Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-31)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { أَمْشَاجٍ } أخلاط جمع مشج ومشيج مثل شريف وأشراف ، يقال للشيء اذا خلط بغيره : مشيجٌ كخليط لفظاً ومعنى { مُسْتَطِيراً } منتشراً غاية الانتشار يقال : استطار الشيء انتشر { قَمْطَرِيراً } القمطرير : الشديد العصيب الذي يطول بلاؤه قال الأخفش : القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء { وَدَانِيَةً } قريبة { وَذُلِّلَتْ } سخرت وقربت { سَلْسَبِيلاً } السلسبيل : الشراب اللذيذ الذي هو غاية في السلالة ، والذي يسهل في الحلق لعذوبته وصفائه { سُندُسٍ } السندس : الرقيق من ثياب الحرير { إِسْتَبْرَقٌ } ثياب الحرير الغليظة ويسمى الديباج { أَسْرَهُمْ } الأسر في الاصل : الشد والربط ، ثم أطلق على الخلق يقال : شدَّ أسره أي أحسن خلقه وأحكم تكوينه قال الأخطل : @ من كل مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالاً @@ التفسِير : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } أي قد مضى على الإِنسان وقت طويل من الزمان { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } أي كان في العدم ، لم يكن له ذكر ولا وجود قال ابن كثير : يخبر تعالى عن الإِنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه قال المفسرون : { هَلْ أَتَىٰ } بمعنى قد أتى كما تقول : هل رأيت صنيع فلان ، وقد علمت أنه قد رآه ، وتقول : هل أكرمتك ، هل وعظتك ؟ ومقصودك أن تقرره بأنك قد أكرمته ووعظته ، والمرادُ بالإِنسان الجنس ، وبالحين مدة لبثه في بطن أمه ، والغرض من الآية تذكير الإِنسان بأصل نشأته ، فقد كان شيئاً منسياً لا يفطن له ، وكان في العدم جرثومة في صلب أبيه ، وماءً مهيناً لا يعلم به إِلا الذي يريد أن يخلقه ، ومرَّ عليه حينٌ من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه ، ثم خلقه الله ، وأبدع تكوينه وإِنشاءه ، بعد أن كان مغموراً ومنسياً لا يعلم به أحد … وبعد أن قرر أن الإِنسان مرَّ عليه وقت لم يكن موجوداً ، أخذ يشرح كيف أفاض عليه نعمة الوجود ، واختبره بالتكاليف الشرعية بعد أن متَّعه بنعمة العقل والحواس فقال { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } أي نحن بقدرتنا خلقنا هذا الانسان من ماءٍ مهين - وهو المنيُّ - الذي ينطف من صلب الرجل ، ويختلط بماء المرأة " البويضة الأنثوية " فيتكون منهما هذا المخلوق العجيب قال ابن عباس : { أَمْشَاجٍ } يعني أخلاط ، وهو ماء الرجل وماء المرأة اذا اجتمعا واختلطا ، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور ، ومن حال إِلى حال { نَّبْتَلِيهِ } أي لنختبره بالتكاليف الشرعية ، والأوامر الإِلهية ، لننظر أيشكر أم يكفر ؟ وهل يستقيم في سيره أم ينحرف ويزيغ ؟ { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } أي فجعلناه من أجل ذلك عاقلاً مميزاً ، ذا سمع وبصر ، ليسمع الآيات التنزيلية ، ويبصر الدلائل الكونية ، على وجود الخالق الحكيم قال الإِمام الفخر : أعطاه تعالى ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز ، كما قال تعالى حاكياً عن إِبراهيم { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ } [ مريم : 42 ] ؟ وقد يراد بهما الحاستان المعروفتان ، وخصَّهما بالذكر لأنهما أعظم الحواسِّ وأشرفها { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أي بيَّنا للإِنسان وعرَّفناه طريق الهدى والضلال ، والخير والشر ، ببعثة الرسل ، وإِنزال الكتب … أخبر تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة ، بيَّن له سبيل الهدى والضلال ، ومنحه العقل وترك له حرية الاختيار ، ثم هو بعد ذلك إِما أن يشكر ، أو يكفر ، ولهذا قال بعده { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أي إِما أن يكون مؤمناً شاكراً لنعمة الله ، فيسلك سبيل الخير والطاعة ، وإِما أن يكون شقياً فاجراً ، فيكفر بنعمة الله ويسلك سبيل الشر والفجور قال المفسرون : المراد هديناه السبيل ليكون إِمَّا شاكراً وإِمّا كفوراً ، فالله تعالى دلَّ الإِنسان على سبيل الشكر والكفر ، وعلى الإِنسان أن يختار سلوك هذا أو ذاك ، وهذه الآية من جملة الآيات الكثيرة الدالة على أن للإِنسان إِرادةً واختياراً هما مناط التكليف ، كقوله تعالى { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ } [ الإِسراء : 18 ] إلى { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا } [ الإِسراء : 19 ] وكقوله { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] فلا إِكراه لأحدٍ ولا إِجبار ، وإِنما هو بمحض الإِرادة والاختيار … ثم بعد هذا البيان الواضح ، بيَّن ما أعدَّه للأبرار والفجار في دار القرار فقال { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } أي هيأنا للكافرين المجرمين قيوداً تشدُّ بها أرجلهم ، وأغلالاً تُغلُّ بها أيديهم إلى أعناقهم ، وسعيراً أي ناراً موقدة مستعرة يحرقون بها كقوله تعالى { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71 - 72 ] { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } أي الذين كانوا في الدنيا أبراراً بطاعتهم الجبار ، فإِنهم يشربون كأساً من الخمر ، ممزوجة بأنفس أنواع الطيب وهو الكافور ، قال المفسرون : الكافور طيبٌ معروف يستحضر من أشجار ببلاد الهند والصين ، وهو من أنفس الطيب عند العرب ، والمراد أن من شرب تلك الكأس وجد في طيب رائحتها ، وفوحان شذاها كالكافور . قال بن عباس : الكافور اسم عين ماءٍ في الجنة يقال له عين الكافور تمتزج الكأس بماء هذه العين وتختم بالمسك فتكون ألذَّ شراب ، ولهذا قال تعالى { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } أي هذا الكافور يتدفق من عينٍ جارية من عيون الجنة يشرب منها عباد الله الأبرار ، وصفهم بالعبودية تكريماً لهم وتشريفاً بإِضافتهم إِليه تعالى { عِبَادُ ٱللَّهِ } والمراد بهم المؤمنون المتقون { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي يجرونها حيث شاءوا من الدور والقصور قال الصاوي : المراد أنها سهلة لا تمتنع عليهم ، ورد أن الرجل منهم يمشي في بيوته ، ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به الى الماء ، فيجري معه حيثما دار في منازله ، ويتبعه حيثما صعد إِلى أعلى قصوره . . ولما ذكر ثواب الأبرار ، بيَّن صفاتهم الجليلة التي استحقوا بها ذلك الأجر الجزيل فقال { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } أي يوفون بما قطعوه على أنفسهم من نذرٍ في طاعة الله ، إِذا نذروا طاعةً فعلوها قال الطبري : النذرُ كلُّ ما أوجبه الإِنسان على نفسه من فعل ، فإِذا نذروا بروا بوفائهم لله ، بالنذور التي في طاعة الله ، من صلاة ، وزكاة ، وحج ، وصدقة قال المفسرون : وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات ، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه ، كان بما أوجبه الله عليه أوفى { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } أي ويخافون هول يومٍ عظيم كانت أهواله وشدائده - من تفطر السماوات ، وتناثر الكواكب ، وتطاير الجبال ، وغير ذلك من الأهوال - ممتدة منتشرة فاشية ، بالغة أقصى حدود الشدة والفزع ، قال قتادة : استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى بلغ السماوات والأرض { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي ويطعمون الطعام مع شهوتهم له ، وحاجتهم إِليه { مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } أي فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً ، ويتيماً مات أبوه وهو صغير ، فعدم الناصر والكفيل ، وأسيراً وهو من أُسر في الحرب من المشركين قال الحسن البصري : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتى بالأسير ، فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له : أحسن إِليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه … نبَّه تعالى إِلى أن أولئك الأبرار مع حاجتهم إلى ذلك الطعام ، في سدِّ جوعتهم وجوعة عيالهم ، يطيبون نفساً عنه للبؤساء ، ويؤثرونهم به على أنفسهم كقوله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } أي إنما نحسن إِليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أي لا نبتغي من وراء هذا الإِحسان مكافأةً ، ولا نقصد الحمد والثناء منكم قال مجاهد : أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم به ، ليرغب في ذلك راغب { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } أي إِنما نفعل ذلك رجاء أن يقينا الله هول يومٍ شديد ، تعبس فيه الوجوه من فظاعة أمره ، وشدة هوله ، وهو يومٌ قمطرير أي شديد عصيب { فَوَقَاهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ } أي حماهم الله ودفع عنهم شرَّ ذلك اليوم وشدته { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } أي وأعطاهم نضرةً في الوجه ، وسروراً في القلب ، والتنكير في { سُرُوراً } للتعظيم والتفخيم { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } أي وأثابهم بسبب صبرهم على مرارة الطاعة والإِيثار بالمال ، جنةً واسعة وألبسهم فيها الحرير كما قال تعالى { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] … وفي الآية إِيجازٌ ، آخذٌ بأطراف الإِعجاز ، فقد أشار تعالى بقوله { جَنَّةً } إلى ما يتمتع به أولئك الأبرار في دار الكرامة من أصناف الفواكة والثمار ، والمطاعم والمشارب الهنية ، فإِن الجنة لا تسمَّى جنة إِلا وفيها كل أسباب الراحة كما قال تعالى { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] وأشار بقوله { وَحَرِيراً } إلى ما يتمتعون به من أنواع الزينة واللباس ، التي من أنفسها وأغلاها عند العرب الحرير ، فقد جمع لهم أنواع الطعام والشراب واللباس ، وهو قُصارى ما تتطلع له نفوس الناس … ولما ذكر طعامهم ولباسهم وصف نعيمهم ومساكنهم فقال { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } أي مضطجعين في الجنة على الأسرَّة المزيَّنة بفاخر الثياب والستور قال المفسرون : الأرائك جمع أريكة وهي السرير ترخى عليه الحجلة ، والحجلة هي ما يسدل على السرير من فاخر الثياب والستور ، وإِنما خصَّهم بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } أي لا يجدون فيها حراً ولا برداً ، لأن هواءها معتدل فلا حرَّ ولا قرَّ ، وإِنما هي نسمات تهبُّ من العرش تحيي الأنفاس { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } أي ظلال الأشجار في الجنة قريبةٌ من الأبرار { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } أي أدنيت ثمارها منهم ، وسهل عليهم تناولها قال ابن عباس : إِذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلَّت إِليه حتى يتناول منها ما يريد … ولما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم ، وصف بعد ذلك شرابهم فقال { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ } أي يدور عليهم الخدم بالأواني الفضية فيها الطعام والشراب - على عادة أهل الترف والنعيم في الدنيا - فيتناول كل واحدٍ منهم حاجته ، وهذه الأواني هي الصّحاف بعضها من فضة وبعضها من ذهب كما قال تعالى { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ } [ الزخرف : 71 ] قال الرازي : ولا منافاة بين الآيتين ، فتارةً يسقون بهذا ، وتارة بذاك { وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } أي وأكواب - وهي كالأقداح - رقيقة شفافة كالزجاج في صفائه قال في البحر : ومعنى { كَانَتْ } أن الله تعالى أوجدها بقدرته ، فيكون تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن ، الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها ، وشفيف القوارير وصفائها { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي