Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 77, Ayat: 1-50)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { فُرِجَتْ } فتحت وشقت يقال : فرجت الشيء فانفرج أي فتحته فانفتح { كِفَاتاً } الكفت في اللغة : الضمُّ والجمع قال الشاعر : @ فأنت اليوم فوق الأرض حيٌّ وأنت غداً تضمُّك في كفات @@ { شَامِخَاتٍ } عاليات مرتفعات ، يقال : شمخ بأنفه إِذا رفعه كبراً { فُرَاتاً } عذباً شديد الحلاوة { بِشَرَرٍ } الشَّرر : ما تطاير من النار وتفرق جمع شررة . التفسِير : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } أي أُقسم بالرياح حين تهبُّ متتابعة ، يقفوا بعضها إِثر بعض ، قال المفسرون : هي رياح العذاب التي يهلك الله بها الظالمين { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } أي وأُقسم بالرياح الشديدة الهبوب ، إِذا أُرسلت عاصفة شديدة ، قلعت الأشجار ، وخربت الديار ، وغيَّرت الآثار { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } أي وأٌقسم بالملائكة الموكلين بالسحب يسوقونها حيث شاء الله ، لتنشر رحمة الله - المطر - فتحيي به البلاد والعباد { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أي وأقسم بالملائكة التي تفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أي وأقسم بالملائكة تنزل بالوحي ، وتلقي كتب الله تبارك وتعالى إِلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { عُذْراً أَوْ نُذْراً } أي تلقي الوحي إِعذاراً من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله ، أو إِنذاراً من الله للخلق بالنقمة والعذاب { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } هذا هو جواب القسم أي إِنَّ ما توعدون به من أمر القيامة ، وأمر الحساب والجزاء ، كائن لا محالة قال المفسرون : أقسم تعالى بخمسة أشياء ، تنبيهاً على جلالة قدر المقسم به ، وتعظيماً لشأن المقسم عليه ، فأقسم بالرياح الي تحمل الرحمة والعذاب ، وتسوق للعباد الخير أو الشر ، وبالملائكة الأبرار ، الذين يتنزلون بالوحي للإِعذار والإِنذار ، أقسم على أن أمر القيامة حق لا شك فيه ، وأن ما أوعد الله تعالى به المكذبين ، من مجيء الساعة والثواب والعقاب ، كائن لا محالة ، فلا ينبغي الشك والامتراء … ثم بيَّن تعالى وفصَّل وقت وقوع ذلك فقال { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } أي محيت النجوم وذهب نورها وضياؤها { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ } أي شقت السماء وتصدَّعت { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ } أي تطايرت الجبال وتناثرت حتى أصبحت هباءً تذروه الرياح كقوله تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } أي جعل للرسل وقتٌ وأجل ، للفصل بينهم وبين الأمم ، وهو يوم القيامة كقوله تعالى { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] ؟ وأصل { أُقِّتَتْ } وُقِّتت من الوقت أي جعل لها وقت محدد ، قال الطبري : أي أُجّلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة وقال مجاهد : هو الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } ؟ استفهامٌ لتعظيم ذلك اليوم ، والتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة أي لأي يومٍ عظيم أُخرت الرسل ؟ ثم قال { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } أي ليوم القضاء والفصل بين الخلائق ، يوم يفصل الله بين الأنبياء وأممهم المكذبين بحكمه العادل { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } ؟ استفهام للتعظيم والتهويل أي وما أعلمك أيها الإِنسان بيوم الفصل وشدته وهوله ؟ فإِن ذلك اليوم أعظم من أن يعرف أمره إِنسان ، أو يحيط به عقل أو وجدان ، ووضع الظاهر { مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } مكان الضمير " ما هو " لزيادة تفظيع وتهويل أمره قال الإِمام الفخر : عجَّب العباد من تعظيم ذلك اليوم فقال : لأي يومٍ أُجّلت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل ، وهي تعذيب من كذَّبهم ، وتعظيم من آمن بهم ، وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإِيمان به ، من الأهوال والعرض والحساب ، ثم إِنه تعالى بين ذلك فقال { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } وهو يوم يفصل الرحمن بين الخلائق ، ثم أتبع ذلك تعظيماً ثانياً فقال { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } أي وما أعلمك ما هو يوم الفصل وشدته ومهابته ؟ وجواب الشرط { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ } الخ محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : وقع ما توعدون به ، وجرى ما أخبركم به الرسل من مجيء القيامة ، والحذف على هذه الصورة من أساليب الإِيجاز البياني الذي امتاز به القرآن { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك عظيم وخسار كبير في ذلك اليوم لأولئك المكذبين بهذا اليوم الموعود قال المفسرون : كرَّر هذه الجملة { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } في هذه السورة عشر مرات لمزيد الترغيب والترهيب ، وفي كل جملة وردت إِخبارٌ عن أشياء عن أحوال الآخرة ، وتذكير بأحوال الدنيا ، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كل جملة منها بالويل والدمار للكفرة الفجار ، ولما كان - في سورة الإِنسان السابقة - ذكر بعضاً من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين هناك ، جاء في هذه السورة بالإِطناب في وصف الكفار ، والإِيجاز في وصف المؤمنين . . ثم بعد أن أكد الخبر بيوم القيامة ، وأنه حق كائن لا محالة ، وبعد أن خوَّف المكذبين من شدة هول ذلك اليوم ، وفظاعة ما يقع فيه ، عاد فخوَّفهم من بطش الله وانتقامه بأسلوب آخر فقال { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ } ؟ أي ألم نهلك السابقين بتكذيبهم للرسل ، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود ؟ { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } ؟ أي ثم ألحقنا بهم المتأخرين ممن كانوا مثلهم في التكذيب والعصيان ، كقوم لوط وشعيب وقوم موسى " فرعون وأتباعه " ومن على شاكلتهم { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } أي مثل ذلك الإِهلاك الفظيع نفعل بهؤلاء المجرمين " كفار مكة " لتكذيبهم لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك ودمار لكل مكذب بالتوحيد والنبوة ، والبعث والحساب { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } تذكير للمكذبين وتعجيب من غفلتهم وذهولهم عن أبسط الأمور المشاهدة ، وهي أن من خلقهم من النطفة الحقيرة الضعيفة كان قادراً على إِعادة خلقهم للبعث والحساب والمعنى : ألم نخلقكم يا معشر الكفار من ماءٍ ضعيف حقير هو منيُّ الرجل ؟ وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل " ابن آدم أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه " الحديث { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } أي فجعلنا هذا الماء المهين في مكان حريز وهو رحم المرأة { إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي إِلى مقدار من الزمن محدَّد معيَّن ، معلوم عند الله تعالى وهو وقت الولادة ، { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } أي فقدرنا على خلقه من النطفة ، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الصور ، وأجمل الأشكال { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك ودمار للمكذبين بقدرتنا قال الصاوي : هذه الآية تذكير من الله تعالى للكفار بعظيم إِنعامه عليهم ، وبقدرته على ابتداء خلقهم ، والقادرُ على الابتداء قادر على الإِعادة ، ففيها ردٌّ على المنكرين للبعث … ثم ذكَّرهم بنعمة إِيجادهم على الأرض حال الحياة ، ومواراتهم في باطنها بعد الموت فقال { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } ؟ أي ألم نجعل هذه الأرض التي تعيشون عليها كالأم لكم ، تجمع الأحياء على ظهرها ، والأموات في بطنها ؟ قال المفسرون : الكفت : الجمع والضم ، فالأرض تجمع وتضم إِليها جميع البشر ، فهي كالأم لهم ، الأحياء يسكنون فوق ظهرها في المنازل والدور ، والأموات يسكنون في بطنها في القبور { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } [ طه : 55 ] قال الشعبي : بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } أي وجعلنا في الأرض جبالاً راسخات عاليات مرتفعات لئلا تضطرب بكم { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } أي وأسقيناكم ماءً عذباً حلواً بالغ العذوبة ، أنزلناه لكم من السحاب ، وأخرجناه لكم من العيون والأنهار ، لتشربوا منه أنتم ودوابكم ، وتسقوا منه زرعكم وأشجاركم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي انطلقوا إِلى عذاب جهنم الذي كنتم تكذبون به في دار الدنيا ، وهذا الكلام تقوله لهم خزنة النار تقريعاً وتوبيخاً … ثم وضَّح ذلك العذاب وفصَّله فقال { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } أي اذهبوا فاستظلوا بدخانٍ كثيف من دخان جهنم ، يتفرع منه ثلاث شعب { لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ } أي لا يظل من يكون تحته ، ولا يقيه حر الشمس كما هو حال الظل الممدود ، ولا هو يدفع عنه أيضاً ألسنة النار المندلعة من كل جانب قال الطبري : لا هو يظلهم من حرها ، ولا يكنهم من لهبها ، وذلك أنه يرتفع من وقود جهنم الدخان ، فإِذا تصاعد تفرَّق شعباً ثلاثة قال المفسرون : سمَّى العذاب ظلاً تهكماً واستهزاءً بالمعذبين ، فالمؤمنون في ظلال وعيون ، والمجرمون في سموم وحميم ، وظلٍ من يحموم ، واليحموم دخانٌ أسود قاتم ، فكيف يصح أن يسمى ما هم فيه ظلاً إِلا على طريق التهكم والاستهزاء ؟ ثم زاد تعالى في وصف جهنم وأهوالها فقال { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ } أي إِن جهنم تقذف بشرر عظيم من النار ، كلُّ شرارةٍ منه كأنها القصر العظيم قال ابن كثير : يتطاير الشرر من لهبها كالحصون { كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ } أي كأن شرر جهنم المتطاير منها الإِبل الصفر في لونها وسرعة حركتها قال الرازي : شبَّه تعالى الشرر في العظم بالقصر ، وفي اللون والكثرة وسرعة الحركة بالجمالات الصفر ، وهذا التشبيه من روائع صور التشبيه ، لأن الشرارة إِذا كانت مثل القصر الضخم ، فكيف تكون حال تلك النار الملتهبة ؟ أجارنا الله من نار جهنم بفضله ورحمته { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك ودمار للمكذبين بآيات الله { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } أي هذا اليوم الرهيب ، الذي لا ينطق فيه أولئك المكذبون ولا يتكلمون كلاماً ينفعهم ، فهم في ذلك اليوم خرس بكم { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } أي ولا يقبل لهم عذرٌ ولا حجة فيما أتوا به من القبائح والجرائم ، بل لا يؤذن لهم في أن يعتذروا ، لأنه لا تسمع منهم تلك الحجج والأعذار ولا تقبل كقوله تعالى { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } [ غافر : 52 ] { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } أي يقال لهم : هذا يوم الفصل بين الخلائق ، الذي يفصل الله فيه بحكمه العادل بين السعداء والأشقياء ، جمعناكم فيه مع من تقدمكم من الأمم لنحكم بينكم جميعاً { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } أي فإِن كان لكم حيلة في الخلاص من العذاب فاحتالوا ، وانقذوا أنفسكم من بطش الله وانتقامه إِن قدرتم ، وهذا تعجيزٌ لهم وتوبيخ { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك يومئذٍ للمكذبين بيوم الدين … وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء المجرمين ، أعقبه بذكر أحوال السعداء المتقين فقال { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } أي الذين خافوا ربهم في الدنيا ، واتقوا عذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، هم يوم القيامة في ظلال الأشجار الوارفة ، وعيون الماء الجارية ، يتنعمون في دار الخلد ، والكرامة ، على عكس أولئك المجرمين المكذبين ، الذين هم في ظلٍ من يحموم - وهو دخان جهنم الأسود - الذي لا يقي حراً ، ولا يدفع عطشاً ، ولا يجد المستظل به مما يشتهيه لراحته سوى شرر النار الهائل { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي وفواكه كثيرة متنوعة مما يستلذون ويستطيبون { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي ويقال لهم على سبيل الأنس والتكريم : كلوا أكلاً لذيذاً واشربوا شرباً هنيئاً ، بسبب ما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي إِنا مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من أحسن عمله ، وأخلص نيته ، واتقى ربه { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك ودمار للمكذبين بيوم الدين { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } أي يقال للكفار على سبيل التهديد والوعيد : كلوا من لذائذ الدنيا ، واستمتعوا بشهواتها الفانية ، كما هو شأن البهائم التي همُّها ملء بطونها ونيل شهواتها زماناً قليلاً الى منتهى آجالكم ، فإِنكم مجرمون لا تستحقون الإِنعام والتكريم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك ودمار يوم القيامة للمكذبين بنعم الله { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ } أي وإِذا قيل لهؤلاء المشركين صلُّوا لله ، واخشعوا في صلاتكم لعظمته وجلاله ، لا يخشعون ولا يصلون ، بل يظلون على استكبارهم يصرون قال مقاتل : نزلت هذه الآية في ثقيف ، امتنعوا عن الصلاة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حطَّ عنا الصلاة فإِنا لا ننحني ، إِنها مسبة علينا ، فأبى وقال : لا خير في دينٍ لا صلاة فيه { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاكٌ ودمار يوم القيامة للمكذبين بأوامر الله ونواهيه { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ أي فبأي كتابٍ وكلام بعد هذا القرآن المعجز الواضح يصدّقون إِن لم يؤمنوا بالقرآن ؟ فإِذا كذبوا بالقرآن ولم يؤمنوا به ، مع بلوغه الغاية في الإِعجاز ، ونصوع الحجة ، وروعة البيان ، فبأي شيءٍ بعد ذلك يؤمنون ؟ قال القرطبي : كرر قوله { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } عشر مراتٍ للتخويف والوعيد ، وقيل : إِنه ليس بتكرار ، لأنه أراد بكل قولٍ منه غير الذي أراده بالآخر ، كأنه ذكر شيئاً فقال : ويلٌ لمن يكذب بهذا ، ثم ذكر شيئاً آخر فقال : ويل لمن يكذب بهذا ، وهكذا إِلى آخر السورة الكريمة . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التأكيد بذكر المصدر زيادة في البيان وتقوية للكلام مثل { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } وهو من المحسنات اللفظية . 2 - الطباق بين { عُذْراً … و نُذْراً } وبين { أَحْيَآءً … أَمْواتاً } وبين { ٱلأَوَّلِينَ … وٱلآخِرِينَ } وكلها من المحسنات البديعية . 3 - وضع الظاهر مكان الضمير ، والمجيء بصيغة الاستفهام { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } ؟ لزيادة تفظيع الأمر وتهويله . 4 - الاستفهام التقريري { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ } ؟ ومثله { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } ؟ 5 - الجناس غير التام بين لفظتي { مَّهِينٍ } و { مَّكِينٍ } . 6 - التشبيه المرسل المجمل { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ } والمرسل المفصل { كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ } . 7 - المقابلة بين نعيم الأبرار وعذاب الفجار { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } قابل ذلك بقوله { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } . 8 - أسلوب التهكم { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ } سمَّى العذاب ظلاً تهكماً وسخرية بهم . 9 - المجاز المرسل { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ } أطلق الركوع وأراد به الصلاة فهو من باب اطلاق البعض وإِرادة الكل أي وإِذا قيل لهم صلوا لا يصلون . 10 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ … إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } الخ ويسمى بالسجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية .