Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 97, Ayat: 1-5)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى أنه أنزل القرآن { لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } وهي الليلة المباركة التي قال الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وهي من شهر رمضان ، كما قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] ، قال ابن عباس : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال تعالى معظماً لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها ، فقال : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ * لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } . روى ابن أبي حاتم ، عن مجاهد " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، قال : فعجب المسلمون من ذلك قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ * لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } " التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر ، وورى ابن جرير ، عن مجاهد قال : " كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الآية { لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل " ، وقال سفيان الثوري : بلغني عن مجاهد ليلة القدر خير من ألف شهر قال : عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر ، وعن مجاهد : ليلة القدر خير من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر ، وقال عمرو بن قيس : عملٌ فيها خير من علم ألف شهر ، وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر هو اختيار ابن جرير ، وهو الصواب ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل " وفي الحديث الصحيح في فضائل رمضان قال عليه السلام : " فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم " ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " وقوله تعالى : { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحلق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم تعظيماً له ، وأما الروح فقيل : المراد به هٰهنا جبريل عليه السلام ، فيكون من باب عطف الخاص على العام ، وقيل : هم ضرب من الملائكة كما تقدم في سورة النبأ ، والله أعلم , وقوله تعالى : { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } قال مجاهد : سلام هي من كل أمر ، وقال سعيد بن منصور عن مجاهد في قوله : { سَلاَمٌ هِيَ } قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ، أو يعمل فيها أذى ، وقال قتادة : تقضى فيها الأمور ، وتقدر الآجال والأرزاق ، كما قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 4 ] ، وروى أبو داود الطيالسي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : " إنها ليلة سابعة ، أو تاسعة وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى " وقال قتادة وابن زيد في قوله : { سَلاَمٌ هِيَ } يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر ، وأمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة ، كأن فيها قمراً ساطعاً ، ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر ، والشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في ليلة القدر : " ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء " وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها وهي طلقة بلجة . لا حارة ولا باردة ، كأن فيها قمراً لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها " . فصل اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه الأمة ؟ فقال الزهري : حدثنا مالك أنه بلغه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِي أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصر أعمار أُمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر " وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر . وقيل : إنها كانت في الأمم الماضين كما هي في امتنا . ثم هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصة لا كما روي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة من أنها توجد في جميع السنة ، وترتجى في جميع الشهور على السواء ، وقد ترجم أبو داود في " سننه " على هذا فقال : ( باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان ) ، ثم روى بسنده عن عبد الله بن عمر قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر ؟ فقال : هي في كل رمضان " ، وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه الله رواية أنها ترتجى في كل شهر رمضان وهو وجه حكاه الغزالي . فصل ثم قد قيل : إنها تكون في أول ليلة من شهر رمضان ، وقيل : إنها تقع ليلة سبع عشرة ، وهو قول الشافعي ، ويحكى عن الحسن البصري ، ووجهوه بأنها ليلة بدر ، وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشرة من شهر رمضان ، وفي صبيحتها كانت وقعة بدر ، وهو اليوم الذي قال الله تعالى فيه : { يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ } [ الأنفال : 41 ] . قيل : ليلة تسع عشرة ، يحكى عن علي وابن مسعود ، وقيل : ليلة إحدى وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري قال : " اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من رمضان ، واعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك ، فاعتكف العشر الأوسط . فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : الذي تطلب أمامك ، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رمضان ، فقال : " من كان اعتكف معي فليرجع فإني رأيت ليلة القدر ، وإني أنسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر . وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء " . وكان سقف المسجد جريداً من النخل . وما نرى في السماء شيئاً ، فجاءت قزعة ، فمطرنا فصلّى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه في صبح إحدى وعشرين " قال الشافعي : وهذا الحديث أصح الروايات . وقيل : ليلة ثلاث وعشرين . وقيل : تكون ليلة خمس وعشرين لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى " فسره كثيرون بليالي الأوتار ، وهو أظهر وأشهر ، وحمله آخرون على الأشفاع . وقيل : إنها تكون ليلة سبع وعشرين ، لما رواه مسلم في " صحيحه " عن أُبي بن كعب " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلة سبع وعشرين " ، قال الإمام أحمد : عن زر : سألت أُبي بن كعب قلت : أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلة القدر ، قال : يرحمه الله لقد علم أنها في شهر رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف ، قلت : وكيف تعلمون ذلك ؟ قال : بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها ، تطلع ذلك اليوم لا شعاع لها يعني الشمس ، وهو قول طائفة من السلف ، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً ، وقيل : إنها تكون في ليلة تسع وعشرين ، روى الإمام أحمد بن حنبل " عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة " ، وعن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : " إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى " وقيل : إنها تكون في آخر ليلة لما تقدم من هذا الحديث آنفاً ، ولما رواه الترمذي والنسائي من حديث عيينة بن عبد الرحمٰن عن أبيه عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث أو آخر ليلة يعني التمسوا ليلة القدر " وفي " المسند " من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر : " إنها آخر ليلة " . فصل قال الشافعي في هذه الروايات : صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم جواباً للسائل إذا قيل له : أنلتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية ؟ يقول : " نعم " ، وإنما ليلة القدر ليلة معينة لا تنتقل ، وروي عن أبي قلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر ، وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة هو الأشبه ، والله أعلم . وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر " أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر . فمن كان متحريها ، فليتحرها في السبع الأواخر " ، وفيهما أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " ، ويحتج الشافعي أنها لا تنتقل وأنها معينة من الشهر بما رواه البخاري في " صحيحه " عن عبادة بن الصامت قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال : " خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة " " ، وجه الدلالة منه أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة ، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلاّ ذلك العام فقط ، اللهم إلاّ أن يقال إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط ، وقوله : " فتلاحى فلان وفلان فرفعت " فيه استئناس لما يقال : إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع ، كما جاء في الحديث : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " وقوله : " فرفعت " أي رفع علم تعيينها لكم ، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقوله جهلة الشيعة ، لأنه قد قال بعد هذا : " فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة " ، وقوله : " وعسى أن يكون خيراً لكم " يعني عدم تعيينها لكم فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها ، فكان أكثر للعبادة بخلاف ما إذا علموا عينها ، فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط ، وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها ، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر ، ولهذا " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ ، ثم اعتكف أزواجه بعده " عن ابن عمر : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان " ، وقالت عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله ، وشد المئزر " ، ولمسلم عنها : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره " ، وهذا معنى قولها وشد المئزر ، وقيل : المراد بذلك اعتزال النساء ، ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين لما رواه الإمام أحمد ، عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره ، واعتزل نساءه " ، وقد حكي عن مالك رحمه الله أن جميع ليالي العشر في تطلب ليلة القدر على السواء ، لا يترجح منها ليلة على أُخرى ، والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات وفي شهر رمضان أكثر ، وفي العشر الأخير منه ، ثم في أوتاره أكثر ، والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ، لما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة أن عائشة قالت : " يا رسول الله : إن وافقت ليلة القدر فما أدعو ؟ قال : " قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " " .