Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 83, Ayat: 1-36)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { لِّلْمُطَفِّفِينَ } جمع مُطفّف وهو الذي ينقص في الكيل والوزن ، والتطفيف : النقصان وأصله من الطفيف وهو الشيء اليسير ، لأن المطفّف لا يكاد يسرق في الكيل والوزن إِلا الشيء اليسير { رَانَ } غطَّى وغشَّى كالصدأ يغشى السيف ، وأصله الغلبة يقال : رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبته قال الشاعر : @ " وكمْ رانَ من ذنبٍ على قلب فاجر " @@ { رَّحِيقٍ } أجود الخمر وأصفاه وفي الصحاح : الرحيق صفوة الخمر وقال الأخفش : هو الشراب الذي لا غش فيه قال حسان : @ بَرَدى يُصفِّق بالرحيقِ السَّلْسَلِ @@ { فَكِهِينَ } معجبين متلذذين { يَتَغَامَزُونَ } يشيرون إِليهم بالأعين استهزاءً { ثُوِّبَ } جوزي { تَسْنِيمٍ } عينٌ عالية شرابها أشرف شراب ، وأصل التسنيم الارتفاع ومنه سنام البعير . سَبَبُ النّزول : عن ابن عباس قال " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله عز وجل { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } فأحسنوا الكيل بعد ذلك " . التفسِير : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } أي هلاك وعذاب ودمار ، لأولئك الفجار الذين ينقصون المكيال والميزان ، ثم بيَّن أوصافهم القبيحة بقوله { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } أي إِذا أخذوا الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أي وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ، ينقصون الكيل والوزن قال المفسرون : نزلت في رجلٍ يُعرف بـ " أبي جهينة " كان له صاعان ، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر ، وهو وعيدٌ لكل من طفَّف الكيل والوزن ، وقد أهلك الله قوم شعيب لبخسهم المكيال والميزان ، وفي الحديث " ولا طففوا الكيل إِلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين " { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } أي ألا يعلم ويستيقن أولئك المطففون أنهم سيبعثون ليوم عصيب ، شديد الهول ، كثير الفزع ؟ ! { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي يوم يقفون في المحشر حفاةً عراةً ، خاشعين خاضعين لرب العالمين قال في البحر : وفي هذا الإِنكار والتعجيب ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس لله خاضعين ، ووصفهُ برب العالمين ، دليلٌ على عظم هذا الذنب وهو التطفيف ، وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } حتى يغيب أحدهم في رشحه إِلى أنصاف أُذنيه … ثم ذكر تعالى مآل الفجار ، ومآل الأبرار فقال { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } أي ليرتدع هؤلاء المطففون عن الغفلة عن البعث والجزاء ، فإِن كتاب أعمال الأشقياء الفجار ، لفي مكان ضيّق في أسفل سافلين { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } استفهام للتعظيم والتهويل أي هل تعلم ما هو سجين ؟ { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي هو كتاب مكتوبٌ كالرقم في الثوب ، لا ينسى ولا يمحى ، أُثبتت فيه أعمالهم الشريرة قال ابن كثير : { سِجِّينٌ } مأخوذ من السجن وهو الضيق ، ولما كان مصير الفجار إِلى جهنم وهي أسفل سافلين ، وهي تجمع الضيق والسفول ، أخبر تعالى أنه كتاب مرقوم أي مكتوبٌ مفروغ منه ، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي هلاك ودمار للمكذبين { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي يكذبون بيوم الحساب والجزاء { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي وما يكذب بيوم الحساب والجزاء ألا كل متجاوز الحد في الكفر والضلال ، مبالغ في العصيان والطغيان ، كثير الآثام ، ثم وضّح من إِجرامه فقال { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي إِذا تليت عليه آيات القرآن ، الناطقة بحصول البعث والجزاء ، قال عنها : هذه حكايات وخرافات الأوائل ، سطروها وزخرفوها في كتبهم { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي ليرتدع هذا الفاجر عن ذلك القول الباطل ، فليس القرآن أساطير الأولين ، بل غطَّى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب ، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي قال المفسرون : الرَّان هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } أي ليرتدع هؤلاء المكذبون عن غيهم وضلالهم ، فهم في الآخرة محجوبون عن رؤية المولى جل وعلا فلا يرونه قال الشافعي : وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل وقال مالك : لما حجب أعداءه فلم يروه ، تجلَّى لأوليائه حتى رأوه { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ } أي ثم إِنهم مع الحرمان عن رؤية الرحمن ، لداخلو الجحيم وذائقو عذابها الأليم { ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي ثم تقول لهم خزنة جهنم على وجه التقريع والتوبيخ : هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } [ الطور : 15 ] … وبعد الحديث عن حال الفجار ، ذكر تعالى نعيم الأبرار فقال { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } { كَلاَّ } ردعٌ وزجر أي ليس الأمر كما يزعمون من مساواة الفجار بالأبرار ، بل كتابهم في سجين ، وكتاب الأبرار في عليين ، وهو مكان عالٍ مشرَّف في أعلى الجنة قال في التسهيل : ولفظ { عِلِّيِّينَ } للمبالغة ، وهو مشتق من العلوِّ لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة ، أو لأنه في مكان عليٍّ رفيع فقد روي أنه تحت العرش { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } تفخيمٌ وتعظيم لشأنه أي وما أعلمك يا محمد ما هو عليون ؟ { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } أي كتابُ الأبرار كتابٌ مسطَّر ، مكتوب فيه أعمالهم ، وهو في عليين في أعلى درجات الجنة ، يشهده المقربون من الملائكة قال المفسرون : إِن روح المؤمن إِذا قُبضت صُعد بها إِلى السماء ، وفتحت لها أبواب السماء ، وتلقتها الملائكةُ بالبشرى ، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إِلى العرش ، فيخرج لهم رقٌّ فيكتب فيه ويختم عليه بالنجاة من الحساب والعذاب ويشهده المقربون { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } أي إِن المطيعين لله في الجنات الوارفة ، والظلال الممتدة يتنعمون { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } أي هم على السرر المزينة بفاخر الثياب والستور ، ينظرون إِلى ما أعدَّ الله لهم من أنواع الكرامة والنعيم في الجنة { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } أي إِذا رأيتهم تعرف أنهم أهل نعمة ، لما ترى في وجوههم من النور والبياض والحسن ، ومن بهجة السرور ورونقه { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } أي يُسقون من خمرٍ في الجنة ، بيضاء طيبة صافية ، لم تكدرها الأيدي ، قد ختم على تلك الأواني فلا يفك ختمها إِلا الأبرار { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي آخر الشراب تفوح منه رائحة المسك { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } أي وفي هذا النعيم والشراب الهنيء ، فليرغب بالمبادرة إِلى طاعة الله ، وليتسابق المتسابقون قال الطبري : التنافسُ مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عليه الناس ، وتشتهيه وتطلبه نفوسهم والمعنى فليستبقوا في طلب هذا النعيم ، ولتحرص عليه نفوسهم { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } أي يمزج ذلك الرحيق من عينٍ عالية رفيعة ، هي أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه تسمى " التسنيم " ولهذا قال بعده { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } أي هي عينٌ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً ، وتمزج لسائر أهل الجنة قال في التسهيل : تسنيم اسمٌ لعين في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً ، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار ، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار . . ولما ذكر تعالى نعيم الأبرار ، أعقبه بذكر مآل الفجار ، تسليةً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } أي أن المجرمين الذين من طبيعتهم الإِجرام وارتكاب الآثام ، كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم قال في التسهيل : نزلت هذه الآية في صناديد قريش كأبي جهل وغيره ، مرَّ بهم علي بن أبي طالب وجماعة من المؤمنين ، فضحكوا منهم واستخفوا بهم { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } أي وإِذا مرَّ هؤلاء والمؤمنون بالكفار ، غمز بعضهم بعضاً بأعينهم سخرية واستهزاءً بهم قال المفسرون : كان المشركون إِذا مرَّ بهم أصحاب رسول الله ، تغامزوا بأعينهم عليهم احتقاراً لهم وازدراءً يقولون : جاءكم ملوك الدنيا ، يسخرون منهم لإِيمانهم واستمساكهم بالدين { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } أي وإِذا انصرف المشركون ورجعوا إِلى منازلهم وأهليهم ، رجعوا متلذذين يتفكهون بذكر المؤمنين والاستخفاف بهم قال في البحر : أي رجعوا متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم استخفافاً بأهل الإِيمان { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } أي وإِذا رأى الكفار المؤمنين قالوا : إِن هؤلاء لضالون لإِيمانهم بمحمد ، وتركهم شهوات الحياة قال تعالى رداً عليهم { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } أي وما أُرسل الكفار حافظين على المؤمنين ، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم ، وفيه تهكم وسخرية بالكفار كأنه يقول : أنا ما أرسلتهم رقباء ، ولا وكلتهم بحفظ أعمال عبادي المؤمنين ، حتى يرشدوهم إِلى مصالحهم ، فلم يشغلون أنفسهم فيما لا يعنيهم ؟ { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } أي ففي هذا اليوم - يوم القيامة - يضحك المؤمنون من الكفار ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، جزاءً وفاقاً { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } أي والمؤمنون على أسرَّة الدر والياقوت ، ينظرون إِلى الكفار ويضحكون عليهم قال القرطبي : يقال لأهل النار وهم في النار اخرجوا ، فتفتح لهم أبواب النار ، فإِذا رأوها قد فتحت أقبلوا إِليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إِليهم على الأرائك ، فإِذا انتهوا إِلى أبوابها أغلقت دونهم ، فيضحك منهم المؤمنون { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي هل جوزي الكفار في الآخرة بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين من السخرية والاستهزاء ؟ نعم . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التنكير للتهويل والتفخيم { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } . 2 - الطباق بين { يَسْتَوْفُونَ } و { يُخْسِرُونَ } . 3 - المقابلة بين حال الفجار والأبرار { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ … } الخ و { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ … } الخ . 4 - التفخيم والتعظيم لمراتب الأبرار { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } ؟ 5 - جناس الاشتقاق { فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } . 6 - الإِطناب بذكر أوصاف ونعيم المتقين { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } . 7 - التشبيه البليغ { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي كالمسك في الطيب والبهجة ، فحذف منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً . 8 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل { يَضْحَكُونَ } ، { يَنظُرُونَ } ، { يَكْسِبُونَ } ، { يَفْعَلُونَ } الخ .