Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 29-32)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
رُوي عن الزبير { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } قال : بنخلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة ، { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعة من جن نصيبين . وروى الحافظ البيهقي في كتابه " دلائل النبوة " عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ . وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم { فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } " ، وأنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } [ الجن : 1 ] وإنما أوحي إليه قول الجن ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه ، قالوا : أنصتوا ، قال : صه ، وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } - إلى - { ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فهذا مع رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً ، قوماً بعد قوم ، وفوجاً بعد فوج ، قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ . روى الإمام مسلم ، عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت : " هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير ؟ اغتيل ؟ قال ، فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حرَاء ، قال ، فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : " أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن " ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد ، فقال : " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " " وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون " " ( طريق أُخرى ) : قال ابن جرير ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي - وكان من أهل الشام - قال : " إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : " من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل " ، فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط برجله خطاً ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام ، فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق فتبرز ، ثم أتاني فقال : " ما فعل الرهط ؟ " قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأعطاهم عظماً وروثاً زاداً ، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم " وعن قتادة في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } قال : " ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ( نينوى ) وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني أمرت أن أقرأ على الجن ، فأيكم يتبعني ؟ " فأطرقوا ، ثم استتبعهم ، فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة ، فقال رجل : يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة ، فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل ، قال : فدخل صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له ( شعب الحجون ) وخط عليه ، وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك ، قال : فجعلت أُهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق " " . فهذه الطريق تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصداً ، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين ، وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : " كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته ، فأدركه يوماً فقال : " من هذا ؟ " ، قال : أنا أبا هريرة ، قال صلى الله عليه وسلم : " ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة " ، فأتيته بأحجار في ثوبي ، فوضعتها إلى جنبه ، حتى إذا فرغ وقام اتبعته ، فقلت : يا رسول الله ما بال العظم والروثة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد ، فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم ، إلاّ وجدوه طعاماً " " وقال سفيان الثوري ، عن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، أتوه من أصل نخلة ، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة ، وقيل كانوا ثلثمائة ، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم . ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في " صحيحه " ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا ، إلاّ كان كما يظن ، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل ، فقال : لقد أخطأ ظني ، أو أن هذا على دينه في الجاهلية ، أو لقد كان كاهنهم ، عليَّ بالرجل ، فدعي له ، فقال له ذلك ، فقال : ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم ، قال : فإني أعزم عليك إلاّ ما أخبرتني ، قال : كنت كاهنهم في الجاهلية ، قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك ؟ قال بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت : @ ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها @@ قال عمر رضي الله عنه : صدق ، " بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل ، فذبحه ، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه ، يقول : يا جليح ، أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إلٰه إلاّ الله ، قال : فوثب القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ، ثم نادى : يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إلٰه إلاّ الله ، فقمت فما نشبنا أن قيل : هذا نبي " . وقوله تبارك وتعالى { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ } أي طائفة من الجن ، { يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ } أي استمعوا وهذا أدب منهم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمٰن حتى ختمها ، ثم قال : " ما لي أراكم سكوتاً ؟ للجِنُّ كانوا أحسن منكم رداً ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلاّ قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " " وقوله عزّ وجلّ : { فَلَمَّا قُضِيَ } أي فرغ كقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ } [ الجمعة : 10 ] ، { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله جلّ وعلا : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] ، وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ وليس فيهم رسل ، فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام : { يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [ الآية : 130 ] فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس ، كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمٰن : 22 ] أي أحدهما ، ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم ، فقال مخبراً عنهم : { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } ولم يذكروا عيسى ، لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل ، فيه مواعظ وقليل من التحليل والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة ، فالعمدة هو التوراة ، فلهذا قالوا { أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله ، { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } أي في الاعتقاد والإخبار ، { وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } في الأعمال فإن القرآن مشتمل على : خبر وطلب ، فخبره صدق ، وطلبه عدل كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] ، وهكذا قالت الجن { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } في الاعتقادات ، { وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي في العمليات { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين ، الجن والإنس ، حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي " سورة الرحمن " ، ولهذا قال : { أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ } . وقوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } قبل إن { مِّن } هٰهنا زائدة ، وفيه نظر ، وقيل إنها للتبعيض ، { وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي ويقيكم من عذابه الأليم ، ومؤمنو الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشارع ، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به . وقد حكي فيهم أقوال غريبة ، فمن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يروا بني آدم ، بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا ، ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب ، كالملائكة لأنهم من جنسهم ، وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها ، ثم قال مخبراً عنهم : { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ } أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة له { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ } أي لا يجيرهم منه أحد { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وهذا مقام تهديد وترهيب ، فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب ، ولهذا نجع في كثير منهم ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً وفوداً كما تقدم بيانه ، والله أعلم .