Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 7-11)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل ، وحث على الأنفاق { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي مما هو معكم على سبيل العارية ، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم ، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته ، وقوله تعالى : { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك ، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك ، أو يعصى الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان . روى مسلم ، عن عبد الله بن الشخير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : " ألهاكم التكاثر ، يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ أو تصدقت فأمضيت ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " وقوله تعالى : { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ، ثم قال تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ } أي : وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ، وقد روينا في الحديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه : " أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً ؟ " قالوا : الملائكة ، قال : " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ " قالوا : فالأنبياء ، قال : " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ " قالوا : فنحن ، قال : " ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها " وقوله تعالى : { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } كما قال تعالى : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ المائدة : 7 ] ويعني بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات ، { لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي من ظلمات الجهل والكفر ، إلى نور الهدى والإيمان ، { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس ، ولما أمرهم أولاً بالإيمان والإنفاق ، ثم حثهم على الإيمان ، حثهم أيضاً على الإنفاق ، فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ؟ أي أنفقوا ولا تخشوا فقراً وإقلالاً ، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السماوات والأرض ، وهو القائل : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [ سبأ : 39 ] ، { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] ، فمن توكل على الله أنفق وعلم أن الله سيخلفه عليه ، وقوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله ، وذلك أنه قبل فتح مكة كان الحال شديداً ، فلم يكن يؤمن حينئذٍ إلاّ الصديقون ، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، ولهذا قال تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } ، والجمهور على أن المراد بالفتح هٰهنا ( فتح مكة ) ، وعن الشعبي : أن المراد ( صلح الحديبية ) . وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد ، عن أنس قال : " كان بين ( خالد بن الوليد ) وبين ( عبد الرحمٰن بن عوف ) كلام ، فقال خالد لعبد الرحمٰن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ادعوا لي أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحُد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم " ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكة . وعن أبي سعيد الخدري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " ، قلنا : من هم يا رسول الله ، قريش ؟ قال : لا ، ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً " ، وأشار بيده إلى اليمن فقال : " هم أهل اليمن ، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية " ، فقلنا : يا رسول الله هم خير منا ؟ قال : " والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه " ، ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال : " ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } " وقوله تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } يعني المنفقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء ، كما قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 95 ] الآية ، وهكذا الحديث الذي في الصحيح : " المؤمن القوي خير ، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه ، مع تفضيل الأول عليه ، ولهذا قال تعالى : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذاك إلاّ لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق ، وفي الحديث : " سبق درهم مائة ألف " ولا شك أن الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزَّ وجلَّ ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها . وقوله تعالى : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } قال عمر بن الخطاب : هو الإنفاق في سبيل الله ، وقيل : هو النفقة على العيال ، والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة ، وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية ، ولهذا قال تعالى : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } ، كما قال في الآية الأُخرى { أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة . عن عبد الله بن مسعود قال : " لما نزلت هذه الآية { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " ، قال : أرني يدك يا رسول الله ، قال ، فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، وله حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال ، فجاء أبو الدحداح ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجلّ " وفي رواية " أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح " ، ونقلت منه متاعها وصبيانها ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كم من عِذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح " .