Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 190-194)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى الآية إن الله تعالى يقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي هذه في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والراوئح والخواص ، { وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر ، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً ، ويقصر الذي كان طويلاً وكل ذلك تقدير العزيز العليم ، ولهذا قال تعالى : { لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها ، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون ، الذين قال الله فيهم : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } . كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنبك " أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم ، { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته . وقال الداراني : إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة ، وعن الحسن البصري أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ، وقال : الحسن الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك . وعن عيسى عليه السلام أنه قال : طوبى لمن كان قيله تذكراً ، وصمته تفكراً ، ونظره عبراً . وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه . وقال ابن المبارك : مرّ رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال : يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الرجال ، وكنز الأموال . وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] . وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة . وقال بشر الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه ، وعن عيسى عليه السلام أنه قال : يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت ، وكن في الدنيا ضعيفاً ، واتخذ المساجد بيتاً ، وعلم عينيك البكاء ، وجسدك الصبر وقلبك الفكر ، ولا تهتم برزق غد . وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك ، فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها . ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر ، إن فيها مواعظ لمن ادكر . وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 105 - 106 ] ، ومدح عباده المؤمنين : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، قائلين : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً ، بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا ، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل ، فقالوا : { سُبْحَانَكَ } أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً ، { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل ؛ يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم ، ثم قالوا : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي يوم القيامة لا مجير لهم منك ، ولا محيد لهم عما أردت بهم ، { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ } أي داعياً يدعو إلى الإيمان ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، { أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه أي بإيماننا واتباعنا نبيك ، { رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي استرها ، { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } فيما بيننا وبينك ، { وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } أي ألحقنا بالصالحين ، { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } قيل : معناه على الإيمان برسلك ، وقيل : معناه على ألسنة رسلك ، وهذا أظهر . { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي على رؤوس الخلائق ، { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } أي لا بد من الميعاد الذين أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري رحمه الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } الآيات ، ثم قام فتوضأ واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء ، وتلا هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } إلى آخر السورة ، ثم قال : " اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن بين يدي نوراً ، ومن خلفي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، وأعظم لي نوراً يوم القيامة " . وعن عطاء قال : " انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها ، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب ، فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا ، قال : قول الشاعر ( زر غباً تزدد حباً ) ، فقال ابن عمر : ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ؟ فبكت وقالت : كل أمره كان عجباً ، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال " ذريني أتعبد لربي عزّ وجلّ " ، قالت ، فقلت : والله إني لأحب قربك ، وإني أحب أن تعبد ربك ، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، قالت ، فقال : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } " ، ثم قال : " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " " .