Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 84, Ayat: 1-25)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { كَادِحٌ } الكدح : الجد والاجتهاد وجهد النفس في العمل قال الشاعر : @ ومضتْ بشاشةُ كل عيشٍ صالح وبقيتُ أكدحُ للحياةِ وأنصب @@ { يَحُورَ } يرجع يقال : حار يحور إِذا رجع ومنه حديث " أعوذ بك من الحور بعد الكور " أي الرجوع إِلى النقصان بعد الزيادة { ٱلشَّفَقِ } الحمرة التي تكون بعد مغيب الشمس { وَسَقَ } جمع وضم ولف { ٱتَّسَقَ } اجتمع وتكامل وتم نوره { مَمْنُونٍ } مقطوع . التفسِير : { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } هذه الآيات بيان لأهوال القيامة ، وتصويرٌ لما يحدث بين يدي الساعة من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال والمعنى : إِذا تشققت السماء وتصدَّعت مؤذنة بخراب الكون قال الألوسي : تنشق لهول يوم القيامة { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أي واستمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع وأن تنشق من أهوال القيامة { وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ } أي وإِذا الأرض زادت سعة بإِزالة جبالها وآكامها ، وصارت مستوية لا بناء فيها ولا وهاد ولا جبال { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز والمعادن وتخلت عنهم قال القرطبي : أخرجت أمواتها وتخلت عنهم ، وألقت ما في بطنها من الكنوز والمعادن كما تلقي الحامل ما في بطنها من الحمل ، وذلك يؤذن بعظم الهول { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أي واستمعت لأمر ربها وأطاعت ، وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع … وجواب { إِذَا } محذوف ليكون أبلغ في التهويل أي إِذا حدث كل ما تقدم ، لقي الإِنسان من الشدائد والأهوال ، ما لا يحيط به الخيال … ثم أخبر تعالى عن كدِّ الإِنسان وتعبه في هذه الحياة ، وأنه يلقى جزاءه عند الله فقال { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } الخطاب عام لكل إِنسان أي أنت يا ابن آدم جاهدٌ ومجدٌّ بأعمالك التي عاقبتها الموت ، والزمانُ يطير وأنت في كل لحظة تقطع شوطاً من عمرك القصير ، فكأنك سائر مسرعٌ إِلى الموت ، ثم تلاقي ربك فيكافئك على عملك ، إِن كان خيراً فخيرٌ ، وإِن كان شراً فشرٌّ قال في البحر : كادحٌ أي جاهد في عملك من خير وشر طول حياتك إِلى لقاء ربك ، فملاقٍ جزاء كدحك من ثوابٍ وعقاب … ثم ذكر تعالى انقسام الناس إِلى سعداء وأشقياء وإِلى من يأخذ كتابه بيمينه ، ومن يأخذ كتابه بشماله فقال { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه ، وهذه علامة السعادة { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } أي فسوف يكون حسابه سهلاً هيناً ، يُجازى على حسناته ، ويُتجاوز عن سيئاته ، وهذا هو العرضُ كما جاء في الحديث الصحيح { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } أي ويرجع إِلى أهله في الجنة مبتهجاً مسروراً بما أعطاه الله من الفضل والكرامة { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } أي وأمَّا من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره ، وهذه علامة الشقاوة { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } أي يصيح بالويل والثبور ، ويتمنى الهلاك والموت { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } أي ويدخل ناراً مستعرة ، يقاسي عذابها وحرَّها { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } أي لأنه كان في الدنيا مسروراً مع أهله ، غافلاً لاهياً ، لا يفكر في العواقب ، ولا تخطر بباله الآخرة قال ابن زيد : وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء في الدنيا ، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة ، ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها ، فأعقبهم به الحزن الطويل { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } أي إنه ظنَّ أن لن يرجع إِلى ربه ، ولن يحييه الله بعد موته للحساب والجزاء ، فلذلك كفر وفجر { بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } أي بلى سيعيده الله بعد موته ، ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها ، فإِنه تعالى مطلع على العباد ، لا تخفى عليه خافية من شئونهم { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ } { لاَ } لتأكيد القسم أي فأقسم قسماً مؤكداً بحمرة الأفق بعد غروب الشمس { وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي وبالليل وما جمع وضمَّ إِليه ، وما لفَّ في ظلمته من الناس والدواب والهوام قال المفسرون : الليل يسكن فيه كل الخلق ، ويجمع ما كان منتشراً في النهار من الخلق والدواب والأنعام ، فكلٌ يأوي إِلى مكانه وسربه ، ولهذا امتن تعالى على العباد بقوله { وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] فإِذا جاء النهار انتشروا ، وإِذا جاء الليل أوى كل شيء إِلى مأواه { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ } أي وأقسمُ بالقمر إِذا تكامل ضوءه ونوره ، وصار بدراً ساطعاً مضيئاً { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } هذا جواب القسم أي لتلاقُنَّ يا معشر الناس أهوالاً وشدائد في الآخرة عصيبة قال الألوسي : يعني لتركبن أحوالاً بعد أحوال ، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض ، وهي الموتُ وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها وقال الطبري : المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } استفهام يقصد به التوبيخ أي فما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله ، ولا يصدّقون بالبعث بعد الموت ، بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على قوعه ؟ { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } أي وإِذا سمعوا آيات القرآن ، لم يخضعوا ولم يسجدوا للرحمن ؟ { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } أي بل طبيعة هؤلاء الكفار التكذيب والعناد والجحود ، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } أي والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب قال ابن عباس : { يُوعُونَ } أي يضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي فبشرهم على كفرهم وضلالهم بعذاب مؤلم موجع ، واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم قال في التسهيل : ووضع البشارة في موضع الإِنذار تهكم بالكفار { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي لكنْ الذين صدَّقوا الله ورسوله ، وجمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي لهم ثوابٌ في الآخرة غير منقوص ولا مقطوع ، بل هو دائم مستمر . ختم تعالى السورة الكريمة ببيان نعيم الأبرار ، بعد أن ذكر مآل الفجار ، وهو توضيح لما أجمله في أول السورة من ملاقاة كل عامل لجزائه في قوله { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين لفظ { ٱلسَّمَآءُ } و { ٱلأَرْضُ } . 2 - المقابلة بين { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } وبين { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } . 3 - الكناية { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } كنَّى به عن الشدة والأهوال التي يلقاها الإِنسان . 4 - الجناس الناقص بين كلمتي { وَسَقَ } و { ٱتَّسَقَ } . 5 - الأسلوب التهكمي { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } استعمال البشارة في موضع الإِنذار تهكم وسخرية بالكفار . 6 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } ومثل { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ * وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } ويسمى بالسجع وهو من المحسنات البديعية .