Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 53-59)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ، ولا يصح حمل هذه على غير توبة ، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، ونزل : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } . وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } " إلى آخر الآية . وعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصاً له فقال : يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات ، فهل يغفر لي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " ألست تشهد أن لا إلٰه إلا الله " ؟ قال : بلى ، وأشهد أنك رسول الله ، فقال صلى لله عليه وسلم : " قد غفر لك غدراتك وفجراتك " " وروى الإمام أحمد ، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } . فهذه الأحادث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ، ولا يقنطن عبد من رحمة الله ، وإن عظمت ذنوبه وكثرت ، فإن باب الرحمة والتوبة واسع ، قال الله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] ، وقال عزّ وجلّ : { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] ، وقال جلّ وعلا في حق المنافقين : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ } [ النساء : 145 - 146 ] ، وقال تبارك وتعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } [ البروج : 10 ] قال الحسن البصري رحمه الله : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، والآيات في هذا كثيرة جداً ، وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله وأكمل به مائة ، ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها ، فأتاه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأمر الله عزّ وجلّ أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها ، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة ، هذا معنى الحديث ، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه ، وقال ابن عباس في قوله عزّ وجلّ : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية . قال : قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ، ومن زعم أن عزيراً ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة ، يقول الله تعالى لهؤلاء : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] . ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء ، من قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عزَّ وجلَّ ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه ، وروى الطبراني عن ابن مسعود قال : إن أعظم آية في كتاب الله { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] ، وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] ، وإن أكثر آية في القرآن فرحاً { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } ، وإن أشد آية في كتاب الله تفويضاً { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . ومرَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على قاصّ وهو يذكر الناس ، فقال : يا مذكر لِمَ تقنطِ الناسَ من رحمة الله ؟ ثم قرأ : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } . ذكر أحاديث فيها نفي القنوط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم ، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزَّ وجلَّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم " ، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة : " قد كنت كتمت منكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لولا أنكم تذنبون لخلق الله عزَّ وجلَّ قوماً يذنبون فيغفر لهم " " ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفارة الذنب الندامة " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم " ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة ، فقال : { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } الخ ، أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة ، { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } وهو القرآن العظيم { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون ، ثم قال تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عزَّ وجلَّ ، وقوله تبارك وتعالى : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزىء غير موقن مصدق ، { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل ، قال ابن عباس : أخبر الله سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه ، وعملهم قبل أن يعملوه ، وقال تعالى : { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] ، { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } فأخبر الله عزَّ وجلَّ أن لو ردوا لما قدروا على الهدى فقال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] ، وفي الحديث : " كل أهل النار يرى مقعده من الجنة ، فيقول : لو أن الله هداني فتكون عليه حسرة ، قال : وكان أهل الجنة يرعى مقعده من النار ، فيقول : لولا أن الله هداني قال : فيكون له الشكر " ، ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا ، وتحسروا على تصديق آيات الله واتباع رسله ، قال الله سبحانه وتعالى : { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } أي قد جاءتك أيها العباد النادم آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك ، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها .