Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 106-108)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز ، قيل أنه منسوخ ، وقال آخرون وهم الأكثرون بل هو محكم ، ومن ادعى نسخه فعليه البيان ، فقوله تعالى : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ } . هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم . فقيل : تقديره شهادة اثنين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : دل الكلام على تقدير : أن يشهد اثنان ، وقوله تعالى : { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين بأن يكونا عدلين ، وقوله : { مِّنْكُمْ } أي من المسلمين ، قاله الجمهور . قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ، قال : من المسلمين . قال ابن جرير : وقال آخرون عنى ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } أي من أهل الموصي ، وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم ، قال ابن عباس في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال : من غير المسلمين ، يعني أهل الكتاب ، وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله : { مِّنْكُمْ } أن المراد من قبيلة الموصي ، يكون المراد هٰهنا { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي من غير قبيلة الموصي ، وقوله تعالى : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي سافرتم { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما قال ابن جرير عن شريح : لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلاّ في سفر ، ولا تجوز في سفر إلاّ في الوصية ، وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل وخالفه الثلاثة ، فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين ، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضاً . وقال ابن جرير عن الزهري قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين . وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها ، رواه ابن جرير . وفي هذا نظر والله أعلم . وقال ابن جرير : اختلف في قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما ؟ على قولين ( أحدهما ) : أن يوصي إليهما ، سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية قال : هذا رجل سافر ومعه مال فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين ، ( والقول الثاني ) : أنهما يكونا شاهدين ، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة ، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان الوصاية والشهادة ، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كما سيأتي ذكرها إن شاء الله وبه التوفيق . وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ } قال ابن عباس : يعني صلاة العصر ، وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما ، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ، { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ } أي فيحلفان بالله { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا فيحلفان حينئذٍ بالله { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } أي بأيماننا { ثَمَناً } أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه ، { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها . { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ } أي إن فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية ، ثم قال تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً } أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئاً من المال الموصى به إليهما وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ } أي متى تحقق بالخبر الصحيح خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } ، أي لقولنا إنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة ، { وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ } أي فيما قلنا فيهما من الخيانة { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } ، أي إن كنا قد كذبنا عليهما ، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل ، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام . وقد روي عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري ، وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته ، فقدوا جاما من فضة مخوصاً بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجدوا الجام بمكة ، فقيل : اشتريناه من تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وإن الجام لصاحبهم ، وفيهم نزلت : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية ، ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه أبو جعفر بن جرير عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري يعني ( أبا موسى الأشعري ) رضي الله عنه ، فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : فأحلفهما بعد العصر ، بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيّرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته ، قال : فأمضى شهادتهما ، فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء ، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة ، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخراً يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام ، والله أعلم . وقال السدي في الآية { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } قال : هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه ، قال : هذا في الحضر { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } في السفر { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما ، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان ، فذلك قوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } ، قال ابن عباس رضي الله عنه : كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة ، فأنكر أهل الميت وخوفوهما ، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت : إنهما لا يباليان صلاة العصر ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمناً قليلاً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين : أن صاحبهم لهذا أوصى ، وأن هذه لتركته ، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم نجز لكما شهادة وعاقبتكما ، فإذا قال لهما ذلك فإن { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ } ، رواه ابن جرير ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا - بعد العصر - بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمناً قليلاً ، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً } يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } يقول من الأولياء ، فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فترد شهادة الكافرين : وتجوز شهادة الأولياء ، وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم ، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله . وقوله تعالى : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ } أي شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين إذا استريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي . وقوله : { أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله ، والخوف من الفضيحة بين الناس ، إن ردت اليمين على الورثة ، فيحلفون ويستحقون ما يدعون ، ولهذا قال : { أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } ثم قال : { وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ } أي في جميع أموركم ، { وَٱسْمَعُواْ } أي وأطيعوا ، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته .