Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 48-50)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع ، وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه كما تقدم بيانه ، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ } أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه ، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر ، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله ، وصدقوا رسل الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 107 - 108 ] أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولاً أي لكائناً لا محالة ولا بد . وقوله تعالى : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } قال ابن عباس : أي مؤتمناً عليه ، وعنه أيضاً المهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله . وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه منها فهو باطل . وعن الوالبي عن ابن عباس : { وَمُهَيْمِناً } أي شهيداً ، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي ، وقال العوفي عن ابن عباس { وَمُهَيْمِناً } أي حاكماً على ما قبله من الكتب . وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله ، فهو : أمين ، وشاهد ، وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها ، حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها ، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة ، فقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . وقوله تعالى : { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم ، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك ، { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا ، وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أي آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء . وقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } عن ابن عباس : { شِرْعَةً } قال : سبيلاً ، { وَمِنْهَاجاً } قال : وسنة ، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } : أي سنة وسبيلاً والأول أنسب ، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضاً هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ، ومنه يقال شرع في كذا : أي ابتدأ فيه ، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء ، أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل ، والسنن الطرائق . فتفسير قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم . ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، كما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد " ، يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] الآية ، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي ، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً ، ثم يحل في الشريعة الأخرى ، وبالعكس ، وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه ، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، قال قتادة قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } يقول : سبيلاً وسنة ، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة . يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها . ولكنه تعالى شرّع لكل رسول شريعة على حدة ، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده ، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله { فِي مَآ آتَاكُم } يعني من الكتاب ، ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله ، ثم قال تعالى : { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ } أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم ، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه بلا دليل ولا برهان . وقوله تعالى : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه . ثم قال : { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من الأمور ، فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة ، { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } ، أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي إن أكثر الناس لخارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] وقال تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] الآية . وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } إلى قوله : { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . رواه ابن جرير . وقوله تعالى : { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجل بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير . قال تعالى : { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي ومن أعدل من الله في حكمه ، لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن ، وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، عن الحسن قال : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية ، وكان طاووس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ : { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } الآية ، وقال الحافظ الطبراني عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الناس إلى الله عزَّ وجلَّ من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه " وروى البخاري بإسناده نحوه بزيادة .