Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 8-10)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } ، أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه ، { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم ، وهؤلاء هم سادات المهاجرين . ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة ، فقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم ، قال عمر : " وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم ، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم " . وقوله تعالى : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي من كرمهم وشرف أنفسهم ، يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم ، روى الإمام أحمد ، عن أَنَس قال : " قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم ، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير ، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال : " لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم " . ودعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين ، قالوا : لا ، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : " إما لا ، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة " " وقال البخاري ، عن أبي هريرة قال : " قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : " لا " ، فقالوا : أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة ؟ قالوا : سمعنا وأطعنا " ، { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين ، فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة ، قال الحسن البصري : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني الحسد { مِّمَّآ أُوتُواْ } قال قتادة : يعني فيما أعطي إخوانهم ، وقال عبد الرحمٰن بن زيد في قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } يعني مما أوتوا : المهاجرون ، قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الحشر : 6 ] قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " ، فقالوا : أموالنا بيننا قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك ؟ " قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر " ، فقالوا : نعم يا رسول الله ، وقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } " يعني حاجة ، أي يقدموا المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك . وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل الصدقة جهد المقل " ، ومن هذا المقام " تصدق الصدّيق رضي الله عنه بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله " ، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثالث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ، ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم ، وقال البخاري ، عن أبي هريرة قال : " أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله " فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله ، فقال لامرأته هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً ، فقالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية ، قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ، ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لقد عجب الله عزّ وجلّ - أو ضحك - من فلان وفلانة " " ، وأنزل الله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه . وقوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " وقال ابن أبي حاتم ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمٰن إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال له عبد الله : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ، ولكن ذاك البخل ، وبئس الشيء البخل ، وعن أبي الهياج الأسدي ، قال : كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له : فقال إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل ، وإذا الرجل عبد الرحمٰن بن عوف رضي الله عنه . وفي الحديث : " بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة " . وقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء ، وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] ، فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة ، وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر والعلانية ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ } أي قائلين : { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } أي بغضاً وحسداً { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ، وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء ، وقال ابن أبي حاتم ، عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ، ثم قرأت هذه الآية : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } الآية ، وقال ابن جرير : قرأ عمر بن الخطاب : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 60 ] ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ } [ الأنفال : 41 ] الآية : ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ } [ الحشر : 7 ] حتى بلغ { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } - { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة ، وليس أحد إلا وله فيها حق ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق بها جبينه .