Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 1-20)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱلْمُزَّمِّلُ } المتلفف بثيابه يقال : تزمَّل بثوبه أي التف به وتغطَّى ، وزمَّل غيره إِذا غطاه قال امرؤ القيس : كبير أناسٍ في بجادٍ مزمَّل { سَبْحَاً } تصرفاً وتقلباً في مهماتك ، وأصل السَّبْح العومُ على وجه الماء ، واستعير للتصرف والتقلب في شئون الحياة { أَنكَالاً } جمع نِكْلٍ وهو القيد الثقيل الذي يقيد به المجرم { كَثِيباً } الكثيب : الرمل المجتمع { مَّهِيلاً } سائلاً متناثراً منهاراً قال أهل اللغة : المهيل الذي إذا وطأته بالقدم زلَّ من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال ، وأصله مهيول كمكيل أصله مكيول { وَبِيلاً } عظيماً شديداً وخيم العاقبة . التفسِير : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } أي يا أيها المتلفف بثيابه ، وأصله المتزمل وهو الذي تلفف وتغطى ، وخطابه صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } فيه تأنيسٌ وملاطفة له عليه السلام قال السهيلي ؛ إن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك معاتبته سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - حين غاضب فاطمة وقد نام ولصق بجنبه التراب - قم أبا تراب ، إشعاراً بأنه ملاطفٌ له ، وغير عاتب عليه ، والفائدة الثانية ، التنبيهُ لكل متزمل راقد ليله ، ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى ، لأنه الاسم المشتق من الفعل ، يشترك فيه المخاطب ، وكل من اتصف بتلك الصفة ، وسبب هذا التزمل ما روي في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وهو في غار حراء - في ابتداء الوحي - رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال : زملوني زملوني ، لقد خشيت على نفسي ، وأخبرها بما جرى ، فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } " أي يا أيها الذي تلفف بقطيفته ، واضطجع في زاوية بيته ، وقد أشبه من يُؤثر الراحة والسكون ، ويحاول التخلص مما كُلف به من مهمات الأمور { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي دع التزمل والتلفف ، وانشط لصلاة الليل ، والقيام فيه ساعات في عبادة ربك ، لتستعد للأمر الجليل ، والمهمة الشاقة ، ألا وهي تبليغ دعوة ربك للناس ، وتبصيرهم بالدين الجديد … ثم وضَّح المقدار الذي ينبغي أن يصرفه في عبادة الله فقال { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي قم للصلاة والعبادة نصف الليل ، أو أقل من النصف قليلاً ، أو أكثر من النصف ، والمراد أن تكون هذه الساعات طويلة بحيث لا تقل عن ثلث الليل ، ولا تزيد على الثلثين قال ابن عباس : إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله { قُمِ ٱلَّيلَ } ثم نسخ بقوله تعالى { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } وكان بين أول هذا الوجوب ونسخه سنة ، وهذه هي السورة التي نسخ آخرها أولها ، حيث رحم الله المؤمنين فأنزل التخفيف عليهم بقوله { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ . … } الآية { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } أي اقرأ القرآن أثناء قيامك في الليل قراءة تثبت وتؤَدة وتمهل ، ليكون عوناً لك على فهم القرآن وتدبره ، قال الخازن : لما أمره تعالى بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن ، حتى يتمكن المصلي من حضور القلب ، والتفكر والتأمل في حقائق الآيات ومعانيها ، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر بقلبه عظمة الله وجلاله ، وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل له الرجاء والخوف ، وعند ذكر القصص والأمثال يحصل له الاعتبار ، فيستنير القلب بنور معرفة الله ، والإِسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني ، فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل ، إنما هو حضور القلب عند القراءة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطِّع القراءة حرفاً حرفاً - أي يقرأ القرآن بتمهل ، ويخرج الحروف واضحة - لا يمر بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل ، ولا يمر بآية عذابٍ إلا وقف وتعوَّذ … ثم بعد أن أمره تعالى باطراح النوم ، وقيام الليل ، وتدبر القرآن وتفهمه ، انتقل إلى بيان السبب في هذه الأوامر الثلاثة ، ذات التكليف الصعب الشاق فقال { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أي سننزل عليك يا محمد كلاماً عظيماً جليلاً ، له هيبة وروعةٌ وجلال ، لأنه كلام الملك العلاَّم قال الإِمام الفخر : والمراد من كونه ثقيلاً هو عِظَم قدره ، وجلالة خطره ، وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقيل ، وهذا معنى قول ابن عباس : { قَوْلاً ثَقِيلاً } يعني كلاماً عظيماً ، وقيل المراد ما في القرآن من الأوامر والنواهي ، التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين ، ووجه النظم عندي أنه لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال : إنما أمرتك بصلاة الليل ، لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً ، ولا بد وأن تصيّر نفسك مستعدة لذلك القول العظيم ، وذلك بصلاة الليل ، فإن الإِنسان إذا اشتغل بعبادة الله في الليلة الظلماء ، وأقبل على ذكره والتضرع بين يديه ، استعدت نفسه لإِشراق وجلال الله فيها أقول : وهذا المعنى لطيف في الربط بين قيام الليل ، وتلاوة القرآن ، فإن الله تعالى كلَّف رسوله أن يدعو الناس إلى دين جديد ، فيه تكاليف شاقة على النفس ، وأن يكلفهم العمل بشرائعه وأحكامه ، ولا شك أن مثل هذا التكليف ، يحتاج إلى مجاهدة للنفس ومصابرة ، لما فيه من حملهم على ترك ما ألفوه من العقائد ، ونبذ ما ورثوه من أسلافهم من العادات ، فأنت يا محمد معرَّضٌ لمتاعب كثيرة ، وأخطار جمة في سبيل هذه الدعوة ، وحمل الناس على قبولها ، فكيف يمكنك أن تقوم بهذه المهمة الكبيرة ، وأنت على ما أنت عليه من التزمل والتلفف ، والخلود إلى الراحة والسكون ، والبعد عن المشاقِّ ، ومجاهدة النفس بطول العبادة وكثرة التهجد ، ودراسة آيات القرآن دراسة تفهم وتدبر ؟ فانشط من مضجعك إِذاً ، واسهر معظم ليلك في مناجاة ربك ، استعداداً لتحمل مشاق الدعوة ، والتبشير بهذا الدين الجديد ، ويا لها من لفتةٍ كريمة ، تيقَّظَ لها قلبُ النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، فشمَّر عن ساعد الجد والعمل ، وقام بين يدي ربه حتى تشققت قدماه . . ثم بيَّن تعالى فضل إحياء الليل بالعبادة فقال { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } أي إن ساعات الليل وأوقاته التي فيها التفرغ والصفاء ، وما ينشئه المرء ويحدثه من طاعةٍ وعبادة ، يقوم لها من مضجعه بعد هدأةٍ من الليل { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } أي هي أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار ، لأن الليل جعل للنوم والراحة ، فقيامه على النفس أشد وأثقل ، ومن شأن هذه الممارسة الصعبة أن تقوّي النفوس ، وتشد العزائم ، وتصلب الأبدان ، ولا ريب أن مصاولة الجاحدين أعداء الله تحتاج إلى نفوس قوية ، وأبدان صلبة { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي أثبتُ وأبينُ قولاً ، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات ، وتنقطع فيه الحركات ، فتكون النفس أصفى ، والذهن أجمع ، فإن هدوَّ الصوت في الليل ، وسكون البشر فيه ، أعون للنفس على التدبر والتفطن ، والتأمل في أسرار القرآن ومقاصده { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } أي إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً ، واشتغالاً طويلاً في شئونك ، فاجعل ناشئة الليل لتهجدك وعبادتك قال في التسهيل : السبحُ هنا عبارة عن التصرف في الأعمال والأشغل والمعنى : يكفيك النهار للتصرف في أشغالك ، وتفرغ بالليل لعبادة ربك … وبعد أن قرر الخطاب الإِلهي هذه المقدمات التي هي بمثابة تمهيدٍ وبساطٍ للدعوة ، انتقل إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدعوة ، وتعليمه كيفية السير فيها عملاً ، بعد أن مهدها له نظراً فقال { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي استعن على دعوتك بذكر الله ليلاً ونهاراً ، وانقطع إليه انقطاعاً تاماً في عبادتك وتوكلك عليه ، ولا تعتمد في شأنٍ من شئونك على غيره تعالى قال ابن كثير : أي أكثر من ذكره وانقطع إليه جلا