Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 85, Ayat: 1-22)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱلأُخْدُودِ } الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق ، وجمعه أخاديد { قُتِلَ } لُعن أشدَّ اللعن { نَقَمُواْ } عابوا وكرهوا { بَطْشَ } البطش : الأخذ بشدة { يُبْدِىءُ } يخلق ابتداءً بقدرته { ٱلْمَجِيدُ } العظيم الجليل المتعالي . التفسِير : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } أي وأُقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة ، التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها قال المفسرون : سميت هذه المنازل بروجاً لظهورها ، وشبهت بالقصور لعلوها وارتفاعها لأنها منازل للكواكب السيارة { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } أي وأُقسم باليوم الموعود وهو يوم القيامة ، الذي وعد الله به الخلائق بقوله { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ النساء : 87 ] { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } أي وأُقسم بمحمد والأنبياء الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة ، وبجميع الأمم والخلائق الذين يجتمعون في أرض المحشر للحساب كقوله تعالى { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقيل : الشاهد هذه الأمة ، والمشهود سائر الأمم ودليله { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } هذا هو جواب القسم ، والجملة دعائية أي قاتل الله ولعن أصحاب الأخدود ، الذين شقوا الأرض طولاً وجعلوها أخاديد ، وأضرموا فيها النار ليحرقوا بها المؤمنين قال القرطبي : الأخدودُ الشقُّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد ، ومعنى { قُتِلَ } أي لعن ، قال ابن عباس : كل شيءٍ في القرآن { قُتِلَ } لهو لعن … ثم فصَّل تعالى المراد من الأخدود فقال { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } أي النار العظيمة المتأججة ، ذات الحطب واللهب ، التي أضرمها الكفار في تلك الأخاديد لإِحراق المؤمنين قال أبو السعود : وهذا وصف لها بغاية العظم ، وارتفاع اللهب ، وكثرة ما فيها من الحطب ، والقصدُ وصف النار بالشدة والهول … ثم بالغ تعالى في وصف المجرمين فقال { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي حين هم جلوس حول النار ، يتشفون بإِحراق المؤمنين فيها ، ويشهدون ذلك الفعل الشنيع والغرضُ تخويف كفار قريش ، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ، ليرجعوا عن الإِسلام ، فذكر الله تعالى قصة " أصحاب الأخدود " وعيداً للكفار ، وتسليةً للمؤمنين المعذبين ، ثم قال تعالى { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } أي وما كان لهم ذنب ولا انتقموا منهم ، إِلا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد الغالب الذي لا يُضام من لاذَ بجنابه ، الحميد في جميع أقواله وأفعاله ، والغرضُ أن سبب البطش بهم ، وتحريقهم بالنار ، لم يكن إِلا إيمانهم بالله الواحد الأحد ، وهذا ليس بذنب يستحقون به العقوبة ، ولكنه الطغيان والإِجرام { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي هذا الإله الجليل المالك لجميع الكائنات ، المستحق للمجد والثناء قال في البحر : وإِنما ذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهي كونه تعالى { عَزِيزاً } أي غالباً قادراً يُخشى عقابه { حَمِيداً } أي منعماً يجب له الحمد على نعمه { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له ، إِنما ذكر ذلك تقريراً لأن ما نقموه منهم هو الحقُّ الذي لا ينقمه إِلا مبطلٌ منهمك في الغيّ { وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي هو تعالى مطلَّع على أعمال عباده ، لا تخفى عليه خافية من شئونهم ، وفيه وعدٌ للمؤمنين ، ووعيدٌ للمجرمين . . ثم شدَّد تعالى النكير على المجرمين الذين عذبوا المؤمنين فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي عذبوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ليفتنوهم عن دينهم { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } أي ثم لم يرجعوا عن كفرهم وطغيانهم { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } أي فلهم عذاب جهنم المخزي بكفرهم ، ولهم العذاب المحرق بإِحراقهم المؤمنين … ولما ذكر مصير المجرمين أعقبه بذكر مصير المؤمنين فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي الذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والعمل الصالح { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي لهم البساتين والحدائق الزاهرة ، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة قال الطبري : هي أنهار الخمر واللبن والعسل { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } أي ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب ، الذي لا سعادة ولا فوز بعده … ثم أخبر تعالى عن انتقامه الشديد من أعداء رسله وأوليائه فقال { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي إِن انتقام الله وأخذه الجبابرة والظلمة ، بالغ الغاية في الشدة قال أبو السعود : البطش الأخذ بعنف ، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم ، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أي هو جل وعلا الخالق القادر ، الذي يبدأ الخلق من العدم ، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ } أي وهو الساتر لذنوب عباده المؤمنين ، اللطيف المحسن إِلى أوليائه ، المحبُّ لهم قال ابن عباس : يودُّ أولياءه كما يودُّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة { ذُو ٱلْعَرْشِ } أي صاحب العرش العظيم ، وإِنما أضاف العرش إِلى الله وخصَّه بالذكر ، لأن العرش أعظم المخلوقات ، وأوسعُ من السماواتِ السبع ، وخلقُه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه { ٱلْمَجِيدُ } أي هو تعالى المجيدُ ، العالي على جميع الخلائق ، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه قال القرطبي : أي لا يمتنع عليه شيء يريده . روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له وهو في مرض الموت : هل نظر إِليك الطبيبُ ؟ قال : نعم ، قالوا : فماذا قال لك ؟ قال قال لي : ( إِني فعَّالٌ لما أريد ) { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ } ؟ استفهامٌ للتشويق أي هل بلغك يا محمد خبر الجموع الكافرة ، الذين تجنَّدوا لحرب الرسل والأنبياء ؟ هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس ، وما أنزل عليهم من النقمة والعذاب ؟ قال القرطبي : يؤنسه بذلك ويسليه ، ثم بيَّن تعالى من هم فقال { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } أي هم فرعون وثمود ، أولي البأس والشدة ، فقد كانوا أشد بأساً ، وأقوى مراساً من قومك ، ومع ذلك فقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ } أي لم يعتبر كفار قريش بما حلَّ بأولئك الكفرة المكذبين ، بل هم مستمرون في التكذيب فهم أشد منهم كفراً وطغياناً { وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } أي والله تعالى قادرٌ عليهم ، لا يفوتونه ولا يعجزونه ، لأنهم في قبضته في كل حينٍ وزمان { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } أي بل هذا الذي كذبوا به ، كتابٌ عظيم شريف ، متناهٍ في الشرف والمكانة ، قد سما على سائر الكتب السماوية ، في إِعجازه ونظمه وصحة معانيه { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } أي هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء ، محفوظٍ من الزيادة والنقص ، والتحريف والتبديل . البَلاَغَة : تضمنت السورة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بي { يُبْدِىءُ … وَيُعِيدُ } . 2 - جناس الاشتقاق { وَشَاهِدٍ … وَمَشْهُودٍ } . 3 - تأكيد المدح بما يشبه الذم { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } كأنه يقول : ليس لهم جريمة إِلا إِيمانهم بالله ، وهذا من أعظم المفاخر والمآثر . 4 - المقابلة بين مصير المؤمنين ومصير المجرمين { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } الآية قابله قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ … } الخ . 5 - أسلوب التشويق لاستماع القصة { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ } ؟ 6 - صيغة المبالغة مثل { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } وأمثال ذلك . 7 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ * ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ … } الخ وهو من المحسنات البديعية ويسمى بالسجع والله أعلم .