Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 96, Ayat: 1-19)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { عَلَقٍ } جمع علقة وهي الدم الجامد ، سميت علقة لأنها تعلق بالرحم { نَسْفَعاً } السَّفع : الجذب بشدة وقوة قال أهل اللغة : سفعت بالشيء إِذا قبضتُ عليه وجذبته جذباً شديداً ، وسفع بناصية فرسه جذبها قال الشاعر : @ قومٌ إِذا كثر الصياح رأيتهم مابين ملجم مهره أو سافع @@ { ٱلنَّاصِيَةِ } شعر مقدَّم الرأس { ٱلزَّبَانِيَةَ } مأخوذ من الزَّبن وهو الدفع ، والمراد بهم ملائكة العذاب ، الغلاظ الشداد ، والعرب يطلقون هذا الاسم على من اشتد بطشه قال الشاعر : @ مطاعيم في القُصْوى ، مطاعين في الوغى زبانيةٌ غلبٌ عظام حلومها @@ " روي أن أبا جهل اللعين قال لأصحابه يوماً : هل يُعفِّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ - يريد هل يصلي ويسجد أمامكم - قالوا : نعم ، فقال : واللاَّت والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأنَّ على رقبته ، ولأُعفرنَّ وجهه في التراب ، فجاء يوماً فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، فأقبل يريد أن يطأ على رقبته ، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه ، فقيل له : ما لك ؟ قال : إِن بيني وبينه خندقاً من نار ، وهولاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دنا مني لاختطفته الملائكةُ عضواً عضواً " فأنزل الله { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ * عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } إِلى آخر السورة . التفسِير : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } هذا أول خطاب إِلهي وجه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دعوةٌ إِلى القراءة والكتابة والعلم ، لأنه شعار دين الإِسلام أي إِقرأ يا محمد القرآن مبتدئاً ومستعيناً باسم ربك الجليل ، الذي خلق جميع المخلوقات ، وأوجد جميع العوالم ، ثم فسَّر الخلق تفخيماً لشأن الإِنسان فقال { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } أي خلق هذا الإِنسان البديع الشكل ، الذي هو أشرف المخلوقات من العلقة - وهي الدودة الصغيرة - وقد أثبت الطبُّ الحديث أن المنيَّ الذي خلق منه الإِنسان محتوٍ على حيواناتٍ وديدان صغيرة لا تُرى بالعين ، وإِنما ترى بالمجهر الدقيق - الميكرسكوب - وأن لها رأساً وذنباً ، فتبارك الله أحسن الخالقين قال القرطبي : خصَّ الإِنسان بالذكر تشريفاً له ، والعلقةُ قطعة من دمٍ رطب ، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمرُّ عليه { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ } أي اقرأ يا محمد وربك العظيم الكريم ، الذي لا يساويه ولا يدانيه كريم ، وقد دلَّ على كمال كرمه أنه علَّم العباد ما لم يعلموا { ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } أي الذي علَّم الخطَّ والكتابة بالقلم ، وعلَّم البشر ما لم يكونوا يعرفونه من العلوم والمعارف ، فنقلهم من ظلمة الجهل إِلى نور العلم ، فكما علَّم سبحانه بواسطة الكتابة بالقلم ، فإِنه يعلمك بلا واسطة وإِن كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب قال القرطبي : نبَّه تعالى على فضل علم الكتابة ، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إِنسان ، وما دُونت العلوم ولا قُيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتبُ الله المنزَّلة إِلا بالكتابة ، ولولاها ما استقامت أمور الدنيا والدين . . وهذه الآيات الخمس هي أول ما تنزَّل من القرآن ، كما ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الملك وهو يتعبَّد بغار حراء ، فقال : اقرأ ، فقال ما أنا بقارىء … الخ قال ابن كثير : أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات المباركات ، وهنَّ أول رحمةٍ رحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإِنسان من علقة ، وأن من كرمه تعالى أن علَّم الإِنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرَّمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به " آدم " على الملائكة … ثم أخبر تعالى عن سبب بطر الإِنسان وطغيانه فقال { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ } أي حقاً إِن الإِنسان ليتجاوز الحد في الطغيان ، واتباع هوى النفس ، ويستكبر على ربه عز وجل { أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } أي من أجل أن رأى نفسه غنياً ، وأصبح ذا ثروة ومال أشر وبطر ، ثم توعَّده وتهدده بقوله { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } أي إِنَّ إِلى ربك - أيها الإِنسانُ - المرجعُ والمصير فيجازيك على أعمالك ، وفي الآية تهديدٌ وتحذير لهذا الإِنسان من عاقبة الطغيان ، ثم هو عام لكل طاغٍ متكبر قال المفسرون : نزلت هذه الآيات إِلى آخر السورة في " أبي جهل " بعد نزول صدر السورة بمدة طويلة ، وذلك أن أبا جهل كان يطغى بكثرة ماله ، ويبالغ في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ * عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } تعجيبٌ من حال ذلك الشقي الفاجر أي أخبرني يا محمد عن ذلك المجرم الأثيم ، الذي ينهى عبداً من عباد الله عن الصلاة ، ما أسخف عقله ، وما أشنع فعله ! ! قال أبو السعود : هذه الآية تقبيحٌ وتشنيعٌ لحال الطاغي وتعجيب منها ، وإِيذان بأنها من الشناعة الغرابة بحيث يقضى منها العجب ، وقد أجمع المفسرون على أن العبد المصلي هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الذي نهاه هو اللعين " أبو جهل " حيث قال : لئن رأيتُ محمداً يصلي لأطأن على عنقه { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ } أي أخبرني إِن كان هذا العبد المصلي - وهو النبي صلى الله عليه وسلم - الذي تنهاه عن الصلاة صالحاً مهتدياً ، على الطريقة المستقيمة في قوله وفعله ! ! { أَوْ أَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ } أي أو كان آمراً بالإِخلاص والتوحيد ، داعياً إِلى الهدى والرشاد ، كيف تزجره وتنهاه ! ! فما أبلهك أيها الغبي الذي تنهي من هذه أوصافه : عبدٌ لله مطيعٌ مهتدٍ منيب ، داعٍ إِلى الهدى والرشاد ؟ ! وما أعجب هذا ؟ ! ثم عاد لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } أي أخبرني يا محمد إِن كذَّب بالقرآن ، وأعرض عن الإِيمان { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ } أي ألم يعلم ذلك الشقي أن الله مطَّلع على أحواله ، مراقب لأفعاله ، وسيجازيه عليها ! ! ويله ما أجهله وأغباه ؟ ! ثم ردعه وزجره فقال { كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ } أي ليرتدع هذا الفاجر " أبو جهل " عن غيه وضلاله ، فوالله لئن لم ينته عن أذى الرسول ، ويكف عمَّا هو عليه من الكفر والضلال { لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ } أي لنأخذنه بناصيته - مقدم شعر الرأس - فلنجرنه إِلى النار بعنفٍ وشدة ونقذفه فيها { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } أي صاحب هذه الناصية كاذبٌ ، فاجرٌ ، كثير الذنوب والإِجرام قال في التسهيل : ووصفها بالكذب والخطيئة مجازٌ ، والكاذب الخاطىء في الحقيقة صاحبها ، والخاطىء الذي يفعل الذنب متعمداً ، والمخطىء الذي يفعله بدون قصد { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي فليدع أهل ناديه وليستنصر بهم { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } أي سندعوا خزنة جهنم ، الملائكة الغلاظ الشداد ، روي " أن أبا جهل مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام فقال : ألم أنهك عن هذا يا محمد ! فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم القول ، فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني يا محمد ! والله إِني لأكثر أهل الوادي هذا نادياً فأنزل الله { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } " قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ } أي ليرتدع هذا الفاجر ، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إِليه من ترك الصلاة { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } أي وواظب على سجودك وصلاتك ، وتقرَّب بذلك إِلى ربك وفي الحديث " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الإِطناب بتكرار الفعل { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ … } ثم قال : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ } لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم . 2 - الجناس الناقص بين { خَلَقَ } و { عَلَقٍ } . 3 - طباق السلب { عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . 4 - الكناية { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ * عَبْداً } كنَّى بالعبد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل : ينهاك تفخيماً لشأنه وتعظيماً لقدره . 5 - الاستفهام للتعجيب من شأن الناهي { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ } ؟ { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ } ؟ 6 - المجاز العقلي { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } أي كاذب صاحبها خاطىء فأسند الكذب إِليها مجازاً . 7 - السجع المرصَّع مثل { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } .