Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 1-5)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يخبر تعالى أن جميع ما في السماوات والأرض يسبّح له ويمجِّده ، ويقدِّسه ويوحِّده كقوله تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] ، وقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } أي منيع الجناب { ٱلْحَكِيمُ } في قدره وشرعه ، وقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } يعني يهود بني النضير ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ظنوا أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئاً ، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم ، وسيّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى ( أذرعات ) من أعالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى ( خيبر ) وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم ، ولهذا قال تعالى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله ، وكذّب كتابه ، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا ، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم ، روى أبو داود ، عن عبد الرحمٰن بن كعب بن مالك ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " أن كفّار قريش كتبوا إلى ( ابن أبيّ ) ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بالمدينة قبل رجعة بدر إنكم أدنيتم صاحبنا ، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم ، فلما بلغ ذلك ( عبد الله بن أبيّ ) ومن كان معه من عبدة الأوثان أجمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال : " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم ، يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم " ، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا ، فبلغ ذلك كفار قريش ، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود ، إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء ، وهو الخلاخيل ، فلمّا بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبراً ، حتى نلتقي بمكان النصف ، وليسمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم : " إنكم والله لا تؤمنون عندي إلاّ بعهد تعاهدوني عليه " ، فأبوا أن يعطوه عهداً ، فقاتلهم يومهم ذلك ، ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب ، وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه ، فانصرف عنهم ، وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء فجلت بنو النضير ، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها ، فقال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } نقول بغير قتال ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم ، وقسم منها لرجلين من الأنصار ، وكانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما " ، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة . وقوله تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي في مدة حصاركم لهم وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها ، ولهذا قال تعالى : { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى { وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 26 ] ، وقوله تعالى : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } أي الخوف والهلع والجزع ، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه ، وقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ } هو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وحملها على الإبل ، وقال مقاتل بن حيان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم ، فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال ، وكان اليهود إذا علوا مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها ، ثم حصنوها ودربوها ، يقول الله تعالى : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } ، وقوله : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا } أي لولا أن الله كتب عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم ، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك ، لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : " ثم كانت وقعة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلاّ الحلقة وهي السلاح ، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام ، قال : والجلاء أنه كتب عليهم في آي من التوراة ، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله فيهم : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } - إلى قوله - { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } ، قال قتادة : الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد ، وقال الضحّاك : أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء فهذا الجلاء ، وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم ، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم ، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء ، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أُخْرَى . وعن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير ، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام . وقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } أي حتم لازم لا بد لهم منه ، وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين ، لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ، ثم قال : { وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } ، وقوله تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } اللين نوع من التمر وهو جيد ، قال أبو عبيدة : وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر ، وقال كثيرون من المفسرين : اللينة ألوان التمر سوى العجوة ، قال ابن جرير : هو جميع النخل ، وذلك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرعاباً لقلوبهم ، فبعث بنو قريظة يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنهي عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة ، أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه ، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم ، وإرغام لأنوفهم " روى الإمام أحمد ، عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرّق " ولفظ البخاري ، عن ابن عمر قال : حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير ، وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة ، فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا ، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع ، وهم رهط ( عبد الله بن سلام ) ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة . وفي " الصحيحين " عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع ، وهي البويرة ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } " ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه : @ وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير @@ قال أبو إسحاق : كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أُحُد وبعد بئر معونة ، وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال : كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر .