Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 106-107)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن عباس رضي الله عنهما : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نبدل من آية ، وقال مجاهد : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي ما نمحو من آية ، مثل قوله : " الشيخ والشيخة إذا زنَيا فارجموهما البتّة " ، وقوله : " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً " ، وقال ابن جرير : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيّره ، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، والمباح محظوراً ، والمحظور مباحاً ، ولا يكون ذلك إلا في ( الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ) فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ . وأصل النسخ : من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أُخرى إلى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره ، إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها ، وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة ، وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ، والأمرُ في ذلك قريب . لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ، ولحظ بعضهم أنه : رفع الحكم بدليل شرعي متأخر ، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدل . وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه . وقال الطبراني : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها ، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف ، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها " ، فكان الزهري يقرؤها : { مَا ننسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } بضم النون الخفيفة . وقوله تعالى : { أَوْ نُنسِهَا } فقرىء على وجهين : { نَنْسأها } ، { ونُنْسِها } ، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها . قال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود { أو ننسأها } نثبت خطها ونبدل حكمها ، وقال مجاهد وعطاء : { أو ننسأها } نؤخرها ونرجئها . عن ابن عباس قال : خطبنا عمر رضي الله عنه فقال : يقول الله عزّ وجلّ : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي نؤخرها ، وأما على قراءة { أَوْ نُنسِهَا } فقال قتادة : كان الله عزّ وجلّ ينسي نبيّه صلى الله عليه وسلم ما يشاء ، وينسخ ما يشاء . وقال ابن جرير عن الحسن في قوله : { أَوْ نُنسِهَا } قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآناً ثم نسيه ، وعن ابن عباس قال : " كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار " وقال عمر : أقرؤنا أبيّ ، وأقضانا علي ، وإنَّا لندع من قول أبيّ ، وذلك أن أبيّاً يقول : لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } . وقولُه : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين ، كما قال ابن عباس : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال السدي : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه . وقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، فله الخلق والأمر ، وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء ، ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء ، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ، ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء ، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ويختبر عباده بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى ، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا ، وامتثال ما أمروا ، وترك ما عنه زجروا ، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى إستحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً ، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً ، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء ، وأقر فيهما ما أشاء ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود ، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غيَّر الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته ، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء ، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه . ( قلت ) : الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد ، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى ، لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد ، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك ، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حلَّ بعضها ، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها ، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل ، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه . ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود عليهم لعنة الله حيث قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الآية فكما أن له الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] . والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال بوقوعه ، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسِّر : لم يقع شيء من ذلك في القرآن ، وقوله ضعيفٌ مردود مرذول ، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول ، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول ، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشيء ، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين ، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، والله أعلم .