Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 80, Ayat: 1-42)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { عَبَسَ } كلح وجهه وقطَّب { تَصَدَّىٰ } تتعرض له وتصغي لكلامه { سَفَرَةٍ } السفرة : الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد جمع سافر مثل كاتب كَتَبة { فَأَقْبَرَهُ } جعل له قبراً وأمر أن يُقْبر { قَضْباً } القضبُ : كل ما يقطع من البقول فينبت أصلهُ مثل البرسيم " الفصة " والباقلاء ، والكُرَّاث وغيرها { غُلْباً } كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان جمع غلباء { أَبّاً } الأبُّ : المرعى وكل ما أنبتت الأرض مما تأكله البهائم كالكلأ والعشب { ٱلصَّآخَّةُ } الصيحة التي تصمُّ الآذان لشدتها { مُّسْفِرَةٌ } مشرقة مضيئة { غَبَرَةٌ } غبار ودخان { قَتَرَةٌ } سواد وظلمة . سَبَبُ النّزول : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً مع صناديد قريش يدعوهم إِلى الإِسلام ، وكان يطمع في إِسلامهم رجاء أن يسلم أتباعهم ، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن عنده من وجوه قريش ، جاء إِليه " عبد الله بن أُم مكتوم " وهو أعمى ، فقال يا رسول الله : علمني مما علَّمك الله ، وكرَّر ذلك وهو لا يعلم أن الرسول مشغول مع هؤلاء المشركين ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه وقال في نفسه : يقول هؤلاء إِنما أتباعه العميان والسَّفلة والعبيد ، فعبس وجهه وأقبل على القوم يكلمهم فأنزل الله { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } الآيات . التفسِير : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } أي كلح وجهه وقطَّبه وأعرض عنه كارهاً ، لأنْ جاءه الاعمى يسأل عن أمور دينه قال الصاوي : إِنما أتى بضمائر الغيبة { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وإِجلالاً له ، لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة والصعوبة واسم الأعمى " عبد الله بن أم مكتوم " وكان بعد نزول آيات العتاب إِذا جاءه يقول له : " مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ، ويبسط له رداءه " { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } أي وما يُعلمك ويخبرك يا محمد لعلَّ هذا الأعمى الذي عبستَ في وجهه ، يتطهر من ذنوبه بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة ! ! { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أي أو يتعظ بما يسمع فتنفعه موعظتك ! ! { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } أي أما من استغنى عن اللهِ وعن الإِيمان ، بما له من الثروة والمال { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } أي فأنت تتعرَّض له وتصغي لكلامه ، وتهتم بتبليغه دعوتك { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } أي ولا حرج عليك أن لا يتطهر من دنس الكفر والعصيان ، ولست بمطالبٍ بهدايته ، إنما عليك البلاغ قال الألوسي : وفيه مزيد تنفيرٍ له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم ، فإِن الإِقبال على المدبر مخلٌّ بالمروءة كما قال القائل : @ واللهِ لو كرهتْ كفي مُصاحبتي يوماً لقلتُ لها عن صُحْبتي بيْني @@ { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ } أي وأمَّا من جاءك يسرع ويمشي في طلب العلم للهِ ويحرص على طلب الخير { وَهُوَ يَخْشَىٰ } أي وهو يخاف الله تعالى ويتقي محارمه { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } أي فأنت يا محمد تتشاغل عنه ، وتتلهى بالانصراف عنه إِلى رؤساء الكفر والضلال ! ! { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي لا تفعل بعد اليوم مثل ذلك ، فهذه الآيات موعظة وتبصرة للخلق ، يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها العقلاء { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } أي فمن شاء من عباد الله اتعظ بالقرآن ، واستفاد من إِرشاداته وتوجيهاته ، قال المفسرون : كان صلى الله عليه وسلم بعد هذا العتاب ، لا يعبس في وجه فقير قط ، ولا يتصدى لغني أبداً ، وكان الفقراء في مجلسه أمراء ، وكان إِذا دخل عليه " ابن أم مكتوم " يبسط له رداءه ويقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي . . ثم بعد هذا البيان أخبر عن جلالة قدر القرآن فقال { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } أي هو في صحفٍ مكرمة عند الله { مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } أي عالية القدر والمكانة ، منزهة عن أيدي الشياطين ، وعن كل دنسٍ ونقص { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } أي بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } أي مكرمين معظمين عند الله ، أتقياء صلحاء { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] ثم ذكر تعالى قبح جريمة الكافر ، وإِفراطه في الكفر والعصيان مع كثرة إِحسان الله إِليه فقال { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } أي لعن الكافر وطرد من رحمة الله ، ما أشدَّ كفره بالله مع كثرة إِحسانه إِليه وأياديه عنده ؟ قال الألوسي : والآية دعاءٌ عليه بأشنع الدعوات وأفظعها ، وتعجيبٌ من إِفراطه في الكفر والعصيان ، وهذا في غاية الإِيجاز والبيان { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر حتى يتكبر على ربه ؟ ثم وضَّح ذلك فقال { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } أي من ماءٍ مهين حقير بدأ خلقه ، فقدَّره في بطن أمه أطواراً من نطفة ثم من علقة إِلى أن تمَّ خلقه قال ابن كثير : قدَّر رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقيّ أو سعيد { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } أي ثم سهَّل له طريق الخروج من بطن أمه قال الحسن البصري : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين ؟ يعني الذكر والفرج { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي ثم أماته وجعل له قبراً يُوارى فيه إِكراماً له ، ولم يجعله ملقى للسباع والوحوش والطيور قال الخازن : وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } أي ثم حين يشاء الله إِحياءه ، يحييه بعد موته للبعث والحساب والجزاء ، وإِنما قال { إِذَا شَآءَ } لأن وقت البعث غير معلوم لأحد ، فهو إِلى مشيئة الله تعالى ، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } أي ليرتدع وينزجر هذا الكافر عن تكبره وتجبره ، فإِنه لم يؤد ما فرض عليه ، ولم يفعل ما كلفه به ربه من الإِيمان والطاعة . . ولما ذكر خلق الإِنسان ، ذكر بعده رزقه ، ليعتبر بما أغدق الله عليه من أنواع النعم ، فيشكر ربه ويطيعه فقال { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } أي فلينظر هذا الإِنسان الجاحد نظر تفكر واعتبار ، إلى أمر حياته ، كيف خلقه بقدرته ، ويسره برحمته ، وكيف هيأ له أسباب المعاش ، وخلق له الطعام الذي به قوام حياته ؟ ! ثم فصَّل ذلك فقال { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } أي أنا بقدرتنا أنزلنا الماء من السحاب على الأرض إِنزالاً عجيباً { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } أي شققنا الأرض بخروج النبات منها شقاً بديعاً { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً } أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع الحبوب والنباتات : حباً يقتات الناس به ويدخرونه ، وعنباً شهياً لذيذاً ، وسائر البقول مما يؤكل رطباً { وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً } أي وأخرجنا كذلك أشجار الزيتون والنخيل ، يخرج منها الزيت والرطب والتمر { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } أي وبساتين كثيرة الأشجار ، ملتفة الأغصان { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } أي وأنواع الفواكه والثمار ، كما أخرجنا ما ترعاه البهائم قال القرطبي : الأبُّ ما تأكله البهائم من العشب { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } أي أخرجنا ذلك وأنبتناه ليكون منفعة ومعاشاً لكم أيها الناس ولأنعامكم قال ابن كثير : وفي هذه الآيات امتنانٌ على العباد وفيها استدلال بإِحياء النبات من الأرض الهامدة ، على إِحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وأوصالاً متفرقة … ثم ذكر تعالى بعد ذلك أهوال القيامة فقال { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } أي فإِذا جاءت صيحة القيامة التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمها { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } أي في ذلك اليوم الرهيب يهرب الإِنسان من أحبابه ، من أخيه ، وأمه ، وأبيه ، وزوجته ، وأولاده لاشتغاله بنفسه قال في التسهيل : ذكر تعالى فرار الإِنسان من أحبابه ، ورتبهم على مراتبهم في الحنو والشفقة ، فبدأ بالأقل وختم بالأكثر ، لأن الإِنسان أشدُّ شفقةً على بنيه من كل من تقدم ذكره { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي لكل إِنسان منهم في ذلك اليوم العصيب ، شأنٌ يشغله عن شأن غيره ، فإِنه لا يفكر في سوى نفسه ، حتى إِن الأنبياء صلوات الله عليهم ليقول الواحد منهم يومئذٍ " نفسي نفسي " … ولما بيَّن تعالى حال القيامة وأهوالها ، بيَّن بعدها حال الناس وانقسامهم في ذلك اليوم إِلى سعداء وأشقياء ، فقال في وصف السعداء : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } أي وجوه في ذلك اليوم مضيئة مشرقة من البهجة والسرور { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي فرحة مسرورة بما رأته من كرامة الله ورضوانه ، مستبشرة بذلك النعيم الدائم { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أي ووجوه في ذلك اليوم عليها غبارٌ ودخان { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي تغشاها وتعلوها ظلمةٌ وسواد { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } أي أولئك الموصوفون بسواد الوجوه ، هم الجامعون بين الكفر والفجور ، قال الصاوي : جمع الله تعالى إِلى سواد وجوههم الغَبرة كما جمعوا الكفر إِلى الفجور . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب زيادة في العتاب { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } … ثم قال : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } ؟ فالتفت تنبيهاً للرسول صلى الله عليه وسلم إِلى العناية بشأن الأعمى . 2 - جناس الاشتقاق بين { يَذَّكَّرُ … وٱلذِّكْرَىٰ } . 3 - الكناية الرائقة { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } كنَّى بالسبيل عن خروجه من فرج الأم . 4 - أسلوب التعجب { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } ؟ تعجبٌ من إِفراط كفره ، مع كثرة إِحسان الله إِليه . 5 - الطباق بين { تَصَدَّىٰ } وبين { تَلَهَّىٰ } لأن المراد بهما تتعرض وتنشغل . 6 - التفصيل بعد الإِجمال { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } ثم فصَّل ذلك وبيَّنه بقوله { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } . 7 - المقابلة اللطيفة بين السعداء والأشقياء { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } قابلها بقوله { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } . 8 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات ، وهو من المحسنات البديعية ويسمى السجع مثل { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } ومثل { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ … } الخ . لطيفَة : اقتبس بعض الأدباء من قوله تعالى { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } ؟ هذين البيتين :