Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 177-177)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة ، وقواعد عميقة ، وعقيدة مستقيمة ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجُّه إلى بيت المقدس ، ثم حوّلهم إلى الكعبة ، شقَّ ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عزّ وجلّ ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجّه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ، ولهذا قال : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } كما قال في الأضاحي والهدايا : { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] . وقال ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلُّوا ولا تعلموا ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها ، وقال أبو العالية : كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تُقْبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى : { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، وقال مجاهد ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عزّ وجلّ ، { وَٱلْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين . وقوله تعالى : { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي أخرجه وهو محبٌ له راغب فيه ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً : " أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر " ، وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 8 - 9 ] ، وقال تعالى : { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] ، وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له . وقوله تعالى : { ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } وهم قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت في الحديث : " الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة ، فهم أولى الناس بك وبِبرَّك وإعطائك " وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز { وَٱلْيَتَامَىٰ } هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ ، والقدرة على التكسب ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتم بعد حلم " ، { وَٱلْمَسَاكِينَ } وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيُعْطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه " ، { وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف كما قال ابن عباس { ٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } : هو الضيف الذي ينزل ، { وَٱلسَّآئِلِينَ } وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " ، { وَفِي ٱلرِّقَابِ } وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم ، عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في المال حق سوى الزكاة " ، ثم قرأ : { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ - إلى قوله - وَفِي ٱلرِّقَابِ } . وقوله تعالى : { وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ } أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها ، على الوجه الشرعي المرضي ، وقوله : { وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } كقوله : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 - 7 ] والمراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين ، إنما هو التطوع والبر والصلة ، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } كقوله : { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ } [ الرعد : 20 ] وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث : " آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " ، وفي الحديث الآخر : " وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " ، وقوله تعالى : { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } أي في حال الفقر وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء ، { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس . وإنما نصب { ٱلصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته ، والله أعلم . وقوله : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم ، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .