من انحباس الأمطار ، وما حرموه من الرزق والذرية ، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده إرسال المطر ، وإِغداق الرزق ، والإِمداد بالأموال والبنين ، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بهذا الإِله القادر ، ويعبدوا آلهة أخرى اخترعوها ، لا تضر ولا تنفع ، ثم عاد فهزَّ نفوسهم هزاً ، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان فقال { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } أي ما لكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه ، ولا ترهبون له جانباً ! ! قال ابن عباس : اي ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته ! { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } أي وقد خلقكم في أطوار مختلفة ، وأدوار متباينة ، طوراً نطفة ، وطوراً علقة ، وطوراً مضغة ، إلى سائر الأحوال العجيبة ، فتبارك الله أحسن الخالقين . . ثم نبههم إلى دلائل القدرة والوحدانية ، منبثة في هذا الكون الفسيح فقال { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } أي ألم تشاهدوا يا معشر القوم عظمة الله وقدرته ، وتنظروا نظر اعتبار ، وتفكر وتدبر ، كيف أن الله العظيم الجليل خلق سبع سماوات سماء فوق سماء ، متطابقة بعضها فوق بعض ، وهي في غاية الإِبداع والإِتقان ! ! { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } أي وجعل القمر في السماء الدنيا ، منوراً لوجه الأرض في ظلمة الليل قال الإِمام الفخر : القمر في السماء الدنيا وليس في السماوات بأسرها ، وهذا كما يقال : السلطان في العراق ليس المراد ان ذاته حاصلة في كل أنحائها ، بل إن ذاته في حيز من جملة أنحاء العراق ، فكذا هٰهنا وقال في البحر : والقمر في السماء الدنيا ، وصح كون السماوات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأ المظروف ، تقول زيد في المدينة وهو في جزء منها { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } أي وجعل الشمس مصباحاً مضيئاً يستضيء به أهل الدنيا كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولمّا كان نور الشمس أشدّ ، وأتم ، وأكمل في الانتفاع من نور القمر ، عبر عن الشمس بالسراج لأنه يضيء بنفسه ، وعبر عن القمر بالنور لأنه يستمد نوره من غيره ، ويؤيده ما تقرر في علم الفلك من أن نور الشمس ذاتي فيها ، ونور القمر عرضي مكتسب من نورها ، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } بعد أن ذكر دليل الآفاق ، ذكر هنا دليل الأنفس ، وذلك لأن في ذكر هذه الأمور ، دلالة واضحة على عظمة الله ، وقدرته وباهر مصنوعاته والمعنى خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات ، وسلَّكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها قال المفسرون : لما كان إخراجهم وإِنشاؤهم إنما يتم بتناولهم عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض ، كانوا من هذه الجهة مشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض ، فلذا سمى خلقهم وإنشاءهم إنباتاً ، أو يكون ذلك إشارة إلى خلق آدم حيث خلق من تراب الأرض ، ثم جاءت منه ذريته ، فصح نسبتهم إلى أنهم أنبتوا من الأرض { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } أي يرجعكم إلى الأرض بعد موتكم فتدفنون فيها ، ثم يخرجكم منها يوم البعث والحشر للحساب والجزاء ، وأكده بالمصدر { إِخْرَاجاً } لبيان أن ذلك واقع لا محالة ، وهذه الآية كقوله تعالى { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } [ طه : 55 ] { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } أي جعلها فسيحة ممتدة ممهدة لكم ، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه قال في التسهيل : شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها ، وأخذ بعضهم من الآية أنها غير كروية ، وفي ذلك نظر وقال الألوسي : وليس في الآية دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية ، لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحاً ، ثم إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بلازم في الشريعة ، لكن كريتها كالأمر اليقيني ، ومعنى جعلها بساطاً أي تتقلبون عليها كالبساط { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أي لتسلكوا في الأرض طرقاً واسعة في أسفاركم ، وتنقُّلكم في أرجائها ؟ ؟ ولما أصروا على العصيان ، وقابلوه بأقبح الأقوال والأفعال ، حكى عنهم ما قصه القرآن { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } أي إنهم بالغوا في تكذيبي وعصيان أمري { وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي واتَّبعوا اغنياءهم ورؤساءهم ، الذين أبطرتهم الأموال والأولاد ، فهلكوا وخسروا سعادة الدارين ، فصاروا أسوة لهم في الخسار { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي ومكر بهم الرؤساء مكراً عظيماً متناهياً في الكبر قال الألوسي : { وكُبَّاراً } مبالغة في الكبر أي كبيراً في الغاية ، وذلك احتيالهم في الدين ، وصدهم الناس عنه ، وإغراؤهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } أي لا تتركوا عبادة الأوثان والأصنام ، وتعبدوا رب نوح { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } أي ولا تتركوا - على وجه الخصوص - هذه الأصنام الخمسة - وداً ، وسواعاً ، ويغوث ، ويعوق ، ونسراً قال الصاوي : وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمهم عندهم ، ولذا خصوها بالذكر ، وهذا من شدة كفرهم ، وفرط تعنتهم في المكر والاحتيال ، فقد كانوا يلبسون ثوب المتنصح المخلص ، ويسلكون في تثبيت الضعفاء على عبادة الآباء شتى الأساليب في المكر والخداع { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } أي وقد أضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين ، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال ، ثم دعا عليهم بالضلال فقال { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } أي ولا تزدهم يا رب على طغيانهم وعدوانهم ، إلا ضلالاً فوق ضلالهم قال المفسرون : دعا عليهم لما يئس من إيمانهم بإِخبار الله له بقوله { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] فاستجاب الله دعاءه وأغرقهم ، ولهذا قال تعالى { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } أي من أجل ذنوبهم وإجرامهم ، وإصرارهم على الكفر والطغيان ، أُغرقوا بالطوفان وأدخلوا النيران قال في التسهيل : وهذا من كلام الله تعالى إخباراً عن أمرهم ، و { ما } في { مما } زائدة للتأكيد ، وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضا ، ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } أي لم يجدوا من ينصرهم أو يدفع عنهم عذاب الله قال أبو السعود : وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى ، وأنها غير قادرة على نصرهم ، وتهكم بهم { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين قال في التسهيل : و { دَيَّاراً } من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال : ما في الدار ديار أي ما فيها أحد . . ثم علل ذلك بقوله { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } أي إنك إن أبقيت منهم أحداً ، أضلوا عبادك عن طريق الهدى { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي ولا يأتي من أصلابهم إلا كل فاجر وكافر قال الإِمام الفخر : فإِن قيل : كيف عرف نوح ذلك ؟ قلنا بالاستقراء ، فإِنه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً ، فعرف طباعهم وجربهم ، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول : يا بني إحذر فإِنه كذاب ، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك ، فلذلك قال { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } … ولما دعا على الكفار أعقبه بالدعاء للمؤمنين فقال { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } بدأ بنفسه ثم بأبويه ، ثم عمَّم لجميع المؤمنين والمؤمنات ، ليكون ذلك أبلغ وأجمع { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } أي ولا تزد يا رب من جحد بآياتك وكذب رسلك ، إلا هلاكاً وخساراً في الدنيا والآخرة . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { أَعْلَنْتُ … وَأَسْرَرْتُ } وبين { جِهَاراً … وإِسْرَاراً } وبين { لَيْلاً … وَنَهَاراً } وبين { يُعِيدُكُمْ … وَيُخْرِجُكُمْ } . 2 - المجاز المرسل { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } المراد رؤوس الأصابع فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء . 3 - الاستعارة التبعية { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } شبه إِنشاءهم وخلقهم في أدوار بالنبات الذي تخرجه الأرض ، واشتق من لفظ النبات أنبتكم على طريق الاستعارة التعبية . 4 - ذكر المصدر للتأكيد مثل { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } و { أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } و { ٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } ويسمى هذا في علم البديع بالإِطناب . 5 - ذكر الخاص بعد العام { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً … } الآية وعكسه ذكر العام بعد الخاص { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } وكلاهما من باب الإِطناب ، وهو من المحسنات البديعية . 6 - السجع المرصع مراعاة لرؤوس الآيات مثل { مِّدْرَاراً } ، { أَنْهَاراً } ، { وَقَاراً } ، { أَطْوَاراً } الخ . فَائِدَة : استدل العلماء على عذاب القبر بقوله تعالى { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } قالوا : المراد بها نار القبر وعذابه ، لأنه تعالى عطف بالفاء ، والفاء تفيد الترتيب مع التعقيب ، ونار الآخرة لم يذوقوها بعد ، فدل على أن المراد عذاب القبر ، وهو استدلال لطيف .