Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 59-63)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول جلّ وعلا : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ } في قدرة الله حيث خلقه من غير أب { كَمَثَلِ ءَادَمَ } حيث خلقه من غير أب ولا أم ، بل { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } . فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، وإن جاز ادعاء البُنُوَّة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل ، فدعواهم في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً ، ولكن الرب جلّ جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ الآية : 21 ] ، وقال هٰهنا : { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ! ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } أي نحضرهم في حال المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي نلتعن { فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } أي منا ومنكم . يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البُنُوَّة والإلٰهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم . قال ابن إسحاق في سيرته : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى من نجران ستون راكباً ، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال - يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم - وقد حانت صلاتهم فقالوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوهم " ، فصلوا إلى المشرق . قال : فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، والأيهم - وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم - يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، وكذلك النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً ، وذلك كله بأمر الله . وليجعله الله آية للناس ، ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله ، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ، وفيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ، ولكنه هو عيسى ومريم - تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - وفي كل ذلك من قولهم : قد نزل القرآن . فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلما " ، قال : قد أسلمنا . قال " إنكما لم تسلما فأسلما " . قالا : بلى ، قد أسلمنا قبلك ، قال : " كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير " ، قالا : فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها . ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، ثم انصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين " ، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجِّراً ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه ، فقال : " اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه " ، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه . وقال البخاري ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : " جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعَنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً ، فقال : " لأبعثن معكم رجلاً أميناً ، حق أمين " فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " ، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أمين هذه الأمة " وفي الحديث عن ابن عباس " قال : قال أبو جهل قبّحه الله : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته . قال : فقال : " لو فعل لأخذته الملائكة عياناً ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً " " . والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح ، وهي قوله تعالى : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ التوبة : 29 ] الآية . وقال أبو بكر بن مردويه ، عن جابر : " قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي بعثني بالحق لو قالا : لا لأمطر عليهم الوادي ناراً " قال جابر : وفيهم نزلت : { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } . ثم قال تعالى : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد ، { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي عن هذا إلى غيره ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ } أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد ، والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء ، وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ، ونعوذ به من حلول نقمته .