هي جامعة بين صفاء الزجاج ، وحسن الفضة قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إِلا الأسماء - يعني أن ما في الجنة أسمى وأشرف وأعلى - ولو أخذت فضةً من فضة الدنيا ، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب ، لم ير الماء من ورائها ، ولكنَّ قوارير الجنة ببياض الفضة ، مع صفاء القوارير { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } أي قدَّرها السُّقاة على مقدار حاجتهم ، لا تزيد ولا تنقص ، وذلك ألذُّ وأشهى قال ابن عباس : أتوا بها على قدر الحاجة لا يفضلون شيئاً ، ولا يشتهون بعدها شيئاً { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } أي يسقى هؤلاء الأبرار في الجنة كأساً من الخمر ممزوجةً بالزنجبيل ، والعرب تستلذ من الشراب ما مزج بالزنجبيل لطيب رائحته قال القرطبي : فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة الطيب قال قتادة : الزنجبيل اسمٌ لعينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً ، وتمزج لسائر أهل الجنة { عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } أي يشربون من عين في الجنة تسمى السلسبيل ، لسهولة مساغها وانحدارها في الحلق قال المفسرون : السلسبيل : الماء العذب ، السهل الجريان في الحلق لعذوبته وصفائه ، وإِنما وصف بأنه سلسبيل ، لأن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل ، ولكن ليس فيه لذعته ، فيشعر الشاربون بطعمه ، لكنهم لا يشعرون بحرافته ، فيبقى الشراب سلسبيلاً ، سهل المساغ في الحلق . . ثم وصف بعد ذلك خدم أهل الجنة فقال { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي ويدور على هؤلاء الأبرار ، غلمانٌ ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين { مُّخَلَّدُونَ } أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء قال القرطبي : أي باقون على ما هم عليه من الشباب ، والنضارة ، والغضاضة ، والحسن ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ويكونون على سن واحدة على مرِّ الأزمنة { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أي إِذا نظرتهم منتشرين في الجنة لخدمة أهلها ، خلتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإِشراق وجوههم ، كأنهم اللؤلؤ المنثور قال الرازي : هذا من التشبيه العجيب ، لأن اللؤلؤ إِذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر ، لوقوع شعاع بعضه على بعض فيكون أروع وأبدع ، { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } أي وإِذا رأيت هناك ما في الجنة من مظاهر الأنس والسرور ، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف ، وملكاً واسعاً عظيماً لا غاية له ، كما في الحديث القدسي " أعددتُ لعبادي الصالحين ، ما لا عينٌ رأتْ ، ولا أُذنٌ سمعت ، ولا خطَر على قلب بشر " قال ابن كثير : وثبت في الصحيح أن " أقل أهل الجنة منزلةً من له قدر الدنيا وعشرة أمثالها " فإِذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة ، فما ظنك بمن هو أعلى منزلةً وأحظى عنده تعالى ؟ ثم زاد تعالى في بيان وصف نعيمهم فقال { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } أي تعلوهم الثياب الفاخرة الخضراء ، المزينة بأنواع الزينة ، من الحرير الرقيق - وهو السندس - والحرير الثخين وهو - الاستبرق - فلباسهم في الجنة الحرير كما قال تعالى { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] قال المفسرون : السندس ما رقَّ من الحرير ، والاستبرق ما غلظ من الحرير ، وهذا لباس الأبرار في الجنة ، وإِنما قال { عَالِيَهُمْ } لينبه على أن لهم عدة من الثياب ، ولكنَّ الذي يعلوها هي هذه ، فتكون أفضلها { وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } أي وألبسوا في الجنة أساور فضية للزينة والحلية وعبَّر بالماضي إِشارةً لتحقق وقوعه قال الصاوي : فإِن قيل : كيف قال هنا { أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وفي سورة الكهف { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } [ الكهف : 31 ] وفي سورة فاطر { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } [ فاطر : 33 ] فالجواب أنهم تارةً يلبسون الذهب فقط ، وتارةً يلبسون الفضة ، وتارةً يلبسون اللؤلؤ فقط على حسب ما يشتهون ، ويمكن أن يجمع في يد أحدهم أسورة الذهب والفضة واللؤلؤ { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أي سقاهم الله - فوق ذلك النعيم - شراباً طاهراً لم تدنسه الأيدي ، وليس بنجس كخمر الدنيا قال الطبري : سُقي هؤلاء الأبرار شراباً طهوراً ، ومن طُهْره أنه لا يصير بولاً نجساً ، بل رشحاً من أبدانهم كرشح المسك ، روي أن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا ، فإِذا أكل سقي شراباً طهوراً ، فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيبُ ريحاً من المسك الإِذخر { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } أي يقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم نعيمها ، هذا مقابل أعمالكم الصالحة في الدنيا { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } أي وكان عملكم مقبولاً مرضياً ، جوزيتم عليه أحسن الجزاء ، مع الشكر والثناء . . مرَّ في الآيات السابقة أن الله تعالى أعدَّ للكافرين السلاسل والأغلال ، كما هيأ للأبرار أرائك يتكئون عليها ، وعليهم ثياب السندس والاستبرق ، وفي معاصمهم أساور الفضة ، وبين أيديهم ولدانٌ مخلدون كأنهم اللؤلؤ المنثور ، يطوفون على أولئك الأبرار بصحاف الفضة وأكوابها الصافية النقية ، وقد ملئت شراباً ممزوجاً بالزنجبيل والكافور ، وكلُّ ذلك للترغيب والترهيب ، على طريقة القرآن في المقارنة بين أحوال الأبرار والفجار … وبعد هذا الوضوح والبيان ، كان المشركون يقابلون كل هذه الآيات بالصدِّ والإِعراض ، والاستهزاء بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام ، وكان الرسول يتألم ويحزن لموقف المعاندين ، لذلك جاءت الآيات تشدُّ من عزيمته ، وتسلِّيه وتخفف عن قلبه الشريف آثار الهمِّ والضجر { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } أي نحن الذين أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن مفرقاً ، لتذكرهم بما فيه من الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، فلا تبتئس ولا تحزن ولا تضجر ، فالقرآن حقٌ ووعده صدقٌ { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي اصبر يا محمد وانتظر لحكم ربك وقضائه ، فلا بدَّ أن ينتقم منهم ، ويقر عينك بإِهلاكهم ، إِنْ عاجلاً أو آجلاً { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً } أي ولا تطع من هؤلاء الفجرة من كان { آثِماً } منغمساً في الشهوات ، غارقاً في الموبقات { أَوْ كَفُوراً } أي ولا تطع من كان مبالغاً في الكفر والضلال ، لا ينزجر ولا يرعوي ، وصيغة { كفور } من صيغ المبالغة ومعناها المبالغ في الكفر والجحود قال المفسرون : نزلت في " عتبة بن ربيعة " و " الوليد بن المغيرة " قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : إِن كنت تريد النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ونحن نكفيك ذلك ، فقال عتبة : أنا أُزوجك ابنتي وأسوقها لك من غير مهر ، وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى فنزلت ، والأحسنُ أنها على العموم لأن لفظها عام فهي تشمل كل فاسق وكافر { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } أي صلِّ لربك وأكثر من عبادته وطاعته { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي في أول النهار وآخره ، في الصباح والمساء { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ } أي ومن الليل فصلِّ له ، متهجداً مستغرقاً في مناجاته { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } أي وأكثر من التهجد والقيام لربك في جناح الظلام والناس نيام كقوله تعالى { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإِسراء : 79 ] والمقصود أن يكون عابداً لله ذاكراً له في جميع الأوقات ، في الليل والنهار ، والصباح والمساء ، بقلبه ولسانه ، ليتقوى على مجابهة أعدائه … وبعد تسلية النبي الكريم ، عاد إِلى شرح أحوال الكفرة المجرمين فقال { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } أي إِن هؤلاء المشركين يفضلون الدنيا على الآخرة ، وينهمكون في لذائذها الفانية { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } أي ويتركون أمامهم يوماً عسيراً شديداً ، عظيم الأهوال والشدائد ، وهو يوم القيامة { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أي نحن بقدرتنا أوجدناهم من العدم ، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق ، حتى كانوا أقوياء أشداء { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } أي ولو أردنا أهلكناهم ، ثم بدلنا خيراً منهم يكونون أعبد لله وأطوع ، وفي الآية تهديدٌ ووعيد { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } أي هذه الآيات الكريمة بمعناها الدقيق ، ولفظها الرشيق ، موعظة وذكرى ، يتذكر بها العاقل ، وينزجر بها الجاهل { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } أي فمن أراد الانتفاع والاعتبار وسلوك طريق السعادة ، فليعتبر بآيات القرآن ، وليستنر بنوره وضيائه ، وليتخذ طريقاً موصلاً إلى ربه ، بطاعته وطلب مرضاته ، فأسباب السعادة ميسورة ، وسبل النجاة ممهدة { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أي وما تشاءون أمراً من الأمور ، إِلا بتقدير الله ومشيئته ، ولا يحصل شيء من الطاعة والاستقامة إِلا بإِذنه تعالى وإِرادته ، قال ابن كثير : أي لا يقدر أحدٌ أن يهدي نفسه ، ولا يدخل في الإِيمان ، ولا يجر لنفسه نفعاً ، إلا بمشيئة الله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي عالم بأحوال خلقه ، حكيم في تدبيره وصنعه ، يعلم من يستحق الهداية فييسِّرها له ، ومن يستحق الضلالة فيسهل له أسبابها ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } أي يدخل من شاء من عباده جنَّته ورضوانه حسب مشيئته وحكمته وهم المؤمنون { وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي وأما المشركون الظالمون فقد هيأ لهم عذاباً شديداً مؤلماً في دار الجحيم ، ختم السورة الكريمة ببيان مآل المتقين ، ومآل الكفرة المجرمين . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { شَاكِراً … وكَفُوراً } وبين { بُكْرَةً … وَأَصِيلاً } وبين { شَمْساً … وزَمْهَرِيراً } . 2 - اللف والنشر المشوش { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ } فإِنه قدَّم أولاً ذكر الشاكر ثم الكافر { شَاكِراً أو كَفُوراً } ثم عاد بالذكر على الثاني دون الأول ففيه لف ونشر غير مرتب . 3 - المجاز العقلي { يَوْماً عَبُوساً } إِسناد العبوس إِلى اليوم من إِسناد الشيء إِلى زمانه كنهاره صائم . 4 - الجناس غير التام { فَوَقَاهُمُ … وَلَقَّاهُمْ } فبين وقاهم ولقاهم جناس . 5 - جناس الاشتقاق { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ } . 6 - الطباق { يُحِبُّونَ … وَيَذَرُونَ } . 7 - الايجاز بالحذف { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } أي يقال لهم : إِن هذا … الخ . 8 - التشبيه البديع الرائع { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أي كاللؤلؤ المنتثر . 9 - المقابلة اللطيفة { يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } قابل بين المحبة والترك وبين العاجلة والباقية . 10 - السجع المرصَّع مثل { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً … شَرَاباً طَهُوراً … وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً … آثِماً أَوْ كَفُوراً } الخ وهو من المحسنات البديعية .