وعلا ، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك مع إخلاص العبادة له { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } أي هو جل وعلا الخالق المتصرف بتدبير شئون الخلق ، وهو المالك لمشارق الأرض ومغاربها ، لا إله غيره ولا ربَّ سواه ، فاعتمد عليه وفوّض أمورك إليه { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } أي اصبر على أذى هؤلاء السفهاء المكذبين فيما يتقولونه عليك من قولهم : " ساحر ، شاعر ، مجنون " فإن الله ناصرك عليهم { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } أي اتركهم ولا تتعرض لهم بأذى ولا شتيمة ، قال المفسرون : الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه ، ولا يشوبه أذى ولا شتم ، وقد كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال كما قال سبحانه { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأَنعام : 68 ] ثم أُمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقتلهم ، والحكمة في هذا أن المؤمنين كانوا بمكة قلة مستضعفين ، فأمروا بالصبر وبالمجاهدة الليلية ، حتى يُعدُّوا أنفسهم بهذه التربية الروحية على مناجزة الأعداء ، وحتى يكثر عددهم فيقفوا في وجه الطغيان ، أما قبل الوصول إلى هذه المرحلة فينبغي الصبر والاقتصار على الدعوة باللسان . . ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً صناديد قريش { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } أي دعني يا محمد وهؤلاء المكذبين بآياتي ، أصحاب الغنى ، والتنعم في الدنيا ، والترف والبطر فأنا أكفيك شرهم قال الصاوي : المعنى اتركني أنتقم منهم ، ولا تشفع لهم ، وهذا من مزيد التعظيم له صلى الله عليه وسلم ، وإِجلال قدره { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أي وأمْهِلهمْ زمناً يسيراً حتى ينالوا العذاب الشديد قال المفسرون : أمهلهم الله تعالى إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، فلما خرج منها سلَّط عليهم السنين المجدبة وهو العذاب العام ، ثم قتل صناديدهم ببدر وهو العذاب الخاص … ثم وصف تعالى ما أعده لهم من العذاب في الآخرة فقال { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } أي إنَّ لهم عندنا في الآخرة قيوداً عظيمة ثقيلة يقيدون بها ، وناراً مستعرة هي نار الجحيم يحرقون بها قال في التسهيل : الأنكال جمع نِكْل وهو القيد من الحديد ، وروي أنها قيود سودٌ من نار { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } أي وطعاماً كريهاً غير سائغ ، يغصُّ به الإِنسان وهو الزقوم والضريع قال ابن عباس : شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل { وَعَذَاباً أَلِيماً } أي وعذاباً وجيعاً مؤلماً ، زيادة على ما ذكر من النكال والأغلال … ثم ذكر تعالى وقت هذا العذاب فقال { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } أي يوم تتزلزل الأرض وتهتز بمن عليها اهتزازاً عنيفاً شديداً هي وسائر الجبال ، وذلك يوم القيامة { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } أي وتصبح الجبال على صلابتها تلاً من الرمل سائلاً متناثراً ، بعد أن كانت صلبة جامدة قال ابن كثير : أي تصير الجبال ككثبان الرمال ، بعد ما كانت حجارة صماء ، ثم إنها تُنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب كقوله تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 105 - 107 ] أي لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع … ذكر تعالى العذاب المؤلم الذي أعده للمشركين ، ومكانه وهو الجحيم ، وآلاته وهي القيود وطعام الزقوم ، ووقته وهو عند اضطراب الأرض وتزلزلها بمن عليها ، وأراد بذلك تخويف المكذبين وتهديدهم بأنه تعالى سيعاقبهم بذلك كله ، إن بقوا مستمرين في تكذيبهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، ثم أعقبه بتذكيرهم بما حلَّ بالأمم الباغية التي قد خلت من قبلهم ، وكيف عصت وتمردت فأنزل بها من أمره ما أنزل ، وضرب لهم المثل بفرعون الجبار فقال { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ } أي بعثنا لكم يا أهل مكة محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً على أعمالكم ، يشهد عليكم بما صدر منكم من الكفر والعصيان { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } أي كما بعثنا إلى ذلك الطاغية فرعون الجبار ، رسولاً من أولئك الرسل العظام " أولي العزم " وهو موسى بن عمران قال الخازن : وإِنما خصَّ فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل ، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه وُلد فيهم ، كما أن فرعون أزدرى بموسى وآذاه لأنه ربَّاه { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } أي فكذب فرعون بموسى ولم يؤمن به ، وعصى أمره كما عصيتم يا معشر قريش محمداً صلى الله عليه وسلم وكذبتم برسالته { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } أي فأهلكناه إهلاكاً شديداً فظيعاً ، خارجاً عن حدود التصور ، وذلك بإِغراقه في البحر مع قومه قال أبو السعود : وفي الآية التنبيه على أنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة ، و " الوبيلُ " الثقيل الغليظ من قولهم كلأٌ وبيل أي وخيم لا يستمرأ لثقله . . وبعد أن ذكر الله أخذه لفرعون ، وأن ملكه وجبروته لم يدفعا عنه العذاب ، عاد فذكَّر كفار مكة بالقيامة وأهوالها ليبيّن لهم أنهم لن يفلتوا من العذاب كما لم يفلت فرعون مما حدث له فقال { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } أي كيف لا تحذرون وتخافون يا معشر قريش عذاب يوم هائل إن كفرتم بالله ولم تؤمنوا به ؟ وكيف تأمنون ذلك اليوم الرهيب الذي يشيب فيه الوليد من شدة هوله ، وفظاعة أمره ؟ قال الطبري : وإنما تشيب الولدان من شدة هوله وكربه ، وذلك حين يقول الله لآدم : أخرج من ذريتك بعث النار ، من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون ، فيشيب هنالك كل وليد … ثم زاد في وصفه وهوْله فقال { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } أي السماء متشققة ومتصدّعة من هول ذلك اليوم الرهيب العصيب { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } أي كان وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعاً لا محالة ، لأن الله لا يخلف الميعاد { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } أي إن هذه الآيات المخوّفة ، التي فيها القوارع والزواجر ، عظةٌ وعبرةٌ للناس { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } أي فمن شاء من الغافلين الناسين ، أن يستفيد من هذه التذكرة قبل فوات الأوان ، فليسلك طريقاً موصلاً إلى الرحمن ، بالإِيمان والطاعة ، فالأسبابُ ميسرة ، والسبل معبَّدة ، قال المفسرون : والغرض الحضُّ على الإِيمان وطاعة الله عز وجل ، والترغيب في الأعمال الصالحة ، لتبقى ذخراً في الآخرة … ثم عادت الآيات الكريمة للحديث عمَّا بدأته في أول السورة من قيام الليل فقال تعالى { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } أي إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم مع أصحابك للتهجد والعبادة أقل من ثلثي الليل ، وتارة تقومون نصفه ، وتارةً ثلثه كقوله تعالى { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18 ] { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي والله جل وعلا هو العالم بمقادير الليل والنهار ، وأجزائهما وساعاتهما ، لا يفوته علم ما تفعلون من قيام هذه الساعات في غلس الظلام ابتغاء رضوانه ، وهو تعالى المدبّر لأمر الليل والنهار { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي علم تعالى أنكم لن تطيقوا قيام الليل كله ولا معظمه ، فرحمكم ورجع عليكم بالتخفيف قال الطبري : أي علم ربكم أن لن تطيقوا قيامه ، فتاب عليكم بالتخفيف عنكم { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، وإنما عبَّر عن الصلاة بالقراءة ، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة قال ابن عباس : سقط عن أصحاب رسول الله قيام الليل وصارت تطوعاً ، وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم … ثم بين تعالى الحكمة في هذا التخفيف فقال { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } أي علم تعالى أنه سيوجد فيكم من يعجزه المرضُ عن قيام الليل ، فخفف عنكم رحمة بكم { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } أي