Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 89, Ayat: 1-30)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { حِجْرٍ } عقل ولب قال الفراء : العرب تقول إِنه لذو حجر إِذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها ، وأصل الحجر المنع ، وسمي العقل حجراً لأنه يمنع عن السفه قال الشاعر : @ وكيف يُرجَّى أن يتوب وإِنما يُرجَّى من الفتيان من كان ذا حِجْر @@ { جَابُواْ } قطعوا ومنه قولهم : فلان يجوب البلاد أي يقطعها { ٱلتُّرَاثَ } الميراث { لَّمّاً } شديداً وأصله الجمع ومنه قولهم : لمَّ اللهُ شعثه { جَمّاً } كثيراً عظيماً كبيراً قال الشاعر : @ إِن تغفر اللَّهمَّ تغفر جماً وأيُّ عبدٍ لك ما ألمَّا @@ التفسِير : { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ } هذا قسمٌ أي أُقسم بضوء الصبح عند مطاردته ظلمة الليل ، وبالليالي العشر المباركات من أول ذي الحجة ، لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج قال المفسرون : أقسم تعالى بالفجر لما فيه من خشوع القلب في حضرة الرب ، وبالليالي الفاضلة المباركة وهي عشر ذي الحجة ، لأنه أفضل أيام السنة ، كما ثبت في صحيح البخاري " ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهن من هذه الأيام - يعني عشر ذي الحجة - قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهادُ في سبيل الله ، إِلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء " { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } أي وأُقسم بالزوج والفرد من كل شيء فكأنه تعالى أقسم بكل شيء ، لأن الأشياء إِما زوجٌ وإِما فردٌ ، أو هو قسمٌ بالخلق والخالق ، فإِن الله تعالى واحد " وتر " والمخلوقات ذكرٌ وأنثى " شفع " { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } أي وأُقسم بالليل إِذا يمضي بحركة الكون العجيبة ، والتقييد بسريانه لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة ، ووفور النعمة { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } أي هل فيما ذكر من الأشياء قسمٌ مقنع لذي لب وعقل ؟ ! والاستفهام تقريريٌ لفخامة شأن الأمور المقسم بها ، كأنه يقول : إِن هذا لقسمٌ عظيمٌ عند ذوي العقول والألباب ، فمن كان ذا لُب وعقل علم أن ما أقسم الله عز وجل به من هذه الأشياء فيها عجائب ، ودلائل تدل على توحيده وربوبيته ، فهو حقيق بأن يُقسم به لدلالته على الإِله الخالق العظيم قال القرطبي : قد يُقسم الله بأسمائه وصفاته لعلمه ، ويُقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [ الليل : 3 ] ويُقسم بمفعولاته لعجائب صنعه كما قال { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } [ الطارق : 1 ] { وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ } وجواب القسم محذوب تقديره : ورب هذه الأشياء ليعذبنَّ الكفار ، ويدل عليه قوله { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } ؟ أي ألم يبلغك يا محمد ويصل إِلى علمك ، ماذا فعل الله بعاد قوم هود ؟ { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } أي عاداً الأولى أهل أرم ذات البناء الرفيع ، الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عُمان وحضرموت { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } أي تلك القبيلة الي لم يخلق الله مثلهم في قوتهم ، وشدتهم ، وضخامة أجسامهم ! والمقصود من ذلك تخويف أهل مكة بما صنع تعالى بعاد ، وكيف أهلكهم وكانوا أطول أعماراً ، وأشدَّ قوة من كفار مكة ! ؟ قال ابن كثير : وهؤلاء " عاد الأولى " وهم الذين بعث الله فيهم رسوله " هوداً " عليه السلام فكذبوه وخالفوه ، وكانوا عتاة متمردين جبارين ، خارجين عن طاعة الله مكذبين لرسله ، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمَّرهم ، وجعلهم أحاديث وعِبراً { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } أي وكذلك ثمود الذين قطعوا صخر الجبال ، ونحتوا بيوتاً بوادي القُرى { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } [ الحجر : 82 ] وكانت مساكنهم في الحجر بين الحجاز وتبوك قال المفسرون : أول من نحت الجبال والصخور والرخام قبيلة ثمود وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور ، وينقبون الجبال فيجعلونها بيوتاً لأنفسهم ، وقد بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بوادي القرى { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } أي وكذلك فرعون الطاغية الجبار ، ذي الجنود والجموع والجيوش التي تشد ملكه قال أبو السعود : وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم أو لتعذيبه بالأوتاد { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أي أولئك المتجبرين " عاداً ، وثمود ، وفرعون " الذين تمردوا وعتوا عن أمر الله ، وجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } أي فأكثروا في البلاد الظلم والجور والقتل : وسائر المعاصي والآثام { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي فأنزل عليهم ربك ألواناً شديدة من العذاب بسبب إِجرامهم وطغيانهم قال المفسرون : استعمل لفظ الصبّ لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب ، كما قال القائل " صببنا عليهم ظالمين سياطنا " والمراد أنه تعالى أنزل على كل طائفة نوعاً من العذاب ، فأُهلكت عادٌ بالريح ، وثمود بالصيحة ، وفرعون وجنوده بالغرق كما قال تعالى { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } [ العنكبوت : 40 ] { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } أي إِن ربك يا محمد ليرقب عمل الناس ، ويحصيه عليهم ، ويجازيهم به قال في التسهيل : المرصاد المكان الذي يرتقب فيه الرصد ، والمراد أنه تعالى رقيب على كل إِنسان ، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار ، وفي ذلك تهديدٌ لكفار قريش … ولما ذكر تعالى ما حلَّ بالطغاة المتجبرين ، ذكر هنا طبيعة الإِنسان الكافر ، الذي يبطر عند الرخاء ، ويقنط عند الضراء فقال { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ } أي إِذا اختبره وامتحنه ربه بالنعمة { فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } أي فأكرمه بالغنى واليسار ، وجعله منعماً في الدنيا بالبنين والجاه والسلطان { فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } أي فيقول ربي أحسن إليَّ بما أعطاني من النعم التي أستحقها ، ولم يعلم أن هذا ابتلاء له أيشكر أم يكفر ؟ { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } أي وأما إِذا اختبره وامتحنه ربه بالفقر وتضييق الرزق { فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } أي فيقول غافلاً عن الحكمة : إِن ربي أهانني بتضييقه الرزق عليَّ قال القرطبي : وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث ، وإِنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظّ في الدنيا وقلّته ، وأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه المؤدي إِلى حظ الآخرة ، وإِن وسَّع عليه في الدنيا حمده وشكره ، وإِنما أنكر تعالى على الإِنسان قوله { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } وقوله { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } لأنه إِنما قال ذلك على وجه الفخر والكبر ، لا على وجه الشكر ، وقال : أهانن على وجه التشكي من الله وقلة الصبر ، وكان الواجب عليه أن يشكر على الخير ، ويصبر على الشر ، ولهذا ردعه وزجره بقوله { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } أي ليس الإِكرام بالغنى ، والإِهانة بالفقر كما تظنون ، بل الإِكرام والإِهانة بطاعة الله ومعصيته ولكنكم لا تعلمون ، ثم قال { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } أي بل أنتم تفعلون ماهو شرٌ من ذلك ، وهو أنكم لا تكرمون اليتيم مع إِكرام الله لكم بكثرة المال ! ! { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي ولا يحض بعضكم بعضاً ولا يحثه على إِطعام المحتاج وعون المسكين { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } أي وتأكلون الميراث أكلاً شديداً ، لا تسألون أمن حلالٍ هو أم من حرام ؟ قال في التسهيل : هو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره ، لأن العرب كانوا لا يُعطون من الميراث أنثى ولا صغيراً ، بل ينفرد به الرجال { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } أي وتحبون المال حباً كثيراً مع الحرص والشره ، وهذا ذمٌ لهم لتكالبهم على المال ، وبخلهم بإِنفاقه { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } { كَلاَّ } للردع أي ارتدعوا أيها الغافلون وانزجروا عن ذلك ، فأمامكم أهوال عظيمة في ذلك اليوم العصيب ، وذلك حين تزلزل الأرض وتحرك تحريكاً متتابعاً قال الجلال : أي زلزلت حتى ينهدم كل بناءٍِ عليها وينعدم { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } أي وجاء ربك يا محمد لفصل القضاء بين العباد ، وجاءت الملائكة صفوفاً متتابعة صفاً بعد صف قال في التسهيل : قال المنذر بن سعيد : معناه ظهوره للخلق هنالك ، وهذه الآية وأمثالها مما يجب الإِيمان به من غير تكييفٍ ولا تمثيل وقال ابن كثير : قام الخلائق من قبورهم لربهم ، وجاء ربك لفصل القضاء بين خلقه ، وذلك بعدما يستشفعون إِليه بسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم ، فيجيء الربُ تبارك وتعالى لفصل القضاء ، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } أي وأحضرت جهنم ليراها المجرمون كقوله { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [ النازعات : 36 ] وفي الحديث " يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها " { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ } أي في ذلك اليوم الرهيب ، والموقف العصيب ، يتذكر الإِنسان عمله ، ويندم على تفريطه وعصيانه ، ويريد أن يقلع ويتوب { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أي ومن أين يكون له الانتفاع بالذكرى وقد فات أوانها ؟ ! { يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } أي يقول نادماً متحسراً : يا ليتني قدمت عملاً صالحاً ينفعني في آخرتي ، لحياتي الباقية قال تعالى { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي ففي ذلك اليوم ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه { وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } أي ولا يقيد أحدٌ بالسلاسل والأغلال مثل تقييد الله للكافر الفاجر ، وهذا في حق المجرمين من الخلائق ، فأما النفس الزكية المطمئنة فيقال لها { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } أي يا أيتها النفس الطاهرة الزكية ، المطمئنة بوعد الله التي لا يلحقها اليوم خوفٌ ولا فزع { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } أي ارجعي إِلى رضوان ربك وجنته ، راضيةً بما أعطاك الله من النعم ، مرضيةً عنده بما قدمت من عمل قال المفسرون : هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت ، فيقال للمؤمن عند احتضاره تلك المقالة { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي } أي فادخلي في زمرة عبادي الصالحين { وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } أي وادخلي جنتي دار الأبرار الصالحين . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الاستفهام التقريري { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد } ؟ 2 - الطباق بين { ٱلشَّفْعِ … وَٱلْوَتْرِ } . 3 - جناس الاشتقاق { لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } { وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ } { يَتَذَكَّرُ … ٱلذِّكْرَىٰ } . 4 - المقابلة { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } وبين { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ … } الآية فقد قابل بين { أَكْرَمَنِ و أَهَانَنِ } وبين توسعة الرزق . 5 - الاستعارة اللطيفة الفائقة { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } شبه العذاب الشديد الذي نزل عليهم بسياطٍ لاذعة تكوي جسد المعذَّب واستعمل الصبَّ للإِنزال . 6 - الالتفات { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } فيه التفات من ضمير الغائب الى الخطاب زيادة في التوبيخ والعتاب ، والأصل { بل لا يكرمون } . 7 - الإِضافة للتشريف { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي } . 8 - السجع الرصين غير المتكلف مثل { وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ * وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } ومثل { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ } الآيات .