Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 82-86)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن عباس : نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه ، الذين حين تلا عليهم ( جعفر بن أبي طالب ) بالحبشة القرآن بكوا ، حتى أخضلوا لحاهم . وهذا القول فيه نظر ، لأن هذه الآية مدنية ، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة ، وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما : نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته ، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا . ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه . وقال عطاء بن أبي رباح : هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين ، وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا ، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها . فقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ما ذاك إلاّ لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ، ومباهتة للحق ، وغمط للناس ، وتنقص بحملة العلم ، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء ، حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسمّوه وسحروه ، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي بمسلم قط إلاّ هم بقتله " . وقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة ، وما ذاك إلاّ لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } [ الحديد : 27 ] ، وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ، وليس القتال مشروعاً في ملتهم ، ولهذا قال تعالى : { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي يوجد فيهم القسيسون ، وهم خطباؤهم وعلماؤهم ، واحدهم قسيس وقس أيضاً ، وقد يجمع على قسوس ، والرهبان جمع راهب وهو العابد ، مشتق من الرهبة وهي الخوف كراكب وركبان وفارس وفرسان . قال ابن جرير : وقد يكون الرهبان واحداً وجملة ، رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وقد يجمع على رهابنة ، ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحداً قول الشاعر : @ لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل @@ وقال ابن أبي حاتم عن جاثمة بن رئاب قال : سمعت سلمان ، وسئل عن قوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } فقال : هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب ، فدعوهم فيها ، قال سلمان : وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم : { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ } ، فأقرأني : " ذلك بأن منهم صدّيقين ورهباناً " . فقوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ، تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به ، وقد روى النسائي عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } . عن ابن عباس في قوله : { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ وللرسل أنهم قد بلغوا ، وكانوا ( كرّابين ) يعني فلاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم . قال تعالى : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ } ، وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ } [ آل عمران : 199 ] الآية ، وهم الذين قال الله فيهم : { وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [ القصص : 53 ] ، ولهذا قال تعالى هٰهنا : { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق ، { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ، { وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان ، ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } أي جحدوا بها وخالفوها ، { أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } أي هم أهلها والداخلون فيها .