وقوم آخرون يسافرون في البلاد للتجارة ، يطلبون الرزق وكسب المال الحلال { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي وقوم آخرون وهم الغزاة المجاهدون ، يجاهدون في سبيل الله لإِعلاء كلمته ونشر دينه ، وكل من هذه الفرق الثلاثة يشقُّ عليهم قيام الليل ، فلذلك خفف الله عنهم ، ذكر تعالى في هذه الآية الأعذار التي تكون للعباد تمنعهم من قيام الليل ، فمنها المرض ، ومنها السفر للتجارة ، ومنها الجهاد في سبيل الله ، ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر من القرآن تأكيداً للتخفيف عنهم قال الإِمام الفخر : أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم ، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشغولون في النهار بالأعمال الشاقة ، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم ، فلذلك خفف الله عنهم وصار وجوب التهجد منسوخاً في حقهم { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } أي فصلوا ما تيسَّر لكم من صلاة الليل ، واقرءوا في صلاتكم ما تيسر من القرآن { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } أي وأدوا الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل ، والزكاة الواجبة عليكم إلى مستحقيها قال المفسرون : قلَّما يُذكر الأمر بالصلاة في القرآن ، إلا ويُقرن معه الأمر بالزكاة ، فإن الصلاة عماد الدين بين العبد وربه ، والزكاة كذلك عماد الدين بينه وبين إِخوانه ، والصلاة أعظم العبادات البدنية ، والزكاة أعظم العبادات المالية { وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي تصدقوا في وجوه البر والإِحسان ابتغاء وجه الله قال ابن عباس : يريد سائر الصدقات سوى الزكاة ، من صلة الرحم ، وقرى الضيف وغيرهما { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } أي أيَّ شيء تفعلوه أيها الناس من وجوه البر والخير تلقوا أجره وثوابه عند ربكم { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } أي تجدوا ذلك الأجر والثواب يوم القيامة خيراً لكم مما قدمتم في الدنيا من صلح الأعمال ، فإن الدنيا فانية والآخرة باقية ، وما عند الله خيرٌ للأبرار { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } أي اطلبوا مغفرة الله في جميع أحوالكم ، فإن الإِنسان قلَّما يخلو من تقصير أو تفريط { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة ، واسع الرحمة . . ختم تعالى السورة بإِرشاد المنفقين المحسنين ، إلى أن يطلبوا من الله الصفح والعفو ، إذ ربما كانوا لم يخلصوا النية في الإِنفاق ، أو لم يحسنوا العمل في الإِقراض ، فيضعوا النفقة في غير مواضعها ، أو ينفقوها فيما لهم فيه غرض وشهوة ، وهو ختم يتناسق مع موضوع الإِنفاق ، فسبحان منزل القرآن بأوضح بيان ! ! البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { ٱنقُصْ مِنْهُ … أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } وبين { ٱلْمَشْرِقِ … وَٱلْمَغْرِبِ } وبين { ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } . 2 - جناس الاشتقاق { أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً } . 3 - تأكيد الفعل بالمصدر مثل { رَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } زيادة في البيان والإِيضاح . 4 - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً } ولو جرى على الأصل لقال إنا أرسلنا إليهم ، والغرض من الالتفات التقريع والتوبيخ على عدم الإِيمان . 5 - المجاز المرسل { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } أراد به الصلاة ، فأطلق اسم الجزء على الكل ، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة . 6 - ذكر العام بعد الخاص { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ } عمَّم بعد ذكر الصلاة ، والزكاة ، والإِنفاق ليعم جميع الصالحات . 7 - الاستعارة التبعية { وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } شبَّه الإِحسان إلى الفقراء والمساكين بإقراض رب العالمين ، وهو من لطيف الاستعارة . 8 - السجع المرصَّع مثل { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } الخ .