Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 75, Ayat: 1-40)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { بَنَانَهُ } البَنان : أطراف الأصابع أو الأصابع نفسها جمع بنانة قال النابغة : @ بمخضَّبٍ رَخْصٍ كأنه بَنَانَهُ عَنمٌ يكاد من اللطافة يُعْقد @@ { بَرِقَ } فزع وبُهت وتحيَّر ، وأصله النظر إلى البرق فيدهش البصر قال ذو الرمة : @ وَلو أَنَّ لُقمان الحكيم تعرضتْ لِعينيه ميٌّ سافراً كاد يبرق @@ { وَزَرَ } ملجأ وحصن يلتجىء إليه { نَّاضِرَةٌ } حسنة مشرقة متهلّلة ، والنُضرة : النعمة وجمال البشرة والإِشراقة الجميلة { بَاسِرَةٌ } شديدة الكلوحة والعبوس يقال : بَسرَ وجهه إِذا اشتد في عبوسه وكلاحته { فَاقِرَةٌ } الفاقرة : الداهية والأمر العظيم يقال : فَقَرته المصيبة أي كسرت فَقَار ظهره { يَتَمَطَّىٰ } يتبختر في مشيته اختيالاً وكبراً . التفسِير : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي أقسم بيوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } أي وأقسم بالنفس المؤمنة التقية ، التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات ، وفعل الموبقات قال المفسرون : { لاَ } لتأكيد القسم ، وقد اشتهر في كلام العرب زيادة { لاَ } قبل القسم لتأكيد الكلام ، كأنه من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قسم ، وجوابُ القسم محذوف تقديره " لتبعثنَّ ولتحاسبنَّ " دل عليه قوله { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ؟ … أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهوله ، وأقسم بالنفس التي تلوم صاحبها على التقصير في جنب الله ، وتستغفر وتنيب مع طاعتها وإِحسانها قال الحسن البصري : هي نفس المؤمن ، إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه : ماذا أردتُ بكلامي ؟ وماذا أردتُ بعملي ؟ وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، أي أيظن هذا الإِنسان الكافر ، المكذب للبعث والنشور ، أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها ؟ قال المفسرون : نزلت هذه الآية في " عدي بن ربيعة " جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد : حدثني عن يوم القيامة ، متى يكون ؟ وكيف أمره ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن بك ، كيف يجمع الله العظام ؟ فنزلت هذه الآية ، قال تعالى رداً عليه { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } أي بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نعيد أطراف أصابعه ، التي هي أصغر أعضائه ، وأدقها أجزاءً وألطفها التئاماً ، فكيف بكبار العظام ؟ وإنما ذكر تعالى البنان - وهي رءوس الأصابع - لما فيها من غرابة الوضع ، ودقة الصنع ، لأن الخطوط والتجاويف الدقيقة التي في أطراف أصابع إنسان ، لا تماثلها خطوطٌ أُخرى في أصابع شخص آخر على وجه الأرض ، ولذلك يعتمدون على بصمات الأصابع في تحقيق شخصية الإِنسان في هذا العصر { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } أي بل يريد الإِنسان بهذا الإِنكار أن يستمر على الفجور ، ويقدم على الشهوات والآثام ، دون وازع من خُلُق أو دين ، وينطلق كالحيوان ليس له همٌ إلا نيل شهواته البهيمية ، ولذلك ينكر القيامة ويكذب بها { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } أي يسأل هذا الكافر الفاجر - على سبيل الاستهزاء والتكذيب - متى يكون هذا اليوم يوم القيامة ؟ قال الرازي : والسؤال هنا سؤال متعنت ومستبعد لقيام الساعة ، ونظيره { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } [ يونس : 48 ] ولذلك ينكر المعاد ويكذب بالبعث والنشور ، والغرض من الآية { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } أن الإِنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات ، والاستكثار من اللذات ، لا يكاد يُقر بالحشر والنشر ، وبعث الأموات ، لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية ، فيكون أبداً منكراً لذلك ، قائلاً على سبيل الهزء والسخرية : أيَّان يومُ القيامة ، قال تعالى رداً على هؤلاء المنكرين { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } أي فإِذا زاغ البصر وتحيَّر ، وانبهر من شدة الأهوال والمخاطر { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } أي ذهب ضوءه وأظلم { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } أي جمع بينهما يوم القيامة ، وأُلقيا في النار ليكونا عذاباً على الكفار قال عطاء : يجمعان يوم القيامة ثم يُقذفان في البحر ، فيكون نار الله الكبرى { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } أي يقول الفاجر الكافر في ذلك اليوم : أين المهرب ؟ وأين الفرار والمنجى من هذه الكارثة الداهية ؟ يقول قول الآيس ، لعلمه بأنه لا فرار حينئذٍ { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } ردعٌ له عن طلب الفرار ، أي ليرتدع وينزجر عن ذلك القول ، فلا ملجأ له ، ولا مغيث من عذاب الله { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } أي إلى الله وحده مصير ومرجع الخلائق قال الألوسي : إليه جل وعلا وحده استقرار العباد ، لا ملجأ ولا منجى لهم غيره … والمقصود من الآيات بيان أهوال الآخرة ، فالأبصار تنبهر يوم القيامة ، وتخشع وتحار من شدة الأهوال ؛ ومن عظم ما تشاهده من الأمور العظيمة ، والإِنسان يطيش عقله ، ويذهب رشده ، ويبحث عن النجاة والمخلص ، ولكن هيهات فقد جاءت القيامة وانتهت الحياة { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أي يُخبر الإِنسان في ذلك اليوم بجميع أعماله ، صغيرها وكبيرها ، عظيمها وحقيرها ، ما قدَّمه منها في حياته ، وما أخره بعد مماته ، من سنةٍ حسنة أو سيئة ، ومن سمعة طيبةٍ أو قبيحة وفي الحديث " من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنَّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } أي بل هو شاهد على نفسه ، وسوء عمله ، وقبح صنيعه ، لا يحتاج إلى شاهد آخر كقوله { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإِسراء : 14 ] والهاءُ في { بَصِيرَةٌ } للمبالغة كراوية وعلاَّمة قال ابن عباس : الإِنسان شاهد على نفسه وحده ، يشهد عليه سمعُه ، وبصره ، ورجلاه ، وجوارحه { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } أي ولو جاء بكل معذرة ليبرِّر إجرامه وفجوره ، فإنه لا ينفعه ذلك ، لأنه شاهدٌ على نفسه ، وحجةٌ بينة عليها قال الفخر : المعنى أن الإِنسان وإن اعتذر عن نفسه ، وجادل عنها ، وأتى بكل عذر وحجة ، فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه بما جنت واقترفت من الموبقات . . وبعد هذا البيان انتقل الحديث إلى القرآن ، وطريقة تلقي الوحي عن جبريل فقال تعالى مخاطباً رسوله { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي عليك بواسطة جبريل ، لأجل أن تتعجل بحفظه مخافة أن يتفلَّت منك { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } أي إن علينا أن نجمعه في صدرك يا محمد وأن تحفظه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي فإِذا قرأه عليك جبريل ، فأنصت لاستماعه حتى يفرغ ، ولا تحرك شفتيك أثناء قراءته { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي ثم إن علينا بيان ما أشكل عليك فهمه يا محمد من معانيه وأحكامه ، قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك به لسانه وشفتيه ، مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ … } الآيات ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق واستمع ، فإِذا ذهب قرأه كما وعد الله عز وجل قال ابن عباس { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قال : فاستمعْ وأَنصت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } قال : أن نبينه بلسانك وقال ابن كثير : كان صلى الله عليه وسلم يبادر إلى أخذ القرآن ، ويسابق الملك في قراءته ، فأمره الله عز وجل أن يستمع له ، وتكفل له أن يجمعه في صدره ، وأن يبينه له ويوضحه ، فالحالة الأولى جمعه في صدره ، والثانية تلاوتُه ، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ثم عاد الحديث عن المكذبين بيوم الدين فقال تعالى مخاطباً كفار مكة { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ } أي ارتدعوا يا معشر المشركين ، فليس الأمر كما زعمتم أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء ، بل أنتم قومٌ تحبون الدنيا الفانية ، وتتركون الآخرة الباقية ، ولذلك لا تفكرون في العمل للآخرة مع أنها خيرٌ وأبقى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } لما ذكر تعالى أن الناس يؤثرون الدنيا ولذائذها الفانية على الآخرة ومسراتها الباقية ، وصف ما يكون يوم القيامة من انقسام الخلق إلى فريقين : أبرار ، وفجار والمعنى وجوه أهل السعادة يوم القيامة مشرقة حسنة مضيئة ، من أثر النعيم ، وبشاشة السرور عليها ، كقوله تعالى { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } [ المطففين : 24 ] { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي تنظر إلى جلال ربها ، وتهيم في جماله ، أعظم نعيم لأهل الجنة رؤية المولى جلا وعلا والنظر إلى وجهه الكريم بلا حجاب قال الحسن البصري : تنظر إلى الخالق ، وحُقَّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وبذلك وردت النصوص الصحيحة { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } أي ووجوهٌ يوم القيامة عابسة كالحة ، شديدة العبوس والكلوح ، وهي وجوه الأشقياء أهل الجحيم { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } أي تتوقع أن تنزل بها داهية عظمى ، تقصم فقار الظهر ، قال ابن كثير : هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة كالحة عابسة ، تستيقن أنها هالكة ، وتتوقع أن تحل بها داهية تكسر فقار الظهر { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ } { كَلاَّ } ردعٌ وزجر عن إِيثار العاجلة أي ارتدعوا يا معشر المشركين عن ذلك ، وتنبهوا لما بين أيديكم من الأهوال والمخاطر ، فإن الدنيا دار الفناء ، ولا بد أن تتجرعوا كأس المنية ، وإِذا بلغت الروح { ٱلتَّرَاقِيَ } أعالي الصدر ، وشارف الإِنسان على الموت { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي وقال أهله وأقرباؤه : من يرقيه ويشفيه ممَّا هو فيه ؟ قال في البحر : ذكَّرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة ، حين تبلغ الروح التراقي - وهي عظام أعلى الصدر - فقال أهله : من يرقي ويطب ويشفي هذا المريض ؟ { وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } أي وأيقن المحتضر أنه سيفارق الدنيا والأهل والمال ، لمعاينته ملائكة الموت { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } أي والتفت إحدى ساقي المحتضر على الأخرى ، من شدة كرب الموت وسكراته قال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن ، وروي عن ابن عباس أن المراد اجتمعت عليه شدة مفارقة الدنيا ، مع شدة الموت وكربه ، فيكون ذلك من باب التمثيل للأمر الهائل العظيم ، حيث يلتقي عليه شدة كرب الدنيا ، مع شدة كرب الآخرة ، كما يقال : شمَّرت الحرب عن ساق ، استعارة لشدتها { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } أي إلى الله جل وعلا مساق العباد ، يجتمع عنده الأبرار والفجار ، ثم يُساقون إلى الجنة أو النار قال الخازن : أي مرجع العباد الى الله تعالى ، يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم . . ثم أخبر تعالى عن حال الجاحد المكذب فقال { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ } أي لم يصدق بالقرآن ، ولم يصل للرحمن قال أبو حيان : والجمهور على أنها نزلت في " أبي جهل " وكادت أن تصرح به في قوله { يَتَمَطَّىٰ } فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم ، وكان يكثر منها { وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } أي ولكن كذب بالقرآن ، وأعرض عن الإِيمان { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } أي ذهب يتبختر في مشيته ، وذلك عبارة عن التكبر والخيلاء { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } أي ويلٌ لك يا أيها الشقي ثم ويلٌ لك قال المفسرون : هذه العبارة في لغة العرب ذهبت مذهب المثل في التخويف والتحذير والتهديد ، وأصلها أنها أفعل تفضيل من وليه الشيء إِذا قاربه ودنا منه أي وليك الشر وأوشك أن يصيبك ، فاحذر وانتبه لأمرك … روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبي جهل ثم قال له : { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } فقال أبو جهل : أتتوعدني يا محمد وتهددني ؟ والله لا تستطيع أنتَ وربُك أن تفعلا بي شيئاً ، والله إني لأعزُّ أهل الوادي ، ثم لم يلبث أن قتل ببدر شر قتلة { ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } كرره مبالغة في التهديد والوعيد ، كأنه يقول : إني أكرر عليك التحذير والتخويف ، فاحذر وانتبه لنفسك ، قبل نزول العقوبة بك . . ولما ذكر في أول السورة إمكان البعث ، ذكر في آخر السورة الأدلة على البعث والنشور فقال { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } ؟ أي أفيظن الإِنسان أن يُترك هملاً ، من غير بعثٍ ولا حساب ولا جزاءٍ ؟ وبدون تكليف بحيث يبقى كالبهائم المرسلة ؟ لا ينبغي له ولا يليق به هذا الحُسبان { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } الاستفهام للتقرير أي أما كان هذا الإِنسان نطفة ضعيفة من ماءٍ مهين ، يراق ويُصب في الأرحام ؟ والغرض بيان حقارة حاله كأنه يقول إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى البول { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ } أي ثم أصبح بعد ذلك قطعة من دم غليظ متجمد يشبه العلقة ، فخلقه الله بقدرته في أجمل صورة ، وسوَّى صورته وأتقنها في أحسن تقويم { فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } أي فجعل من هذا الإِنسان صنفين ، ذكراً وأنثى بقدرته تعالى ، هذا هو أصل الإِنسان وتركيبه ، فكيف يليق بمثل هذا الضعيف أن يتكبر على طاعة الله ؟ { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } أي أليس ذلك الإِله الخالق الحكيم ، الذي أنشأ هذه الأشياء العجيبة ، وأوجد الإِنسان من ماءٍ مهين ، بقادرٍ على إعادة الخلق بعد فنائهم ؟ بلى إنه على كل شيء قدير روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : " سبحانك اللهم بلى " " . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { قَدَّمَ … وَأَخَّرَ } وكذلك بين { صَدَّقَ … وكَذَّبَ } . 2 - الاستفهام الإِنكاري بغرض التوبيخ { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ؟ ومثله { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } ؟ لأن الغاية التوبيخ والتقريع . 3 - استبعاد تحقق الأمر { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } فالغرض من الاستفهام الاستبعاد والإِنكار . 4 - الجناس غير التام بين { بَنَانَهُ } و { بَيَانَهُ } لاختلاف بعض الحروف . 5 - المقابلة اللطيفة بين نضارة وجوه المؤمنين ، وكلاحة وجوه المجرمين { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وبين { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ … } الخ . 6 - الجناس الناقص بين لفظ { ٱلسَّاقُ } و { ٱلْمَسَاقُ } . 7 - المجاز المرسل { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } عبر بالوجه عن الجملة فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل . 8 - الالتفات { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } فيه التفات من الغيبة إلى المخاطب تقبيحاً له وتشنيعاً . 9 - توافق الفواصل ويسمى في علم البديع السجع المرصَّع مثل { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ * وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ * وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ * يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } وهذا من خصائص القرآن ، معجزة محمد عليه الصلاة والسلام .