Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 1-22)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { بَرَآءَةٌ } برئت من الشيء : إِذا قطعت ما بينك وبينه من سبب وأزلته عن نفسك ، قال الزجاج : برئت من الرجل والدين براءة ، وبرئت من المرض بُروءاً { فَسِيحُواْ } السياحة : السير في الأرض والذهاب فيها للتجارة أو العبادة أو غيرهما { أَذَانٌ } الأذان : الإِعلام ومنه أذان الصلاة { مَرْصَدٍ } المرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم : رصدت فلاناً إِذا ترقبته قال الشاعر : إِن المنية للفتى بالمرصد { ٱسْتَجَارَكَ } طلب جوارك أي أمانك { إِلاَّ } الإِلُّ : العهد والقرابة وأنشد أبو عبيدة : @ أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإِلَّ وأعراف الرحم @@ { نَكَثوا } النكث : النقض وأصله في كل ما فُتل ثم حل { وَلِيجَةً } بطانة ودخيلة ، قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج ، فالداخل في القوم وليس منهم يسمى وليجة وقال الفراء : الوليجة : البطانة من المشركين يفشي إِليهم سره ، ويعلمهم أمره . سَبَبُ النّزول : روي أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر ، وفيهم " العباس بن عبد المطلب " فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيّروهم بالشرك ، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا ؟ فقال : وهل لكم من محاسن ؟ فقال : نعم ، إِنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ … } الآية . التفسِير : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي هذه براءة من المشركين ومن عهودهم كائنة من الله ورسوله قال المفسرون : أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بإِلقاء عهودهم إِليهم ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك ، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة ، فقام علي فنادى في الناس بأربع : ألاّ يقرب البيت الحرام بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم ، ومن كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إِلى مدته ، والله بريء من المشركين ورسولهُ { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه ، وهو أمر إِباحة وفي ضمنه تهديد { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ } أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل ، وفي الآخرة بالعذاب الشديد { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ } أي إِعلام الى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين { يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ } أي يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك قال الزمخشري : وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أي إِعلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم ، ورسوله بريء منهم أيضاً { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال ، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً ، ولا تُعجزونه هرباً { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم قال أبو حيان : جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم ، وفي هذا وعيد عظيم لهم { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم قال في الكشاف : وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم ، ولا تُجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفي كالغادر { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } أي لم ينقصوا من شروط الميثاق شيئاً { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم قال البيضاوي : هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى قال ابن عباس : كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر ، فأتم صلى الله عليه وسلم إِليهم عهدهم { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم ، قال ابن عباس : في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم { وَخُذُوهُمْ } أي بالأسر { وَٱحْصُرُوهُمْ } أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد قال ابن عباس : إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام { وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه ، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم قال في البحر : وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ } أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ } أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك { فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره قال الزمخشري : المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر ، لا عهد بينك وبينه ، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن ، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر أقول : هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق ، لأن المراد ليس النيل من الكافرين ، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه ، ويتركوا ما هم عليه من الضلال { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين ، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام ، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا ، ثم بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } استفهام بمعنى الانكار والاستبعاد أي كيف يكون لهم عهد معتدٌ به عند الله ورسوله ، ثم استدرك فقال { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي لكن من عاهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد قال ابن عباس : هم أهل مكة وقال ابن اسحاق : هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم { فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد قال الطبري : أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي يحب من اتقى ربه ، ووفى عهده ، وترك الغدر والخيانة { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة ، لأنه لا عهد لهم ولا أمان قال أبو حيان : وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم { وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ } أي وتمتنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه وقال الطبري : المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء ، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله { ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ } أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ } أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة { فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } أي فهم إخوانكم في الدين ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم { وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم ، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيْمان { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ } أي رؤساء وصناديد الكفر { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي كي يكفوا عن الإِجرام ، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام ، قال البيضاوي : وهو متعلق بـ " قاتلوا " أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه ، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ } تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم ؟ { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ } أي عزموا على تهجير الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم أن تقاتلوهم ؟ { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } ؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم ؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إِن تركتم أمره { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه قال الزمخشري : يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إِلا ربه ولا يبالي بما سواه . . ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فقتالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم { وَيُخْزِهِمْ } أي يذلهم بالأسر والقهر { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم قال ابن عباس : هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبشروا فإِن الفرج قريب { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } أي يذهب ما بها من غيظ ، وغمٍّ ، وكرب ، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم قال الرازي : أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد ، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد ، فكيف بها إِذا اجتمعت ؟ { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية ، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة قال أبو السعود : ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون ، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } أي منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه ! { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره ، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين ، والغرض من الآية : ان الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد { شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } أي حال كونهم مقرين بالكفر ، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم : " لبيك لا شريك لك ، إِلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك " يعنون الأصنام ، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت ، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة مساجد الله ، مع الكفر بالله وبعبادته { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك { وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } أي ماكثون في نار حهنم أبداً { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن المصدق بوحدانية الله ، الموقن بالآخرة { وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ } أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها ، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة قال ابن عباس : كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] يقول : إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة قال أبو حيّان : وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن ، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين ، إِذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من تُرجى له الهداية ، فكيف بمن هو عارٍ منها ؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء ، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } الخطاب للمشركين ، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى : أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت ، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله ؟ وهو رد على العباس حين قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة ، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج فنزلت قال الطبري : هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام ، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله ، واليوم الآخر ، والجهاد في سبيله { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ } أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين ، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق ، قال في البحر : ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين ، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة ، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون ، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان ، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم ، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة ، ونفاها عن المشركين هنا فقال { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } ثم قال تعالى { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ } هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى : إِن الذين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان ، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن ، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً ، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج ، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } أي وأولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ } أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة ، ورضوان كبير من ربٍّ عظيم { وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } أي وجنات عالية ، قطوفها دانية ، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي ثوابهم عند الله عظيم ، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان : لما وصف المؤمنين بثلاث صفات : الإِيمان ، والهجرة ، والجهاد بالنفس والمال ، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة : الرحمة ، الرضوان ، والجنان ، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان ، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد ، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان وقال الألوسي : ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة ، لأن الهجرة فيها السفر ، الذي هو قطعة من العذاب . البَلاَغَة : 1 - { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } التنوين للتفخيم والتقييد بأنها من الله ورسوله لزيادة التفخيم والتهويل . 2 - { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا يسمى " الأسلوب التهكمي " لأن البشارة بالعذاب تهكم به . 3 - { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } شبّه مضي الأشهر وانقضاءها بالإِنسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فهو من باب الاستعارة . 4 - { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ذكر الاسم الجليل مكان الضمير لتربية المهابة وإِدخال الروعة في القلب . 5 - { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } الجملة مفيدة للحصر أي هم الفائزون لا غيرهم . 6 - { وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ } في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما . 7 - { بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ } تنكير الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم أي برحمة لا يبلغها وصف واصف . فَائِدَة : عمارة المساجد نوعان : حسية ، ومعنوية ، فالحسية بالتشييد والبناء ، والمعنوية بالصلاة وذكر الله ، وقد ربط الباري جل وعلا بين العمارة والإِيمان وفي الحديث " إِذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإِيمان لأن الله تعالى يقول { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } " فالعمارة الحقيقية بالصلاة وذكر الله . لطيفَة : ذكر القرطبي أن أعرابياً قدم المدينة المنورة فقال : من يقرئني مما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى الآية الكريمة { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } فقرأها عليه بالجرِّ { وَرَسُولُهُ } فقال الأعرابي : وأنا أيضاً أبرأ من رسوله ، فاستعظم الناس الأمر وبلغ ذلك عمر فدعاه فقال يا أعرابي : أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال يا أمير المؤمنين : قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة فقلت إِن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه ، فقال : ما هكذا الآية يا أعرابي ؟ قال فكيف يا أمير المؤمنين ! فقرأها عليه بالضم { وَرَسُولُهُ } فقال الأعرابي : وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه ، فأمر عمر ألا يقرئ الناس إِلا عالم بلغة العرب .