Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-20)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { كَبَدٍ } الكبدُ : الشدة والمشقة ، وأصله من كبد الرجل كبداً إِذا وجعته كبده ثم استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه المكابدة لمقاساة الشدائد { ٱقتَحَمَ } الاقتحامُ : الدخول بسرعة وشدة يقال : اقتحم الأمر ، واقتحم الحصن إِذا رمى نفسه فيه بدون روية { ٱلْعَقَبَةَ } الطريق الوعر في الجبل { فَكُّ } الفكُّ تخليص الشيء من الشيء يقال : فككت الحبل ، وفككت الأسير أي خلصته من الأسر { مَسْغَبَةٍ } مجاعة يقال : سغبَ الرجل إذا جاع وقال الراغب : هو الجوع مع التعب { مَتْرَبَةٍ } افتقار يقال : تربَ الرجل إِذا افتقر ولصق بالتراب ، وأترب إِذا استغنى وكذلك أثرى { مُّؤْصَدَةٌ } مطبقة من أوصد الباب إِذا أغلقه وأطبقه . التفسِير : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } هذا قسمٌ ، أقسم سبحانه بالبلد الحرام " مكة " التي شرَّفها الله تعالى بالبيت العتيق - قبلة أهل الشرق والغرب - وجعلها مهبط الرحمات ، وإِليها تجبى ثمرات كل شيء ، وجعلها حرماً آمناً ، وجعل حرمتها منذ خلق السماوات والأرض ، فلما استجمعت تلك المزايا والفضائل أقسم الله تعالى بها قال في التسهيل : أراد بالبلد " مكة " باتفاق ، وأقسم بها تشريفاً لها { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } أي وأنت يا محمد ساكنٌ ومقيم بمكة بلد الله الأمين قال البيضاوي أقسم بالبلد الحرام وقيَّده بحلوله عليه السلام فيه - أي إقامته فيه - إظهاراً لمزيد فضله ، وإِشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } أي وأُقسم بآدم وذريته الصالحين قال مجاهد : الوالد آدم عليه السلام { وَمَا وَلَدَ } جميع ذريته قال ابن كثير : وما ذهب إِليه مجاهد وأصحابه حسنٌ قوي ، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن ، أقسم بعده بالساكن وهو " آدم " أبو البشر وولده وقال الخازن : أقسم الله تعالى بمكة لشرفها وحرمتها ، وبآدم وبالآنبياء والصالحين من ذريته ، لأن الكافر - وإن كان من ذريته - لا حرمة له حتى يقسم به { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } هذا هو المقسم عليه أي لقد خلقنا الإِنسان في تعب ومشقة ، فإنه لا يزال يقاسي أنواع الشدائد ، من وقت نفخ الروح فيه إلى حين نزعها منه قال ابن عباس : { فِي كَبَدٍ } أي في مشقة وشدة ، من حمله ، وولادته ، ورضاعه ، وفطامه ، ومعاشه ، وحياته ، وموته ، وأصل الكبد : الشدة ، وقيل : لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق قال أبو السعود : والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من كفار مكة … ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان الجاحد بقدرة الله ، والمكذب للبعث والنشور فقال { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } أي أيظن هذا الشقي الفاجر ، المغتر بقوته ، أنَّ الله تعالى لا يقدر عليه لشدته وقوته ؟ قال المفسرون : نزلت في " أبي الأشد بن كلدة " كان شديداً مغتراً بقوته ، وكان يبسط له الأديم - الجلد - فيوضع تحت قدميه ، ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلّ قدماه ، ومعنى الآية : أيظن هذا القوي المارد ، المستضعف للمؤمنين ، أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد ؟ { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي يقول هذا الكافر : أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم قال الألوسي : أي يقول فخراً ومباهاة على المؤمنين : أنفقت مالاً كثيراً ، وأراد بذلك ما أنفقه " رياءً وسمعةً " وعبر عن الإِنفاق بالإِهلاك ، إظهاراً لعدم الاكتراث ، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع ، فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً ، وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } ؟ أي أيظن أنَّ الله تعالى لم يره حين كان ينفق ، ويظن أن أعماله تخفى على رب العباد ؟ ليس الأمر كما يظن ، بل إن الله رقيب مطلعٌ عليه ، سيسأله يوم القيامة ويجازيه عليه . . ثم ذكَّره تعالى بنعمه عليه ليعتبر ويتعظ فقال { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } أي ألم نجعل له عينين يبصر بهما ؟ { وَلِسَاناً } أي ولساناً ينطق به فيعبر عما في ضميره ؟ { وَشَفَتَيْنِ } أي وشفتين يطبقهما على فمه ، ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك ؟ قال الخازن : يريد أن نعم الله على عبده متظاهرة ، يقرره بها كي يشكره { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } أي وبينا له طريقي الخير والشر ، والهدى والضلال ، ليسلك طريق السعادة ، ويتجنب طريق الشقاوة قال ابن مسعود : { ٱلنَّجْدَينِ } الخير والشر كقوله تعالى { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإِنسان : 3 ] { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } أي فهلا أنفق ماله في اجتياز العقبة الكئود ، بدل أن ينفقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ! قال في البحر : والعقبةُ استعارةٌ للعمل الشاق على النفس ، من حيث فيه بذل المال ، تشبيهاً لها بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وقت الصعود ، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها ، ومعنى اقتحمها دخلها بسرعة وشدة ، وهو مثلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس ، والهوى ، والشيطان ، حتى ينال رضى الرحمن { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ } أي وما أعلمك ما اقتحام العقبة ؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل … ثم فسرها تعالى بقوله { فَكُّ رَقَبَةٍ } أي هي عتق الرقبة في سبيل الله ، وتخليص صاحبها من الأسر والرقِّ ، فمن أعتق رقبة كانت له فداء من النار { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } أي أو أن يطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة ، قال الصاوي وقيد الإِطعام بيوم المجاعة ، لأن إِخراج المال فيه أشد على النفس { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } أي أطعم اليتيم الذي بينه وبينه قرابة { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } أو المسكين الفقير البائس الذي قد لصق بالتراب من فقره وضره ، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس : هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي عمل هذه القربات لوجه الله تعالى ، وكان مع ذلك مؤمناً صادق الإِيمان قال المفسرون : وفي الآية إشارة إلى أن هذه القُرَب والطاعات لا تنفع إِلا مع الإِيمان { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ } أي وأوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإِيمان وطاعة الرحمن ، وبالرحمة والشفقة على الضعفاء والمساكين { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الجليلة ، هم أصحاب الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، ويسعدون بدخول جنات النعيم { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } قرن بين الأبرار والفجار على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب ، لبيان المفارقة الهائلة بين أهل الجنة وأهل النار ، وبين السعداء والأشرار أي والذين جحدوا نبوة محمد وكذبوا بالقرآن هم أهل الشمال - أهل النار - لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم ، وعبر عنهم بضمير الغائب إشارة إلى أنهم غائبون عن حضرة قدسه ، وكرامة أُنسه { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } أي عليهم نارٌ مطبقة مغلقة ، لا يدخل فيها روحٌ ولا ريحان ، ولا يخرجون منها أبد الزمان . . اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، ونجنا من ذلك يا رب . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي : 1 - زيادة { لاَ } لتأكيد الكلام ، وهو مستفيض في كلام العرب { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } أي أُقسم بهذا البلد ، وفائدتها تأكيد القسم كقولك : لا والله ما ذاك كما تقول أي والله قال امرؤ القيس : @ " لا وأبيك ابنة العامري " @@ 2 - جناس الاشتقاق { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } فكل من الوالد والولد مشتق من الولادة . 3 - الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } ؟ ومثله { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } ؟ 4 - الاستفهام التقريري للتذكير بالنعم { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } ؟ 5 - الاستفهام للتهويل والتعظيم { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ } ؟ لأن الغرض تعظيم شأنها . 6 - الاستعارة اللطيفة { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } أي طريقي الخير والشر ، وأصل النجد الطريق المرتفع ، استعير كل منهما لسلوك طريق السعادة ، وسلوك طريق الشقاوة . 7 - الاستعارة كذلك في قوله { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } لأن أصل العقبة الطريق الوعر في الجبل ، واستعيرت هنا للأعمال الصالحة لأنها لا تصعب وتشق على النفوس ، ففيه استعارة تبعية . 8 - الجناس الناقص بين { مَقْرَبَةٍ } و { مَتْرَبَةٍ } لتغير بعض الحروف . 9 - المقابلة اللطيفة بين { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } وبين { هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } . 10 - مراعاة الفواصل ورءوس الآيات مثل { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ … وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } ومثل { عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } وهو من المحسنات البديعية .