Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 1-7)

Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

التحليل اللفظي { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } : الحمد هو الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل . قال القرطبي : الحمد في كلام العرب معناه : الثناء الكامل ، والألف واللام لاستغراق الجنس ، فهو - سبحانه - يستحق الحمد بأجمعه ، والثناء المطلق . والحمد نقيض الذم . وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد ، تقول : حمدت الرجل على شجاعته ، وعلى علمه ، وتقول : شكرته على إحسانه . والحمد يكون باللسان ، وأمّا الشكر فيكون بالقلب ، واللسان ، والجوارح . قال الشاعر : @ أفادتكم النعماء منّي ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبّا @@ وذهب الطبري : إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء ، لأنك تقول : الحمد لله شكراً . قال القرطبي : وما ذهب إليه الطبري ليس بمرضي ، لأن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشكرُ ثناءٌ على الممدوح بما أولى من الإحسان ، وعلى هذا يكون { ٱلْحَمْدُ } أعمّ من الشكر . { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } : الربّ في اللغة : مصدر بمعنى التربية ، وهي إصلاح شؤون الغير ، ورعاية أمره ، قال الهروي : يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربّه ، ومنه سميّ ( الربانيون ) لقيامهم بالكتب . وفي " الصحّاح " : ربّ فلانٌ ولده يربّه تربية أي ربّاه ، والمربون : جمع المربّي . والرّب : مشتقٌ من التربية ، فهو سبحانه وتعالى مدبّر لخلقه ومربيّهم ، ويطلق الربّ على معان وهي : ( المَالك ، والمصلح ، والمعبود ، والسيّد المطاع ) تقول : هذا ربّ الإبل ، وربّ الدار ، أي مالكها ، ولا يقال في غير الله إلا بالإضافة ، ففي الحديث الشريف : " لا يقل أحدُكم : أطعمْ ربّك ، وضّيْء ربّك ، ولا يقل أحدكم ربيّ ، وليقل سيّدي ومولاي " . والربّ : المعبود ، ومنه قول الشاعر : @ أربّ يبول الثّعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب @@ والربّ : السيّد المطاع ، ومنه قوله تعالى : { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } [ يوسف : 41 ] أي سيّده . والربّ : المصلح ، ومنه قول الشاعر : @ يربّ الذي يأتي من الخير إنّه إذا سئل المعروف زاد وتممّاً @@ { ٱلْعَالَمِينَ } : جمع عالَم ، والعالم : اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط والأنام . قال أبو السعود : العالَم : اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تبارك وتعالى من المصنوعات . قال ابن الجوزي : العالم عند أهل العربية : اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم ، فأمّا أهل النظر ، فالعالَم عندهم : اسمٌ يقع على الكون الكلّي المُحْدَث من فلَك ، وسماءٍ ، وأرضٍ وما بين ذلك وفي اشتقاق العالَم قولان : أحدهما : أنه من العلم ، وهو يقوّي قول أهل اللغة . والثاني : أنه من العلامة ، وهو يقوّي قول أهل النظر . فكلُ ما في هذا الكون دالّ على وجود الصانع ، المدبّر ، الحكيم كما قال الشاعر : @ فيا عجباً كيف يُعْصى الإلٰه أم كيف يَجْحده الجاحد ؟ ولله في كل تحريكة وتسكينةٍ أبداً شاهد وفي كل شيء له آيةٌ تدلّ على أنّه واحد @@ قال ابن عباس : ( ربّ العالمين أي ربّ الإنس ، والجنّ ، والملائكة ) . وقال الفرّاء وأبو عبيدة : العالَمُ عبارة عمن يعقل ، وهم أربعة أمم : ( الإنس ، والجنّ ، والملائكة ، والشياطين ) ولا يقال للبهائم : عالَم لأن هذا الجمع جمع من يعقل خاصةً ، قال الأعشى : ( ما إن سمعت بمثلهم في العالمين ) . وقال بعض العلماء : كلّ صنف من أصناف الخلائق عالمٌ ، فالإنس عالم ، والجنّ عالم ، والملائكة عالم ، والطير عالم ، والنبات عالم ، والجماد عالم … الخ فقيل : ربّ العالمين ليشمل جميع هذه الأصناف من العوالم . { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } : اسمان من أسمائه تعالى مشتقان من الرحمة ، ومعنى { ٱلرَّحْمـٰنِ } : المنعم بجلائل النعم ، ومعنى { ٱلرَّحِيمِ } : المنعم بدقائقها . ولفظ { ٱلرَّحْمـٰنِ } مبنيّ على المبالغة ، ومعناه : ذو الرحمة التي لا نظير له فيها ، لأن بناء ( فعلان ) في كلامهم للمبالغة ، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء : ملآن ، وللشديد الشبَع : شبعان . قال الخطّابي : فـ { ٱلرَّحْمـٰنِ } ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمّت المؤمن والكافر . و { ٱلرَّحِيمِ } خاص للمؤمنين كما قال تعالى : { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] . ولا يجوز إطلاق اسم ( الرحمٰن ) على غير الله تعالى لأنه مختص به جلّ وعلا ، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضاً قال تعالى : { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] . قال القرطبي : " وأكثرُ العلماء على أن الرحمٰن مختصّ بالله عز وجل ، لا يجوز أن يسمّى به غيره ، ألا تراه قال : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [ الإسراء : 110 ] فعادَل الاسم الذي لا يَشْركه فيه غيره : { أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] فأخبر أن الرحمٰن هو المستحق للعبادة جلّ وعزّ ، وقد تجاسر ( مسيلمة الكذاب ) لعنه الله فتسمى بـ ( رحمان اليمامة ) ولم يتسمّ به حتى قرع مسامَعه نعت الكذّاب ، فألزمه الله ذلك حتى صار هذا الوصف لمسيلمة عَلَماً يُعرف به " . { يَوْمِ ٱلدِّينِ } : يوم الجزاء والحساب ، أي أنه سبحانه المتصرّف في يوم الدين ، تصرّف المالك في ملكه ، والدينُ في اللغة : الجزاءُ ، ومنه قوله عليه السلام : " إفعل ما شئت كما تدين تدان " أي كما تفعل تجزى . قال في " اللسان " : والدينُ : الجزاء والمكافأة ، ويومُ الدين : يوم الجزاء ، وقوله تعالى : { أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] أي مجزيّون محاسبون ، ومنه الديّان في صفة الله عز وجل قال لبيد : @ حصادك يوماً ما زرعت وإنما يُدان الفتى يوماً كما هو دائن @@ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } : نعبدُ : نذلّ ونخشع ونستكين ، لأن العبودية معناها : الذلّة والاستعانة ، مأخوذ من قولهم : طريق معبّد أي مذلّل وطئته الأقدام ، وذلّلته بكثرة الوطء ، حتى أصبح ممهداً . قال الزمخشري : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه ثوبٌ ذو عَبَدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولي أعظم النعم . فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع . والمعنى : لك اللهمّ نذل ونخضع ونخصك بالعبادة لأنك المستحقّ لكل تعظيم وإجلال ، ولا نعبد أحداً سواك . { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : الاستعانة : طلب العون ، قال الفراء : أعنتهُ إعانةً ، واستعنتهُ واستعنت به ، وفي الدعاء : ربّ أعنّي ولا تُعِنْ عليّ ، ورجل معوان : كثير الإعانة للناس وفي حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ) . والمعنى : إيّاك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك في أمورنا كلها ، فلا يملك القدرة على عوننا أحد سواك ، وإذا كان من يكفر بك يستعين بسواك ، فنحن لا نستعين إلا بك . { ٱهْدِنَا } : فعل دعاء ومعناه : دلّنا على الصراط المستقيم ، وأرشدنا إليه ، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنْسك وقُربك . والهداية في اللغة : تأتي بمعنى الدلالة كقوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصلت : 17 ] وتأتي بمعنى الإرشاد وتمكين الإيمان في القلب كما قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ … } [ القصص : 56 ] . فالرسول صلى الله عليه وسلم هادٍ بمعنى أنه دالّ على الله { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ولكنه لا يضع الإيمان في قلب الإنسان . وفعل هدى يتعدى بـ ( إلى ) وبـ ( اللام ) كقوله تعالى : { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 23 ] وقوله : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا } [ الأعراف : 43 ] وقد يتعدّى بنفسه كما هنا { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ } . { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } : الصّراط : الطريقُ ، وأصله بالسين ( السّراط ) من الاستراط بمعنى الابتلاع ، سميّ بذلك لأنّ الطريق كأنه يبتلع السالك . قال " الجوهري " : الصّراط ، والسّراط ، والزّراط : الطريق قال الشاعر : @ وأحملهم على وَضِح الصّراط @@ أي على وضح الطريق . قال القرطبي : أصلُ الصراط في كلام العرب : الطريق ، قال الشاعر : @ شحنّا أرضهم بالخيل حتّى تركناهم أذلّ من الصراط @@ والعرب تستعير ( الصراط ) لكل قولٍ أو عملٍ وصف باستقامةٍ أو اعوجاج ، والمراد به هنا ملّة الإسلام . { ٱلْمُسْتَقِيمَ } : الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، ومنه قوله تعالى : { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ … } [ الأنعام : 153 ] وكلّ ما ليس فيه اعوجاج يسمّى مستقيماً . ومعنى الآية : ثبّتنا يا ألله على الإيمان ، ووفقنا لصالح الأعمال ، واجعلنا ممن سلك طريق الإسلام ، الموصل إلى جنّات النعيم . { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } : النعمةُ : لينُ العيش ورغده ، تقولُ : أنعمتُ عينَه أي سررتها ، وأنعمتُ عليه بالغتُ في التفضيل عليه ، والأصل فيه أن يتعدّى بنفسه ، تقول : ( أنعمتُه ) أي جعلته صاحب نعمة ، إلاّ أنه لمّا ضمنِ معنى التفضل عليه عدّي بعلى { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } . قال ابن عباس : هم النبيّون ، والصدّيقون ، والشهداء ، والصالحون ، وإلى هذا ذهب جمهور المفسّرين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] . { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } : هم اليهود لقوله تعالى فيهم : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 112 ] وقوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ … } [ المائدة : 60 ] . { ٱلضَّآلِّينَ } : الضلاّل في كلام العرب هو الذهاب عن سَنَن القصد ، وطريق الحق ، والانحراف عن النهج القويم ، ومنه قولهم : ضلّ اللبن في الماء أي غاب ، قال تعالى : { وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ السجدة : 10 ] أي غبنا بالموت فيها وصرنا تراباً ، وقال الشاعر : @ ألم تسأل فتخبرْك الدّيارُ عن الحيّ المضلّل أين ساروا @@ والمراد بالضالين ( النّصارى ) لقوله تعالى فيهم : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] . وقال بعض المفسّرين : الأولى أن يُحمل { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } على كلّ من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفُساق ، ويُحمل { الضالّون } على كل من أخطأ في الاعتقاد ، لأنّ اللفظ عامٌ ، والتقييد خلاف الأصل ، والمنكرون للصانع والمشركون أخبثُ ديناً من اليهود والنّصارى ، فكان الاحتراز عن دينهم أولى ، وهذا اختيار الإمام الفخر . وقد ردّه الألوسي لأن تفسير المغضوب عليهم والضالين بـ ( اليهود والنصارى ) جاء في الحديث الصحيح المأثور فلا يُعتد بخلافه . وقال القرطبي : " جمهور المفسّرين أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى ، وجاء ذلك مفسّراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ( عديّ بن حاتم ) وقصة إسلامه " . وقال أبو حيان : وإذا صحّ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب المصير إليه . أقول : ما ذكره الفخر الرازي ليس فيه ردّ للمأثور ، بل إنّه عمّم الحكم فجعله شاملاً لليهود والنصارى ولجميع من انحرف عن دين الله ، وضلّ عن شرعه القويم ، حيث يدخل في اللفظ جميع الكفّار والمنافقين ، وإليك نصّ كلام الإمام " الفخر " : قال رحمه الله : " ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفّار ، والضّالون هم المنافقون ، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آياتٍ من أوّل البقرة ، ثمّ أتبعه بذكر الكفار ، ثمّ أتبعه بذكر المنافقين ، فكذا هنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم أعقبه بذكر الكفار وهو قوله { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } ثمّ أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . آمين : كلمة دعاء وليست من القرآن الكريم إجماعاً ، بدليل أنها لا تكتب في المصحف الشريف ، ومعناها : استجب دعاءنا يا رب . قال الألوسي : ويُسنّ بعد الختام أن يقول القارئ ( آمين ) لحديث أبي ميسرة " أنّ جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب ، فلما قال : { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال له : قل : آمين فقال آمين " . قال ابن الأنباري : وأمّا ( آمين ) فدعاء ، وليس من القرآن ، وهو اسم من أسماء الأفعال ومعناه : اللهمّ استجب ، وفيه لغتان : القصرُ ( أمين ) والمدّ ( آمين ) فالأول على وزن ( فعيل ) والثاني على وزن ( فاعِل ) . قال الشاعر : @ يا ربّ لا تسلُبَنّي حبها أبدَاً ويرحمُ اللهُ عبداً قال آميناً @@ وقال ابن زيدون : @ غيظ العِدَى من تساقينا الهَوَى فَدَعَوْا بأن نَغَصَّ فقال الدهر : آمِنا @@ المعنى الإجمالي علّمنا الله - تقدّست أسماؤه - كيف ينبغي أن نحمده ونقدّسه ، ونثني عليه بما هو أهله ، فقال ما معناه : يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي فقولوا : الحمد لله ربّ العالمين ، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم ، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد ، المتفرد بالخلق والإيجاد ، ربّ الإنس والجن والملائكة ، وربّ السماوات والأرضين ، وأنا الرحمٰن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، وعمّ فضله جميع الأنام ، فالثناء والشكر لله رب العالمين ، دون ما يعبد من دونه ، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح ، وهداية الخلق إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فهو السّيّد الذي لا يبلغ سؤدده أحد ، والمصلح أمر عباده بما أودع في هذا العالم من نظام ، يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الإنسان والنبات والحيوان ، فمن شمسٍ لولاها ما وجدت حياة ولا موت ، ومن غذاءٍ به قوام البشر ، ومياه بها حياة النبات والحيوان ، وأنا المالك للجزاء والحساب ، المتصرف في يوم الدين ، تصرّف المالك في ملكه ، فخصوني بالعبادة دون سواي ، وقولوا لك اللهمّ نذلّ ونخضع ، ونستكين ونخشع ، ونخصّك بالعبادة ، ولا نعبد أحداً سواك ، وإيّاك ربّنا نستعين على طاعتك ومرضاتك ، فإنك المستحقّ لكل إجلال وتعظيم ، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك . فثبتنا يا ألله على الإسلام دينك الحق ، الذي بعثت به أنبياءك ورسلك ، وأرسلت به خاتم المرسلين ، وثبتنا على الإيمان ، واجعلنا ممّن سلك طريق المقربين ، طريق النبيّين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً . ولا تجعلنا يا ألله من الحائرين عن قصد السبيل ، السالكين غير المنهج القويم ، من الذين ضلّوا عن شريعتك القدسية ، وكفروا بآياتك ورسلك وأنبيائك ، فاستحقوا اللعنة والغضب إلى يوم الدين … اللهمّ آمين . معاني الفاتحة في " ظلال القرآن " يقول سيد قطب رحمه الله في تفسيره " الظلال " ما نصه : ( يردّد المسلم هذه السورة القصيرة ، ذات الأيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن ، وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلاً غير الفرائض والسنن ، ولا تصح صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " . إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة . تبدأ السورة بـ ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم في أول ما نزل من القرآن باتفاق ، وهو قوله تعالى : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أنّ الله ( الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ) فهو سبحانه الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجودٍ وجودَه ، ويبدأ منه كل مبدوءٍ بدأه ، فباسمه إذن يكون كل ابتداء ، وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه . وإذا كان البدء باسم الله ، وما ينطوي عليه من توحيد لله ، وأدبٍ معه ، يمثّل الكلّية الأولى في التصور الإسلامي ، فإن استغراق معاني الرحمة في صفتي ( الرحمٰن الرحيم ) يمثّل الكليّة الثانية في هذا التصور ، ويقرّر حقيقة العلاقة بين الله والعباد وعقب البدء بـ { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } يجيء التوجه إلى الله بالحمد ، ووصفُه بالربوبية المطلقة ، يمثّل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله ، والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن ، فإن وجوده ابتداءً ليس إلا فيضاً من فيوضات النعمة الإلهية ، وفي كل لمحة ، وفي كل لحظة ، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله ، وتغمر الخلائق كلها ، وبخاصة هذا الإنسان . والربوبية المطلقة : هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل ، والغَبَش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة ، وشمولُ هذه الربوبية للعالمين جميعاً ، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة ، لتتّجه العوالم كلها إلى ربّ واحد ، تقرّ له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة . وتبدو العقيدة الإسلامية : في كمالها وتناسقها رحمة … رحمةً حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقربٍ وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق . ثم تأتي هذه الصفة { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } التي تستغرق كلّ معاني الرحمة ، وحالاتها ومجالاتها ، تتكرر هنا في صلب السورة في آية مستقلة لتؤكد تلك الربوبية الشاملة ، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الربّ ومربوبيه ، وبين الخالق ومخلوقاته … إنها صلة الرحمة والرعاية ، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة ، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة النديّة . والتعبير بقوله : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } يمثّل الكليّة الضخمة ، العميقة التأثير ، كلية الاعتقاد بالآخرة . والاعتقادُ بيوم الدين كلية من كليّات العقيدة الإسلامية ذات قيمة هامة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالَم آخر ، وهو مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا ، والصور المشوّهة المنحرفة التي لم يُقدّر لها الكمال ، وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ، ما لم تتحقّق هذه الكلية في تصور البشر ، وما لم يثق الفرد المحدود بأنّ له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها وأن يضحّي في سبيلها . وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعورٍ ، ولا خُلُق ، ولا سلوك ، ولا عمل ، فهما صنفان مختلفان من الخَلْق ، وطبيعتان متميّزتان ، لا تلتقيان في الأرض في عمل ، ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء … وهذا هو مفرق الطريق . وقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة ، فلا عبادة إلاّ لله ، ولا استعانة إلاّ بالله . وهنا كذلك مفرق طريق … مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة للعبيد ، وهي تعلن ميلاد التحرر البشري ، الكامل الشامل . ولقد درج ( الغربيون ) على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم : " قهر الطبيعة " ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية ، المقطوعة الصلة بالله ، وبروح الكون المستجيب لله ، فأمّا المسلم الموصول القلب بربه الرحمٰن الرحيم الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبّحة لله رب العالمين ، فيؤمن بأن هناك علاقة أخرى ، غير علاقة القهر والجفوة ، إنه يعتقد بأن الله هو مبدع هذه القُوى جميعاًِ ، خلقها كلها وفق ناموس واحد ، وسخّرها للإنسان ابتداءً ، ويسّر له كشف أسرارها ، ومعرفة قوانينها ، وأنّ على الإنسان أن يشكر الله كلّما هيأ لَه أن يظفر بمعونة من إحداها ، فالله هو الذي يسخّرها وليس هو الذي يقهرها { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] . وبعد تقرير تلك الكليّات الأساسية في التصور الإسلامي ، يبدأ في التطبيق العملي { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته ، وهو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين ، وهذا الأمر أعظم ما يطلبه المؤمن من ربه ، فالهداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله ، الذي ينسّق بين حركة الإنسان ، وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين ، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فهو طريق الذين قسم لهم نعمته ، لا طريق الذين غضب الله عليهم … إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين . ولعلَّ ذلك يكشف لنا عن سرّ من أسرار اختيار السورة ليردّدها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة ، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصلاة . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن : { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ النحل : 98 ] . قال جعفر الصادق : " إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها ، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة ، والنميمة ، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً ، فيقرأ بلسان طاهر ، كلاماً أنزل من رب طيب طاهر " . اللطيفة الثانية : المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل : ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) ، وقد اشتهر هذا في الشعر والنثر ، قال الشاعر : @ لقد بسملَتْ ليلَى غداةَ لقيتُها فيها حبّذَا ذاك الحبيبُ المبسملُ @@ وفي افتتاح القرآن الكريم بهذه الآية إرشادٌ لنا أن نستفتح بها كلّ أفعالنا وأقوالنا ، وقد جاء في الحديث الشريف : " كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه ببسم الله الرحمٰن الرحيم فهو أبتر " أي ناقص . فإن قيل : لماذا نقول بسم الله ، ولا نقول بالله ؟ فالجواب كما قال العلاّمة أبو السعود : هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك ، فقول القائل : بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك . فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى ، ويقطع احتمال إرادة القسم . اللطيفة الثالثة : يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى ، فقول القائل : ( بسم الله ) كقوله : ( بالله ) وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة : @ إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر @@ أي ثمّ السلام عليكما ، وقد ردّ هذا شيخ المفسرين ابن الطبري . قال ابن جرير الطبري : لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول لجاز أن يُقال : رأيت اسم زيد ، وأكلتُ اسم الطعام ، وشربت اسم الدواء ، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله ، ويقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يُقال : أكلتُ اسم العسل ، يعني أكلتُ العسل ؟ أقول : الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك . قال العلامة أبو السعود : وإنما قال ( بسم الله ) ولم يقل ( بالله ) وذلك للتفريق بين اليمين والتيمن ، يعني ( التبرك ) ، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة ، فذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمّى ، ويتعيّن حمل الباء على الاستعانة أو التبرك . اللطيفة الرابعة : الفرق بين لفظ ( الله ) ولفظ ( الإلٰه ) أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره ، ومعناه المعبود بحق ، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره ، وهو مشتق من ( ألَهَ ) ومعناه المعبود ، سواءً كان بحق أو غير حق ، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى ( آلهة ) جمع ( إلٰه ) لأنها عُبدت بباطل من دون الله ، وما كان أحد يسمى الصنم ( الله ) بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل : من خلقك ؟ أو من خلق السماوات والأرض ؟ يقول : الله ، وفيهم يقول القرآن الكريم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ لقمان : 25 ] . اللطيفة الخامسة : في قولنا ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) فوائد جليلة ، منها التبرك بذكر اسم الله تعالى ، والتعظيم لله عز وجل ، وطرد للشيطان لأنه يهرب من ذكر اسم الله ، وفيها إظهار لمخالفة المشركين ، الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم ، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى ، وفيها إقرار بالألوهية ، واعتراف بالنعمة ، واستعانة بالله تعالى ، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما ( الله ) و ( الرحمٰن ) . اللطيفة السادسة : الألف واللام في ( الحمد ) لاستغراق الجنس ، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل ، والحمد التام الوافي ، إلاّ الله ربّ العالمين ، فهو الإلٰه المنعوت بصفات الكمال ، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس ، والصيغة وردت معرّفة ( الحمدُ لله ) للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر ، لا حادث متجدّد ، فتدبره فإنه دقيق . اللطيفة السابعة : فائدةٌ ذكر { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } : عقب لفظ { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } هي أن لفظ ( الربّ ) ينبئ عن معنى الكبرياء ، والسيادة ، والقهر ، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع ، واليأس ، والقنوط ، لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب - جلّ وعلا - رحمٰن رحيم ، وأن رحمته وسعت كل شيء . قال أبو حيّان : بدأ أولاً بالوصف بالربوبيّة ، فإن كان الرب بمعنى السيّد ، أو بمعنى المالك ، أو بمعنى المعبود ، كان صفة فعل للموصوف ، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية ، لينبسط أمل العبد في العفو إن زلّ ، ويقوى رجاؤه إن هفا . قال ابن القيم : " وأما الجمع بين ( الرحمٰن الرحيم ) ففيه معنى بديع ، وهو أنّ ( الرحمٰن ) دالّ على الصفة القائمة به سبحانه ، و ( الرحيم ) دالّ على تعلقها بالمرحوم ، وكأنّ الأول الوصفُ ، والثاني الفعلُ ، فالأول : دالّ على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه ، والثاني : دال على أنه يرحم خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه ، فإذا أردتّ فهم هذا فتأمل قوله تعالى : { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ولم يجيء قط رحمٰن بهم فعلمت أن ( رحمٰن ) هو الموصوف بالرحمة ، ورحيم هو الراحم برحمته " . ثم قال رحمه الله : وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب . ومجمل القول : أنَّ معنى ( الرحمٰن ) المنعم بجلائل النعم ، ومعنى ( الرحيم ) المنعم بدقائقها . وقيل : إنهما بمعنى واحد ، والثاني لتأكيد الأول وهو رأي الصبّان والجلال ، وهو ضعيف فقد قال ابن جرير الطبري : لا توجد في القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود . والراجح : ما ذهب إليه ابن القيم وهو أن الوصف الأول دال على الرحمة الثابتة له سبحانه ، والثاني يدل على تجدّد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة والله أعلم . اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، على سبيل التفنن في الكلام ، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس ، واستجلاب القلوب ، وهذا ( الإلتفات ) ضرب من ضروب البلاغة ، ولو جرى الكلام على الأصل لقال ( إيّاه نعبد ) فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة ( الإلتفات ) ومثله قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ثم قال : { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } [ الإنسان : 22 ] وقد يكون الإلتفات من ( الخطاب ) إلى ( الغيبة ) كما في قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] فقد كان الكلام مع المخاطبين ، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات . قال أبو حيان في " البحر " : " ونظير هذا أن تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة ، مخبراً عنه إخبار الغائب ، ويكون ذلك الشخص حاضراً معك ، فتقول له : إيّاك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ، ما لا يكون في لفظ ( إيّاه ) " . اللطيفة التاسعة : وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } ولم يقل : ( إياّك أعبد وإيّاك أستعين ) وذلك لنكتةٍ لطيفة ، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا ، وطلبه الاستعانة والهداية مفرداً دون سائر العباد ، فكأنه يقول : يا رب أنا عبد حقير ، ذليل ، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي ، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين ، وأدعوك معهم ، فتقبّل دعائي معهم ، فنحن جميعاً نعبدك ونستعين بك . وتقديم المفعول على الفعل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يفيد القصر والتخصيص كما في قوله : { وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] كما يفيد التعظيم والاهتمام به . قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك . قال القرطبي : إن قيل : لم قدَّم المفعول { إِيَّاكَ } على الفعل { نَعْبُدُ } ؟ قيل له : اهتماماً ، وشأنُ العرب تقديم الأهم ، يُذكر أنْ أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه ، فقال له السابّ : إيّاك عني ، فقال له الآخر : وعنك أُعرض ، فقدّما الأهم ، وأيضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود ، فلا يجوز نعبدك ، ونستعينك ، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك ، وإنما يتبع لفظ القرآن ، قال العجّاج : @ إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي واغفر خطايايَ وكثّر ورقي @@ وكرّر الاسم لئلا يتوهم إيّاك نعبد ونستعين غيرك . اللطيفة العاشرة : نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل : ( غضبت عليهم ) وأضللتهم ، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل ، حيث لا ينسب الشرّ إليه ( أدباً ) وإن كان منه ( تقديراً ) كما قال بعضهم : الخير كلّه بيديك ، والشرّ ليس إليك . فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 78 - 80 ] فلم يقل : ( وإذا أمرضني ) أدباً . وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن : { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن : 10 ] فلم يقولوا : أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق . الدقائق البيانيّة في سورة الفاتحة قال أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " : " وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب ، ورُزق الحظّ الوافر من علم الأدب ، وكان عالماً بافتنان الكلام ، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام ، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع : النوع الأول : حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع ، وناهيك حسناً أن يكون مطلعها مفتتحاً باسم الله ، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة . النوع الثاني : المبالغة في الثناء وذلك العموم ( أل ) في الحمد المفيد للاستغراق . النوع الثالث : تلوين الخطاب في قوله : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا : الحمد لله . النوع الرابع : الاختصاص باللاّم التي في ( لله ) إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا . النوع الخامس : الحذف وذلك كحذف ( صراط ) من قوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } التقدير : غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين . النوع السادس : التقديم والتأخير في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وكذلك في قوله : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } وقد تقدم الكلام على ذلك . النوع السابع : التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } حيث فسّر الصراط . النوع الثامن : الإلتفات وذلك في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } . النوع التاسع : طلب الشيء وليس المراد حصوله بل دوامه واستمراره وذلك في قوله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أي ثبتنا عليه . النوع العاشر : التسجيع المتوازي وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرّوي وذلك في قوله تعالى : { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ … ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وقوله { نَسْتَعِينُ … وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . وجوه القراءات أولاً : قرأ الجمهور { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } بضمّ دال الحمد ، وقرأ سفيانُ بن عُيَيّنة ( الحمدَ الله ) بالنصب ، قال ابن الأنباري : ويجوز نصبه على المصدر بتقدير أحمد الله . قال أبو حيان : وقراءة الرفع أمكنُ في المعنى ، ولهذا أجمع عليها السبعة ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى ، فيكون قد أخبر بأنّ الحمد مستقرّ لله تعالى أي حمدُه وحمدُ غيره . ثانياً : قرأ الجمهور { ربّ العالمين } بكسر الباء وقرأ زيد بن عليّ { ربَّ العالمين } بالنصب على المدح أي أمدح ربّ العالمين ، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها كما نبّه عليه أبو حيّان وغيره . قال القرطبي : يجوز الرفع والنصب في { ربّ } فالنصبُ على المدح ، والرفع على القطع أي هو ربّ العالمين . ثالثاً : قرأ الجمهور { مَالِك يومِ الدّينِ } على وزن فاعل مالك وقرأ ابن كثير وابن عمر وأبو الدرداء { مَلِك } بفتح الميم مع كسر اللام . قال ابن الجوزي : وقراءة ( مَلِك ) أظهر في المدح لأن كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكاً . وقال ابن الأنباري : وفي مالك خمسُ قراءات وهي : مالك ، ومَلِك ، ومَلْك ، ومليك ، ومَلاَك . رابعاً : قرأ الجمهور { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } بضم الباء ، وقرأ زيد بن علي { نعبِد } بكسر النون ، وقرأ الحسن وأبو المتوكل { إيّاك يُعبد } بضم الياء وفتح الباء . خامساً : قرأ الجمهور { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } بالصّاد وهي لغة قريش ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ( السّراط ) بالسّين على الأصل . قال الفرّاء : اللغة الجيّدة بالصاد وهي اللغة الفصحى ، وعامة العرب يجعلونها سيناً ، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة ، ومن قرأ بالصّاد فلأنها أخفّ على اللّسان . وجوه الإعراب أولاً : { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } الجار والمجرور في { بِسمِ ٱلله } اختلف فيه النحويون على وجهين : أ - مذهب البصريين : أنه في موضع رفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : ابتدائي بسم الله . ب - مذهب الكوفيين : أنه في موضع نصب بفعل مقدّر وتقديره : ابتدأتُ بسم الله . ثانياً : قوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } الحمدُ مبتدأ ولفظ الجلالة خبره تقديره : الحمد مستحق لله ، و { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } صفة ، ومثله { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } و { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } كلها صفات لاسم الجلالة . ثالثاً : قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اختلف المفسّرون في { إِيَّاكَ } فذهب المحقّقون إلى أنه ضمير منفصل منصوب بالفعل بعده وأصله ( نعبدك ) و ( نستعينك ) فلما قُدّم الضمير المتصل أصبح ضميراً منفصلاً ، والكاف للخطاب ولا موضع لها من الإعراب . وذهب آخرون إلى أنه ضمير مضاف إلى ما بعده ، ولا يعلم ضمير أضيف إلى غيره . قال أبو السعود : وما ادّعاه الخليل من الإضافة ، محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب : إذا بلغ الرجل الستين فإيّاه وإيّا الشوابّ ، فممّا لا يعوّل عليه . وذكر ابن الأنباري وجوهاً عديدة ثمّ قال : والذي اختاره الأول ، وقد بيّنا ذلك مستوفى في كتابنا الموسوم بـ " الانصاف في مسائل الخلاف " . رابعاً : قوله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ … } { ٱهْدِنَا } فعل دعاء وهو يتعدى إلى مفعولين المفعول الأول هو ضمير الجماعة ( نا ) في إهدنا ، و { ٱلصِّرَاطَ } هو المفعول الثاني ، و { ٱلْمُسْتَقِيمَ } صفة للصراط ، و { صِرَاطَ } بدل من الصراط الأول . خامساً : آمين : اسم فعل أمر بمعنى استجب . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل البسملة آية من القرآن ؟ أجمع العلماء على أن البسملة الواردة في سورة النمل [ 30 ] هي جزء من آية في قوله تعالى : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ولكنهم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة ، ومن أول كل سورة أم لا ؟ على أقوال عديدة : الأول : هي آية من الفاتحة ، ومن كل سورة ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله . الثاني : ليست آية لا من الفاتحة ، ولا من شيء من سور القرآن ، وهو مذهب مالك رحمه الله . الثالث : هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور ، وليست آية من الفاتحة وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله . دليل الشافعية : استدل الشافعية على مذهبهم بعدة أدلة نوجزها فيما يلي : أولاً - حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين ، فاقرؤوا بسم الله الرحمٰن الرحيم ، إنها أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبعُ المثاني ، وبسم الله الرحمٰن الرحيم أحدُ آياتها " . ثانياً - حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمٰن الرحيم . ثالثاً - حديث أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كانت قراءته مدّاً … ثمّ قرأ { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ … } " . رابعاً : حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذْ أغفى إغفاءة ، ثمّ رفع رأسه متبسّماً ، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت عليّ آنفاً سورة ، فقرأ : { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } [ الكوثر : 1 - 3 ] " . قالوا : فهذا الحديث يدل على أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن أيضاً ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأها في سورة الكوثر . خامساً : واستدلوا أيضاً بدليل معقول ، وهو أن المصحف الإمام كُتبت فيه البسملة في أول الفاتحة ، وفي أول كل سورة من سور القرآن ، ما عدا سورة ( براءة ) ، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه ، وتواتر ذلك مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن ، وكانوا يتشدّدون في ذلك ، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير ، ومن أسماء السّور ، ومن الإعجام ، وما وُجِد من ذلك أخيراً فقد كتب بغير خطّ المصحف ، وبمداد غير المداد ، حفظاً للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه ، فلما وجدت البسملة في سورة الفاتحة ، وفي أوائل السور دلّ على أنها آية من كل سورة من سور القرآن . دليل المالكية : واستدل المالكية على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ، ولا من القرآن وإنما هي للتبرك بأدلة نوجزها فيما يلي : أولاً : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين " ثانياً : حديث أنس كما في " الصحيحين " قال : " صلّيتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " . وفي رواية لمسلم : " لا يذكرون ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) لا في أول قراءة ولا في آخرها " ثالثاً : ومن الدليل أنها ليست آية من الفاتحة حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عزّ وجل : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال العبد : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . قال الله تعالى : حمدني عبدي . وإذا قال العبد : { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } . قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي . وإذا قال العبد : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } . قال الله تعالى : مجدّني عبدي - وقال مرة فوّض إليّ عبدي - . فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " . قالوا : فقوله سبحانه : " قسمت الصلاة " يريد الفاتحة ، وسمّاها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ، فلو كانت البسملة آية من الفاتحة لذكرت في الحديث القدسي . رابعاً : لو كانت البسملة من الفاتحة لكان هناك تكرار في { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } في وصفين وأصبحت السورة كالآتي : ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، الرحمٰن الرحيم ) وذلك مخلّ ببلاغة النظم الجليل . خامساً : كتابتها في أوائل السور إنما هو للتبرك ، ولامتثال الأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور ، وهي وإن تواتر كتبُها في أوائل السور ، فلم يتواتر كونها قرآناً فيها . قال القرطبي : " الصحيحُ من هذه الأقوال قول مالك ، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقهُ التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه . قال ابن العربي : ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن ( البسملة ) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلاَّ في النمل وحدها . ثم قال : إنّ مذهبنا يترجّح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول ، وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرّت عليه الأزمنة ، والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قطّ ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) اتّباعاً للسُنّة ، وهذا يردّ ما ذكرتموه ، بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل ، وعليه تُحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك " . دليل الحنفية : وأما الحنفية : فقد رأوا أنّ كتابتها في ( المصحف ) يدل على أنها قرآن ولكن لا يدل على أنها آية من سورة ، والأحاديثُ الواردة التي تدل على عدم قراءتها جهراً في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست من الفاتحة ، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة - في غير سورة النمل - أنزلت للفصل بين السور . ومما يؤيد مذهبهم : ما روي عن الصحابة أنهم قالوا : " كنا لا نعرف انقضاء السور حتى تنزل ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) ، وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه " بسم الله الرحمٰن الرحيم " . قال الإمام أبو بكر الرازي : " وقد اختلف في أنها آية من فاتحة الكتاب أم لا ، فعدّها قرّاء الكوفة آية منها ، ولم يعدّها قرّاء البصريين ، وقال الشافعي : هي آية منها وإنْ تركها أعاد الصلاة ، وحكى شيخنا ( أبو الحسن الكرخي ) عدم الجهر بها ، وهذا يدل على أنها ليست منها ، ومذهب أصحابنا أنها ليست بآية من أوائل السور ، لترك الجهر بها ، ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها ، وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة ، وما سبقه إلى هذا القول أحد ، لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها آية من ( فاتحة الكتاب ) أو ليست بآية منها ، ولم يعدّها أحد آية من سائر السور " . ثم قال : " ومما يدل على أنها ليست من أوائل السور ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } [ الملك : 1 ] " واتفق القرّاء وغيرهم أنها ثلاثون سوى ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين وذلك خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل عليه أيضاً اتفاق جميع قرّاء الأمصار وفقهائهم على أن سورة ( الكوثر ) ثلاث آيات ، وسورة ( الإخلاص ) أربع آيات ، فلو كانت منها لكانت أكثر ممّا عدّوا " . الترجيح : وبعد استعراض الأدلة وما استدل به كل فريق من أئمة المذاهب نقول : لعلّ ما ذهب إليه الحنفية هو الأرجح من الأقوال ، فهو المذهب الوسط بين القولين المتعارضين ، فالشافعية يقولون إنها آية من الفاتحة ومن أول كل سورة في القرآن ، والمالكية يقولون : ليست بآية لا من الفاتحة ولا من القرآن { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولكنْ إذا أمعنا النظر وجدنا أن كتابتها في المصحف ، وتواتر ذلك بدون نكير من أحد - مع العلم بأنّ الصحابة كانوا يجرّدونَ المصحف من كل ما ليس قرآناً - يدلّ على أنها قرآن ، لكن لا يدل على أنها آية من كل سورة ، أو آية من سورة الفاتحة بالذات ، وإنما هي آية من القرآن وردت للفصل بين السور ، وهذا ما أشار إليه حديث ابن عباس السابق ( إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه : ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام ، والعربُ كانت ترى التفنّن من البلاغة ، لا سيّما في افتتاحاتها ، فلو كانت آية من كل سورة لكان ابتداء كلّ السور على منهاجٍ واحد ، وهذا يخالف روعة البيان في معجزة القرآن . وقول المالكية : لم يتواتر كونها قرآناً فليست بقرآن غير ظاهر - كما يقول الجصّاص - إذ ليس بلازم أن يقال في كل آية إنها قرآن ويتواتر ذلك ، بل يكفي أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابتها ويتواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد اتفقت الأمة على أن جميع ما في المصحف من القرآن ، فتكون البسملة آية مستقلة من القرآن كرّرت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى ، وهذا ما تطمئن إليه النفس وترتاح ، وهو القول الذي يجمع بين النصوص الواردة والله أعلم . الحكم الثاني : ما هو حكم قراءة البسملة في الصلاة ؟ اختلف الفقهاء في قراءة البسملة في الصلاة على أقوال عديدة : أ - فذهب مالك رحمه الله : إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة ، جهراً كانت أو سرّاً ، لا في استفتاح أم القرآن ، ولا في غيرها من السور ، وأجاز قراءتها في النافلة . ب - وذهب أبو حنيفة رحمه الله : إلى أن المصلي يقرؤها سراً مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة ، وإن قرأها مع كل سورة فحسن . ج - وقال الشافعي رحمه الله : يقرؤها المصلي وجوباً . في الجهر جهراً ، وفي السرّ سراً . د - وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : يقرؤها سرّاً ولا يسنّ الجهر بها . وسبب الخلاف : هو اختلافهم في ( بسم الله الرحمٰن الرحيم ) هل هي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا ؟ وقد تقدم الكلام على ذلك في الحكم الأول . وشيء آخر : هو اختلاف آراء السلف في هذا الباب . قال ابن الجوزي في " زاد المسير " : وقد اختلف العلماء هل البسملة ، من الفاتحة أم لا ؟ فيه عن أحمد روايتان ، فأمّا من قال : إنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة ، وأمّا من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول : قراءتها في الصلاة سنّة ، ما عدا مالكاً رحمه الله فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة . واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به ، فنقل جماعة عن أحمد : أنه لا يسُن الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، ومذهب الثوري ، ومالك ، وأبي حنيفة . وذهب الشافعي : إلى أن الجهر بها مسنون ، وهو مرويّ عن معاوية ، وعطاء ، وطاووس . الحكم الثالث : هل تجب قراءة الفاتحة في الصلاة ؟ اختلف الفقهاء في حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على مذهبين : أ - مذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) أن قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة ، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته . ب - مذهب الثوري وأبي حنيفة : أن الصلاة تجزئ بدون فاتحة الكتاب مع الإساءة ولا تبطل صلاته ، بل الواجب مطلق القراءة وأقله ثلاث آيات قصار ، أو آية طويلة . أدلة الجمهور : استدل الجمهور على وجوب قراءة الفاتحة بما يلي : أولاً : حديث عُبادة بن الصامت وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " . ثانياً : حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهيِ خِداج فهي خِداج ، فهي خداج غير تمام " . ثالثاً : حديث أبي سعيد الخدري : " أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر " . قالوا : فهذه الآثار كلّها تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، فإنّ قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " يدل على نفي الصحة ، وكذلك حديث أبي هريرة فهي خِداج قالها عليه الصلاة والسلام ثلاثاً يدل على النقص والفساد ، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة شرطاً لصحة الصلاة . أدلة الحنفية : استدل الثوري وفقهاء الحنفية على صحة الصلاة بغير قراءة الفاتحة بأدلة من الكتاب والسنّة . أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] قالوا : فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسّر من القرآن ، لأن الآية وردت في القراءة في الصلاة بدليل قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ } إلى قوله : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل ، وذلك عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ . وأما السنّة : فما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رجلاً دخل المسجد فصلّى ، ثم جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السلام وقال : " ارجع فصلّ فإنك لم تصل " فصلّى ثم جاء فأمره بالرجوع ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال : والذي بعثك بالحق ما أُحْسنُ غيره ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثمّ استقبل القبلة فكبّر ، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ، ثمّ اركع حتّى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تستوي قائماً ، ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلها " " . قالوا : فحديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته يدل على التخيير ( اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ) ويقوّي ما ذهبنا إليه ، وما دلت عليه الآية الكريمة من جواز قراءة أي شيء من القرآن . وأما حديث عبادة بن الصامت : فقد حملوه على نفي الكمال ، لا على نفي الحقيقة ، ومعناه عندهم ( لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ولذلك قالوا : تصح الصلاة مع الكراهية ، وقالوا هذا الحديث يشبه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد " . وأما حديث أبي هريرة : ( فهي خداج ، فهي خداج … ) الخ فقالوا : فيه ما يدلّ لنا لأنّ ( الخداج ) الناقصة ، وهذا يدل على جوازها مع النقصان ، لأنها لو لم تكن جائزة لما أُطلق عليها اسم النقصان ، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها ، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي لم يثبت منه شيء . هذه هي خلاصة أدلة الفريقين : سردناها لك بإيجاز ، وأنت إذا أمعنتَ النظر ، رأيت أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً ، وأقوى قيلاً ، فإنّ مواظبته عليه الصلاة والسلام على قراءتها في الفريضة والنفل ، ومواظبة أصحابه الكرام عليها دليل على أنه لا تجزئ الصلاة بدونها ، وقد عضد ذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة ، والنبي عليه الصلاة والسلام مهمته التوضيح والبيان ، لما أجمل من معاني القرآن ، فيكفي حجّة لفريضتها ووجوبها قولُه وفعله عليه السلام . وممّا يؤيد رأي الجمهور ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين ، ويُسمعنا الآية أحياناً ، وكان يطوّل في الركعة الأولى من الظهر ، ويقصر الثانية ، وكذلك في الصبح " . وفي رواية : " ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب " . قال الطبري : يقرأ بأم القرأن في كل ركعة ، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها . قال القرطبي : والصحيح من هذه الأقوال ، قولُ الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر ، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعةٍ لكل أحدٍ على العموم لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وقد روي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وأُبِيّ بن كعب ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعبادة بن الصامت ، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " فهؤلاء الصحابة القُدوة ، وفيهم الأسوة ، كُلّهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة . قال الإمام الفخر : " إنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة ، فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى : { وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ الأعراف : 158 ] ويا لَلْعجب من أبي حنيفة فإنه تمسّك في وجوب ( مسح الناصية ) بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سُباطةَ قوم فبال وتوضأ ، ومسح على ناصيته وخفيه ، في ( أنه عليه السلام مسح على الناصية ) فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة ! ! وهٰهنا نقل أهلُ العلم نقلاً متواتراً أنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ، ثمّ قال : إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها ، وهذا من العجائب ! " . الحكم الرابع : هل يقرأ المأموم خلف الإمام ؟ اتفق العلماء على أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه يحمل عنه القراءة ، لإجماعهم على سقوط القراءة عنه بركوع الإمام ، وأمّا إذا أدركه قائماً فهل يقرأ خلفه أم تكفيه قراءة الإمام ؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال : أ - فذهب الشافعي وأحمد : إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام سواء كانت الصلاة سرّية أم جهرية . ب - وذهب مالك إلى أن الصلاة إذا كانت سرّية قرأ خلف الإمام ، ولا يقرأ في الجهرية . جـ - وذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية . استدل الشافعية والحنابلة بالحديث المتقدم وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " . فإن اللفظ عام يشمل الإمام والمأموم ، سواء كانت الصلاة سرية جهرية ، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب لم تصحّ صلاته . واستدل الإمام مالك : على قراءة الفاتحة إذا كانت الصلاة سرّية بالحديث المذكور ، ومنع من القراءة خلف الإمام إذا كانت الصلاة جهرية لقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] . وقد نقل القرطبي : عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام ، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب ، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه . وأمّا الإمام أبو حنيفة : فقد منع من القراءة خلف الإمام مطلقاً عملاً بالآية الكريمة { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ } [ الأعراف : 204 ] ولحديث " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " . واستدل أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبّر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا " . خاتمة البحث : حكمة التشريع يقف الإنسان بين يدي هذه السورة الكريمة ( سورة الفاتحة ) وقفة العبد الخاشع ، المعترف بالعجز ، المقر بالتقصير ، فإن هذه السورة وحي منزل من عند الله ، وهي من كلام ربّ العالمين ، وكلام الله فوق أن يحيط به عقل قاصر من بني الإنسان ، أو يدرك أسراره العميقة بشر ، مهما أوتي من النبوغ والذكاء ، وسعة العلم والاطلاع . وقُصارى ما يدركه الإنسان أن يحسّ من قرارة نفسه بروعة هذا القرآن الكريم ، وسمو معانيه ، وجمال ألفاظه ، وأن يشعر بالعجز الكامل عن أن يأتي بمثل آية من آياته ، فضلاً عن مثل الكتاب العزيز ، فإن هذه السورة الكريمة على قصرها ووجازتها قد حوت معاني القرآن العظيم ، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال ، فهي تتناول أصول الدين وفروعه ، تتناول العقيدة ، والعبادة ، والتشريع ، والاعتقاد بالجزاء والحساب ، والإيمان بصفات الله الحسنى ، وإفراده بالعبادة ، والاستعانة ، والدعاء ، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم ، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين ، وتجنب طريق المغضوب عليهم أو الضالّين إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراضٍ وأهداف . قال العلامة القرطبي : " سميت الفاتحة ( القرآن العظيم ) لتضمنها جميع علومه ، وذلك لأنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله ، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها ، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلاّ بإعانته تعالى ، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم ، وكفاية أحوال الناكثين ، وعلى بيان عاقبة الجاحدين ، وهذه جملة المقاصد التي جاء بها القرآن العظيم " . يقول الشهيد الشيخ حسن البنا رحمه الله في رسالته القيّمة " مقدمة في التفسير " ما نصه : " لا شك أن من تدبّر الفاتحة الكريمة - وكلّ مؤمن مطالب بتدبرها في تلاوته عامة ، وفي صلاته خاصة - رأى من غزارة المعاني ، وجمالها ، وروعة التناسب ، وجلاله ، ما يأخذ بلبه ، ويضيء جوانب قلبه . فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله الموصوف بالرحمة ، التي تظهر آثار رحمته متجدّدة في كل شيء ، مستشعراً أنّ أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم هو هذه الرحمة التي وسعت كل شيء . فإذا استشعر هذا المعنى ، ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإلٰه ( الرحمٰن الرحيم ) وذكّره الحمد بعظيم نعمه ، وكريم فضله ، وعظيم آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً ، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له ، ثمّ تذكّر من جديد أنّ هذه النعم الجزيلة ، والتربية الجليلة ، ليست عن رغبة ولا رهبة ، ولكنّها عن تفضل ورحمة ، فنطق لسانه مرة ثانية بالرحمٰن الرحيم ، ولكن من كمال هذا الإلٰه العظيم أن يقرن ( الرحمٰن ) بـ ( العدل ) ويذكّر بالحساب بعد الفضل ، فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدينُ عباده ، ويحاسب خلقه يوم الدين { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] . فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة ، والترهيب بالعدالة ، والحساب ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير ، والبحث عن وسائل النجاة ، وهو في هذا أشدّ ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل ، ويرشده إلى الصراط المستقيم ، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه ، فليلجأ إليه ، وليعتمد عليه ، وليخاطبه بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه ، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء ، والنكوص بعد الاهتداء ، وغير الضالين التائهين ، الذين يضلون عن الحق ، أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه آمين . ولا جرم أن ( آمين ) براعة مقطع في غاية الجمال والحسن ، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب ، والتوجه إلى الله بالدعاء ؟ فهل رأيت تناسقاً أدق ، أو ارتباطاً أوثق ، مما تراه بين معاني هذه الآيات الكريمات ؟ وتذكّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي الذي أوردناه آنفاً " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل " الخ وأدم هذا التدبر والإنعام ، واجتهد أن تقرأ في الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل ، وخشوع وتذلّل ، وأن تقف على رؤوس الآيات ، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات ، من غير تكلف ولا تطريب ، واشتغال بالألفاظ عن المعاني ، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية ، أو الصلاة الجهرية ، فإنّ ذلك يعين على الفهم ، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع ، وما نفع القلبَ شيء أفضل من تلاوةٍ في تدبر وخشوع " .