Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 183-187)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 8 ] فريضة الصيام على المسلمين التحليل اللفظي { ٱلصِّيَامُ } : الصم في اللغة : الإمساكُ عن الشيء والتركُ له ، يقال : صامت الخيل إذا أمسكت عن السير ، وصامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب . قال الراغب : الصوم : الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً ، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف صائمٌ ، قال الشاعر : @ خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ تحت العَجاج وأخرى تعلك الُّلجما @@ أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري ، أو ممسكة عن الطعام ، وقال آخر : @ حتّى إذا صام النهار واعتدل وسال للشمس لعابٌ فنزل @@ قال أبو عبيدة : كل ممسكٍ عن طعام ، أو كلام ، أو سير فهو صائم . وفي الشرع : هو الإمساك عن الطعام ، والشراب ، والجماع ، مع النيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس . وكمالُه باجتناب المحظورات ، وعدم الوقوع في المحرمات . { فَعِدَّةٌ } : قال الراغب : العدّةُ هي الشيء المعدود ، ومنه قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } [ المدثر : 31 ] أي عددهم . والمعنى : عليه أيام عدد ما قد فاته من رمضان . قال القرطبي : " والعِدّةُ فِعْلةٍ من العدّ وهي بمعنى المعدود ، كالطِحن بمعنى المطحون ، تقول : أسمع جعجعةً ولا أرى طِحناً ، ومنه عدة المرأة " . { أُخَرَ } : جمع أخرى ، أي أياماً أخرى ، وهي ممنوعة من الصرف لأنها معدولة عن آخر على رأي الكسائي ، وعن الألف واللام على رأي سيبويه ، مثل : الصُغَر ، والكُبَر . وإنما أوثر هنا الجمع لأنه لو جيء به مفرداً فقيل : عدة من أيامٍ أخرى لأوهم أنه وصفٌ لعدة فيفوت المقصود . { يُطِيقُونَهُ } : أي يصومونه بمشقة وعسر . قال في " اللسان " : والإطاقة القدرة على الشيء ، وهو في طوقي أي وسعي ، وأطاق وإطاقة إذا قوي عليه . وقال الراغب : والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة ، وشبّه بالطوق المحيط بالشيء . { فِدْيَةٌ } : الفدية ما يفدي به الإنسان نفسه من مال وغيره ، بسبب تقصير وقع منه في عبادة من العبادات ، وهي تشبه الكفّارة من بعض الوجوه . { شَهْرُ } : الشهرُ معروف ، وأصله من الاشتهار وهو الظهور ، يقال : شهر الأمر أظهره ، وشهر السيف استلّه ، وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره ، لكونه ميقاتاً للعبادات والمعاملات ، فصار مشتهراً بين الناس . { رَمَضَانَ } : قال الراغب : رمضان هو الرّمض أي شدة وقع الشمس ، والرمضاء شدة حر الشمس ، ورمضت الغنم : رعت في الرمضاء فقرحت أكبادنا . وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها . قال الزمخشري : " لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، سموّها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ فسمي رمضان " . وقيل : إنما سمّي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة . { ٱلرَّفَثُ } : الجماع ودواعيه ، قال الراغب : الرفث : كلامٌ متضمنٌ لما يُستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه ، وقد جعل كناية عن الجماع في قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } تنبيهاً إلى جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه . وأصل الرفث : قول الفحش ثم كنّي به عن الجماع قال الشاعر : @ ويُرَيْن من أُنْس الحديث زوانياً وبهنّ عن رفث الرجال نِفَار @@ قال ابن عباس : الرفث هو الجماع ، إن الله عز وجل كريم حليم يكني . { تَخْتانُونَ } : الاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب ، ومعناه : مراودة الخيانة . قال في " اللسان " : خانه واختانه ، والمخانة مصدر من الخيانة وهي ضد الأمانة قال الشاعر : @ يتحدثون مَخَانةً وملاذَةً ويُعاب قائلهم وإن لم يشْغب @@ وسئل بعضهم عن السيف فقال : أخوك وإن خانك ، وكل ما غيّرك عن حالك فقد تخوّنك . قال الراغب : الخيانة مقابل الأمانة ، والاختيان : مراودة الخيانة ، ولم يقل : ( تخونون أنفسكم ) لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، وهو تحرك شهوة الإنسان للوقوع في الخيانة . { عَٰكِفُونَ } : العكوف والاعتكاف أصله اللزوم ، يقال : عكفت بالمكان أي أقمت به ملازماً قال تعالى : { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ } [ طه : 91 ] وقال الشاعر : @ فبات بنات الليل حولي عُكّفاً عكوف البواكي بينهن صريع @@ وفي الشرع هو المكث في المسجد للعبادة بنيّة القربة لله تعالى . { حُدُودُ ٱللَّهِ } : الحدود جمع حدّ ، والحدّ في اللغة : المنع ، ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمتنع به من الأعداء ، وسمي البوّاب حدّاداً لأنه يمنع من الدخول أو الخروج إلا بإذن ، وأحدّث المرأة على زوجها إذا تركت الزينة وامتنعت منها . قال الزجاج : " الحدودُ ما منع الله تعالى من مخالفتها ، فلا يجوز مجازوتها " . المعنى الإجمالي يخبر المولى جلّ وعلا أنه قد فرض الصيام على عباده المؤمنين ، كما فرضه على من سبقهم من أهل الملل ، وقد علّل فرضيته ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العليا ، وهي أن يُعدّ نفس الصائم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة امتثالاً لأمره تعالى ، واحتساباً للأجر عنده ، ليكون المؤمن من المتقين لله المجتنبين لمحارمه . وهذا الصيام الذي فرضه الله على عباده ، إنما هو أيام معينات بالعدد ، وهي أيام رمضان ، ولم يفرض الله عليكم الدهر كله ، تخفيفاً ورحمة بهم ، ومع هذه الرحمة في الصيام فقد شرع للمريض الذي يضره الصوم ، والمسافر الذي يشق عليه أن يفطرا ويقضيا أياماً بقدر الأيام التي أفطرا فيها وذلك من التيسير على العباد والرحمة بهم ، ثم أخبر تعالى أن هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه هو شهر رمضان ، شهر ابتداء نزول القرآن ، الكتاب العظيم الذي أكرم الله به الأمة المحمدية ، فجعله دستوراً لهم ، ونظاماً يتمسكون به في حياتهم ، فيه النور ، والهدى ، والضياء ، وهو سبيل السعادة لمن أراد أن يسلك طريقها ، وقد أكدّ الباري صيام هذا الشهر ، لأنه شهر تنزّل الرحمة الإلهية على العباد ، وأنه تعالى لا يريد بعباده إلا اليُسر والسهولة ، ولذلك فقد أباح للمريض والمسافر الإفطار في أيام رمضان . ثم بيّن تعالى أنه قريب ، يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين ، وليس بينه وبين أحدٍ من العباد حجاب ، فعليهم أن يتوجهوا إليه وحده بالدعاء والتضرع ، حنفاء مخلصين له الدين . وقد يسّر تعالى على عباده وأباح لهم التمتع بالنساء في ليالي رمضان ، كما أباح لهم الطعام والشراب ، وقد كان ذلك من قبل محرماً عليهم ، ولكنّه تعالى أباح لهم الطعام والشراب ، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء ، ليظهر فضله عليهم ، ورحمته بهم ، وقد شبّه المرأة باللباس الذي يستر البدن ، فهي ستر للرجل وسكن له ، وهو ستر لها ، قال ابن عباس معناه " هنّ سكنٌ لكم وأنتم سكن لهنّ " وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر ، ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة ، مباشرتهن وقت الاعتكاف لأنه وقت تبتل وانقطاع للعبادة ، ثمّ ختم تعالى هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مخالفة أوامره ، وارتكاب المحرمات والمعاصي ، التي هي حدود الله ، وقد بيّنها لعباده حتى يجتنبوها ، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله ليكونوا من المتقين . سبب النزول 1 - روى ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : " إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر " ، ثم إن الله عز وجل فرض شهر رمضان ، فأنزل الله تعالى ذكره { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } حتى بلغ { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً ، ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم ، فأنزل الله عز وجل { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ … } . 2 - وروُي عن سلمة بن الأكوع أنه قال " لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من شاء منا صام ، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل ذلك ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . 3 - وروي أن جماعة من الأعراب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه ؟ أم بعيدٌ فنناديه ؟ فأنزل الله { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ … } الآية . 4 - وروى البخاري عن ( البراء بن عازب ) أنه قال : " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإنّ ( قيس بن صرمة ) الأنصاري كان صائماً ، وكان يعمل بالنخيل في النهار ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندكِ طعامٌ ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلقُ فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبةً لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } ففرحوا فرحاً شديداً ، فنزلت { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ } . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور ( وعلى الذين يُطيقونه ) وقرأ ابن عباس ( يُطَوّقونه ) بمعنى يكلّفونه . 2 - قرأ الجمهور ( فديةٌ طعامُ مسكينٍ ) وقرأ نافع وابن عامر ( فديةُ طعامِ مساكين ) بجمع مساكين ، وإضافة ( فدية ) إلى ( طعام ) . 3 - قرأ الجمهور ( فمن تطوّع ) على الماضي ، وقرأ حمزة والكسائي ( فمن تطوّعُ ) بالجزم على معنى يتطوّع ، وقرئ ( فمنّ يطّوع ) على أنه مضارع . 4 - قرأ الجمهور ( ولتُكْملوا العدّة ) بالتخفيف ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ( ولتُكَمّلوا ) بالتشديد . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } الكاف للتشبيه وهي صفة لمصدر محذوف و ( ما ) مصدرية ، والتقدير : كُتب عليكم الصيامُ كتابةً مثل كتابته على من قبلكم . 2 - قوله تعالى : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } قال الزجاج : منصوب على الظرف كأنه قال : كتب عليكم في هذه الأيام والعامل فيه الصيام . قال العكبري : لا يجوز أن ينتصب على الظرف ، ولا على أنه مفعول به على السّعة لأن المصدر إذا وصف لا يعمل ، والوجه أن يكون العامل محذوفاً تقديره : صوموا أياماً . 3 - قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } تقديره : فعليه عدّةٌ فيكون ارتفاع ( عدة ) على الابتداء والخبر محذوف ، وأخر صفة لعدة لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام . 4 - قوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أن تصوموا في موضع مبتدأ و ( خير ) خبره والتقدير صيامكم خير لكم ، و { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } شرط حذف منه الجواب لدلالة ما قبله . 5 - قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } الشهرَ منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في ( فليصمْه ) ولا يكون مفعولاً به ، لأنه يلزم حينئذٍ المسافر لأنه شهد الشهر ، قال الزمخشري : " المعنى فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر فليصم في الشهر ولا يفطر " . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : أشارت الآية الكريمة إلى أن الصوم عبادة قديمة ، فرضها الله على الأمم قبلنا ، ولكنّ أهل الكتاب غيّروا وبدّلوا في هذه الفريضة ، وقد كان يتفق في الحر الشديد أو البرد الشديد ، فحوّلوه إلى الربيع وزادوا في عدده حتى جعلوه خمسين يوماً كفارة لذلك . روى الطبري بسنده عن الدُّي أنه قال : " كُتب على النصارى شهرُ - رمضان ، وكُتب عليهم ألاّ يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ، ولا أن ينكحوا النساء في شهر رمضان ، فاشتد على النصارى صيام رمضان ، وجعل يُقلّب عليهم في الشتاء والصيف ، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف ( يعني الربيع ) وقالوا : نزيد عشرين يوماً نكفّر بهما ما صنعنا فجعلوا صيامهم خمسين " . اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قال ابن العربي : هذا القول من لطيف الفصاحة لأن تقديره : فأفطر فعدةٌ من أيام أخر ، فحذف الشرط والمضاف ثقةً بالظهور . اللطيفة الثالثة : بيّن المولى جل ثناؤه أن الصوم يورث التقوى { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وهذا تقليل لفريضة الصيام ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العليا ، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة ، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده ، فتتربى بذلك إرادته على ملكة التقوى بترك الشهوات المحرمة ، فالصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين ، كما قيل في المثل السائر : ( المرء يسعى لغاريه : بطنه ، وفرجه ) . اللطيفة الرابعة : قال القفال رحمه الله : " انظروا إلى عجيب ما نبّه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فقد نبّه إلى ما يلي : أولاً : أنّ لهذه الأمة في شريعة الصيام أسوة بالأمم المتقدمة . ثانياً : أن الصوم سبب لحصول التقوى ، فلو لم يُفرض لفات هذا المقصود الشريف . ثالثاً : أنه مختص بأيام معدودات ، فإنه لو جعله أبداً لحصلت المشقة العظيمة . رابعاً : أنه خصّه من بين الشهور بالشهر الذي أُنزل فيه القرآن ، لكونه أشرف الشهور . خامساً : إزالة المشقة في إلزامه فقد أباح تأخيره لمن يشق عليه من المسافرين والمرضى ، فهو سبحانه قد راعى في فريضة الصيام هذه الوجوه من الرحمة ، فله الحمد على نعمه التي لا تحصى . اللطيفة الخامسة : أفاد قوله تعالى : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } أن الشيخ الكبير والمرأة العجوز يجوز لهما الإفطار مع الفدية ، والعرب تقول : أطاق الشيء إذا كانت قدرته في نهاية الضعف ، بحيث يتحمل به مشقة عظيمة ، وهو مشتق من الطوق وعليه قول الراغب : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] أي ما يصعب علينا مزاولته . والطاقة : اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة ، والوُسْعُ : اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة ، فتنبه له فإنه دقيق . اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } المراد شهود الوقت لا شهود رؤية الهلال ، إذ قد لا يراه إلا واحد أو اثنان ويجب صيامه على جميع المسلمين ، و ( شهد ) بمعنى حضر ، وفيه إضمارٌ أي من شهد منكم الشهر مقيماً غير مسافر ولا مريض فليصمه ، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان ، أفاده أبو السعود . اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } هذه الآية فيها من المحسّنات البديعية ما يسمى ( طباق السلب ) وهي أصل في الدين ومنها أخذ الفقهاء القاعدة الأصولية ( المشقّة تجلب التيسير ) فالله تبارك وتعالى لا يريد بتشريعه إعنات الناس ، وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم . اللطيفة الثامنة : قال العلامة الزمخشري قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي شرع ذلك يعني جملة ما ذكر ، من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المريض والمسافر بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : { وَلِتُكْمِلُواْ } علة الأمر بمراعاة العدة ، ( ولتكبّروا ) علة ما عُلم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللّف والنشر ، لطيف المسلك ، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان . اللطيفة التاسعة : عبّر المولى جل وعلا عن المباشرة الجنسية التي تكون بين الزوجين بتعبير سامٍ لطيف ، لتعليمنا الأدب في الأمور التي تتعلق بالنساء { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } فالتعبير على طريقة الاستعارة والمراد اشتمال بعضهم على بعض لما تشتمل الملابس على الأجسام . قال الإمام الفخر : " لمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان ، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه ، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، سُمّي كل واحد منهما لباساً " . اللطيفة العاشرة : قوله تعالى : { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } . قال الشريف الرضي : " هذه استعارةٌ عجيبة ، والمراد بها حتى يتبيّن بياضُ الصبحُ من سواد الليل ، والخيطان هٰهنا مجاز ، وإنما شبّهها بذلك لأنّ بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً ، ويكون سواد الليل منقضياً موليّاً ، فهما جميعاً ضعيفان ، إلاّ أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً " . روي أنه لما نزلت الآية " قال ( عدي بن حاتم ) أخذتُ عقالين : أبيض ، وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليها ، فلم يتبيّن لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : " إنك لعريض القفا ، إنما ذلك بياضُ النهار وسوادُ الليل " " . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل فرض على المسلمين صيامٌ قبل رمضان ؟ يدل ظاهر قوله تعالى : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } على أن المفروض على المسلمين من الصيام إنما هو هذه الأيام ( أيام رمضان ) وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين ، وهو مروي عن ابن عباس والحسن ، واختاره ابن جرير الطبري . وروي عن قتادة وعطاء أن المفروض على المسلمين كان ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم فرض عليهم صوم رمضان ، وحجتهم أن قوله تعالى : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } يدل على أنه واجب على التخيير ، وأمّا صوم رمضان فإنه واجب على التعيين ، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان . واستدل الجمهور بأن قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } مجمل يحتمل أن يكون يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك فبينه بعض البيان بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } وهذا أيضاً يحتمل أن يكون أسبوعاً أو شهراً ، فبيّنه تعالى بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ } فكان ذلك حجة واضحة على أنّ الذي فرضه على المسلمين هو شهر رمضان . قال ابن جرير الطبري : " وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال : عنى جل ثناؤه بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أيام شهر رمضان ، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم رمضان ، لأن الله تعالى قد بيّن في سياق الآية أن الصوم الذي أوجبه علينا هو صوم شهر رمضان دون غيره من الأوقات ، بإبانته عن الأيام التي كتب علينا صومها بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } فتأويل الآية كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام ، كما كتب على من قبلكم لعلكم تتقون ، أياماً معدودات هي شهر رمضان " . الحكم الثاني : ما هو المرض والسفر المبيح للإفطار ؟ أباح الله تعالى للمريض والمسافر الفطر في رمضان ، رحمة بالعباد وتيسيراً عليهم ، وقد اختلف الفقهاء في المرض المبيح للفطر على أقوال : أولاً - قال أهل الظاهر : مطلق المرض والسفر يبيح للإنسان الإفطار حتى ولو كان السفر قصيراً والمرض يسيراً حتى من وجع الإصبع والضرس ، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين . ثانياً - وقال بعض العلماء إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجُهد ، وكذلك المسافر الذي يُضنيه السفر ويُجهده ، وهو قول الأصم . ثالثاً - وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر ، هو المرض الشديد الذي يؤدي إلى ضرر في النفس ، أو زيادةٍ في العلة ، أو يُخشى معه تأخر البرء ، والسفر الطويل الذي يؤدي إلى مشقةً في الغالب ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة . دليل الظاهرية : استدل أهل الظاهر بعموم الآية الكريمة { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } حيث أُطلق اللفظ ولم يُقيّد المرض بالشديد ، ولا السفر بالبعيد ، فمطلق المرض والسفر يبيح الإفطار ، حكي أنهم دخلوا على ( ابن سيرين ) في رمضان وهو يأكل ، فاعتلّ بوجع أصبعه . وقال داود : الرخصة حاصلة في كل سفر ، ولو كان السفر فرسخاً لأنه يقال له : مسافر ، وهذا ما دل عليه ظاهر القرآن . دليل الجمهور : استدل جمهور الفقهاء على أن المرض اليسير الذي لا كلفة معه لا يبيح الإفطار بقوله تعالى في آية الصيام { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } فالآية قد دلت على أن الفرض من الترخيص . المرض خفيفاً والسفر قريباً فلا يقال إن هناك مشقة رفعت عن الصائم ، فأي مشقة من وجع الأصبع والضرس ؟ الترجيح : أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح الذي يتقبله العقل بقبول حسن ، فإن الحكمة التي من أجلها رُخّص للمريض في الإفطار هي إرادة اليسر ، ولا يراد اليسر إلاّ عند وجود المشقة ، فأي مشقةٍ في وجع الأصبع ، أو الصداع الخفيف والمرض اليسير ، الذي لا كلفة معه في الصيام ؟ ثمّ إن من الأمراض ما لا يكون شفاؤه إلا بالصيام ، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك ؟ ولم يكلفنا الله جلّ وعلا إلاّ على حسب ما يكون في غالب الظن ، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سبباً للمرض ، أو زيادة العّلة ، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمرٌ يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين . قال القرطبي : " للمريض حالتان : إحداهما - ألاّ يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً . الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة ، فهذا يستحب له الفطر ، ولا يصوم إلا جاهل وقال جمهور العلماء : إذا كان به مرضٌ يؤلمه ويؤذيه ، أو يخاف تماديه ، أو يخاف زيادته صحّ له الفطر ، واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر ، فقال مرة : هو خوف التلف من الصيام ، وقال مرة : هو شدة المرض ، والزيادة فيه ، والمشقة الفادحة ، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر " . الحكم الثالث : ما هو السفر المبيح للإفطار ؟ وأما السفر المبيح للإفطار فقد اختلف الفقهاء فيه بعد اتفاقهم على أنه لا بدّ أن يكون سفراً طويلاً على أقوال : أ - قال الأوزاعي : السفر المبيح للفطر مسافة يوم . ب - وقال الشافعي وأحمد : هو مسيرة يومين وليلتين ، ويقدر بستة عشر فرسخاً . جـ - وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاثة أيام بلياليها ويقدر بأربعة وعشرين فرسخاً . حجة الأوزاعي : أنّ السفر أقل من يوم سفرٌ قصير قد يتفق للمقيم ، والغالب أن المسافر هو الذي لا يتمكن من الرجوع إلى أهله في ذلك اليوم ، فلا بدّ أن يكون أقل مدة للسفر يومٌ واحد حتى يباح له الفطر . حجة الشافعي وأحمد : أولاً : أن السفر الشرعي هو الذي تُقصر فيه الصلاة ، وتعبُ اليوم الواحد يسهل تحمله ، أمّا إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة . ثانياً : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرد من مكة إلى عسفان " . قال أهل اللغة : وكل بريد أربعة فراسخ ، فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً . ثالثاً : ما روي عن عطاء أنه قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة ؟ فقال : لا ، فقال : إلى مرّ الظهران ؟ فقال : لا ، ولكن أقصر إلى جدة ، وعسفان ، والطائف . قال القرطبي : والذي في " البخاري " : " وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً " . وهذا هو المشهور من مذهب مالك رحمه الله ، وقد روي عنه أنه قال : أقله يوم وليلة ، واستدل بحديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرةِ يومٍ وليلة إلا ومعها ذو محرم " رواه البخاري . حجة أبي حنيفة والثوري : أولاً : واحتج أبو حنيفة بأن قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يوجب الصوم ، ولكنّا تركناه في الثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها ، أما فيما دونها فمختلف فيه فوجب الصوم احتياطياً . ثانياً : واحتج بقوله عليه السلام : " يمسح المقيم يوماً وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " فقد جعل الشارع علة المسح ثلاثة أيام السفرُ ، والرخص لا تعلم إلاّ من الشرع ، فوجب اعتبار الثلاث سفراً شرعياً . ثالثاً : وبقوله عليه الصلاة والسلام : " لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم " فتبيّن أن الثلاثة قد تعلق بها حكم شرعي ، وغيرها لم يتعلق فوجب تقديرها في إباحة الفطر . قال ابن العربي في تفسيره " أحكام القرآن " : " وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاّ ومعها ذو محرم " وفي حديث ( سفر ثلاثة أيام ) فرأى أبو حنيفة أن السفر يتحقق في أيام : يوم يتحمل فيه عن أهله ، ويوم ينزل فيه في مستقره ، واليوم الأوسط هو الذي يتحقق فيه السير المجرد ، فرجل احتاط وزاد ، ورجل ترخّص ، ورجل تقصّر " . أقول : أمور العبادة ينبغي فيها الاحتياط ، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر مسيرة ثلاثة أيام ، وثبت يوم وليلة وكلاهما في الصحيح ، لذا كان العمل بالثلاث أحوط ، فلعل ما ذهب إليه أبو حنيفة يكون أرجح والله أعلم . الحكم الرابع : هل الإفطار للمريض والمسافر رخصة أم عزيمة ؟ ذهب أهل الظاهر إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ، ويصوما عدة من أيام أخرى ، وأنهما لو صاما لا يجزئ صومهما لقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والمعنى : فعليه عدة من أيام أخر ، وهذا يقتضي الوجوب . وبقوله عليه السلام : " ليس من البر الصيام في السفر " وقد روي هذا عن بعض علماء السلف . وذهب الجمهور وفقهاء الأمصار إلى أن الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر وإن شاء صام واستدلوا بما يلي : 1 - قالوا : إن في الآية إضماراً تقديره : فأفطر فعليه عدة من أيام أخر ، وهو نظير قوله تعالى : { فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ } [ البقرة : 60 ] والتقدير : فضرب فانفجرت ، وكذلك قوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] أي فحلق فعليه فدية والإضمار في القرآن كثير لا ينكره إلا جاهل . ب - واستدلوا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض أنه صام في السفر . جـ - وبما ثبت عن أنس قال : " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم " . د - وقالوا : إن المرض والسفر من موجبات اليسر شرعاً وعقلاً ، فلا يصح أن يكونا سبباً للعسر . وأما ما استدل به أهل الظاهر من قوله عليه السلام " ليس من البر الصيام في السفر " فهذا واردٌ على سبب خاص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يظلّل والزحام عليه شديد فسأل عنه فقالوا : صائم أجهده العطش فذكر الحديث . قال ابن العربي في تفسيره " أحكام القرآن " : " وقد عُزي إلى قوم : إن سافر في رمضان قضاه ، صامه أو أفطره ، وهذا لا يقول به إلا الضعفاء الأعاجم ، فإن جزالة القول ، وقوة الفصاحة ، تقتضي تقدير ( فأفطر ) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصوم في السفر قولاً وفعلاً ، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره " . الحكم الخامس : هل الصيام أفضل أم الإفطار ؟ وقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل ؟ فذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك إلى أن الصيام أفضل لمن قوي عليه ، ومن لم يقو على الصيام كان الفطر له أفضل ، أما الأول فلقوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } وأما الثاني فلقوله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْر } . وذهب أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل أخذاً بالرخصة ، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه . وذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أنّ أفضلهما أيسرهما على المرء . الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم . الحكم السادس : هل يجب قضاء الصيام متتابعاً ؟ ذهب علي ، وابن عمر ، والشعبي إلى أنّ من أفطر لعذرٍ كمرضٍ أو سفر قضاه متتابعاً ، وحجتهم أن القضاء نظير الأداء ، فلما كان الأداء متتابعاً ، فكذلك القضاء . وذهب الجمهور إلى أن القضاء يجوز فيه كيف ما كان ، متفرقاً أو متتابعاً ، وحجتهم قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فالآية لم تشترط إلاّ صيام أيام بقدر الأيام التي أفطرها ، وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات ، فأي يومٍ صامه قضاءً أجزأه . واستدلوا بما روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : " إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواصل وإن شئت ففرّق " . الترجيح : والراجح ما ذهب إليه الجمهور لوضوح أدلتهم والله أعلم . الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } ؟ يرى بعض العلماء أن الصيام كان قد شرع ابتداءً على التخيير ، فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى ، يطعم عن كل يومٍ مسكيناً ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وهذا رأي الأكثرين واستدلوا لما رواه البخاري ومسلم عن ( سلمة بن الأكوع ) أنه قال : لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } كان من شاء منّا صام ، ومن شاء أفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وهذا مروي عن ابن مسعود ، ومعاذ ، وابن عمر وغيرهم . ويرى آخرون أن الآية غير منسوخة ، وأنها نزلت في الشيخ الكبير ، والمرأة العجوز ، والمريض الذي يُجهده الصوم ، وهذا مروي عن ابن عباس . قال ابن عباس : ( رخّص للشيخ الكبير أن يفطر ، ويطعم عن كل يوم مسكيناً ، ولا قضاء عليه ) . وروى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال ابن عباس : ليست بمنسوخة ، هي للشيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة ، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً . وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة ، ويكون معنى قوله تعالى : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدّة والمشقة ، ويؤيده قراءة { يطوّقونه } أي يكلّفونه مع المشقة . الحكم الثامن : ما هو حكم الحامل والمرضع ؟ الحبلى والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما أفطرتا ، لأن حكمهما حكم المريض ، وقد سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما فقال : أيّ مرضٍ أشد من الحمل ؟ تفطر وتقضي . وهذا باتفاق الفقهاء ، ولكنهم اختلفوا هل يجب عليهما القضاء مع الفدية ، أم يجب القضاء فقط ؟ ذهب أبو حنيفة إلى أن الواجب عليهما هو القضاء فقط ، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن عليهما القضاء مع الفدية . حجة الشافعي وأحمد : أن الحامل والمرضع داخلتان في منطوق الآية الكريمة { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } لأنها تشمل الشيخ الكبير ، والمرأة الفانية ، وكل من يُجهده الصوم فعليهما الفدية كما تجب على الشيخ الكبير . حجة أبي حنيفة : أولاً : أن الحامل والمرضع في حكم المريض ، ألا ترى إلى قول الحسن البصري : أي مرضٍ أشدّ من الحمل ؟ يفطران ويقضيان ، فلم يوجب عليهما غير القضاء . ثانياً : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه ، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته وزمانته ، فلن يأتيه يوم يستطيع فيه الصيام ، أما الحامل والمرضع فإنهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة للزوال ، فالقضاء واجب عليهما ، فلو أجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز ، لأن القضاء بدل ، والفدية بدل ، ولا يمكن الجمع بينهما لأن الواجب أحدهما . وقد روي عن الإمام أحمد والشافعي أنهما إن خافتا على الولد فقط وأفطرتا فعليهما القضاء والفدية ، وإن خافتا على أنفسهما فقط ، أو على أنفسهما وعلى ولدهما ، فعليهما القضاء لا غير . الحكم التاسع : بم يثبت شهر رمضان ؟ يثبت شهر رمضان برؤية الهلال ، ولو من واحد عدل أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً ، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " . فبواسطة الهلال تعرف أوقات الصيام والحج كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] فلا بدّ من الاعتماد على الرؤية ، ويكفي لإثبات رمضان شهادة واحدٍ عدل عند الجمهور ، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " تراءى الناس الهلال ، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه " وأما هلال شوال فيثبت بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً ، ولا تقبل فيه شهادة العدل الواحد عند عامة الفقهاء . وقال مالك : لا بدّ من شهادة رجلين عدلين ، لأنه شهادة وهو يشبه إثبات هلال شوال ، لا بدّ فيه من اثنين على الأقل . قال الترمذي : والعمل عند أكثر أهل العلم على أنه تقبل شهادة واحدٍ في الصيام . روى الدارقطني : أنّ رجلاً شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام وأمر الناس أن يصوموا ، وقال : أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان . الحكم العاشر : هل يعتبر اختلاف المطالع في وجوب الصيام ؟ ذهب الحنيفة والمالكية والحنابلة : إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع ، فإذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على بقية البلاد لقوله صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " وهو خطاب عام لجميع الأمة ، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعاً . وذهب الشافعية إلى أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ، ولا تكفي رؤية البلد الآخر ، والأدلة تطلب من كتب الفروع فارجع إليها هناك . الحكم الحادي عشر : حكم الخطأ في الإفطار . اختلف العلماء فيمن أكل أو شرب ظاناً غروب الشمس ، أو تسحرّ يظن عدم طلوع الفجر ، فظهر خلاف ذلك ، هل عليه القضاء أم لا ؟ فذهب الجمهور وهو مذهب ( الأئمة الأربعة ) إلى أنّ صيامه غير صحيح ويجب عليه القضاء ، لأن المطلوب من الصائم التثبت ، لقوله تعالى : { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ } فأمر بإتمام الصيام إلى غروب الشمس ، فإذا ظهر خلافه وجب القضاء . وذهب أهل الظاهر والحسن البصري إلى أن صومه صحيح ولا قضاء عليه لقوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } [ الأحزاب : 5 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقالوا : هو كالناسي لا يفسد صومه . الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح لأن المقصود من رفع الجناح رفع الإثم لا رفع الحكم ، فلا كفارة عليه لعدم قصد الإفطار ، ولكن يلزمه القضاء للتقصير ، ألا ترى أن القتل الخطأ فيه الكفارة والدية مع أنه ليس بعمد ، وقياسه على الناسي غير سليم ، لأن الناسي قد ورد فيه النص الصريح فلا يقاس عليه والله أعلم . الحكم الثاني عشر : هل الجنابة تنافي الصوم ؟ دلت الآية الكريمة وهي { فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ . … } الآية على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم ، لما فيه من إباحة الأكل والشرب والجماع من أول الليل إلى آخره ، مع العلم أن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر يصبح جنباً ، وقد أمر الله بإتمام صومه إلى الليل { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } فدلّ على صحة صومه ، ولو لم يكن الصوم صحيحاً لما أمره بإتمامه . وفي " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً وهو صائم ثمّ يغتسل " فالجنابة لا تأثير لها على الصوم ، ويجب الاغتسال من أجل الصلاة . الحكم الثالث عشر : هل يجب قضاء صوم النفل إذا أفسده ؟ اختلف الفقهاء في حكم صوم النفل إذا أفسده هل يجب فيه القضاء أم لا ؟ على مذاهب . مذهب الحنفية : يجب عليه القضاء لأنه بالشروع يلزمه الإتمام . مذهب الشافعية والحنابلة : لا يجب عليه القضاء لأن المتطوّع أمير نفسه . وذهب المالكية : أنه إن أبطله فعليه القضاء ، وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه . دليل الحنفية : أ - قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } قالوا : فهذه الآية عامة في كل صوم ، فكل صومٍ شرع فيه لزمه إتمامه . ب - قوله تعالى : { وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال ، فإذا أبطله فقد ترك واجباً ، ولا تبرأ ذمته إلا بإعادته . جـ - حديث عائشة أنها قالت : " أصبحتُ أنا وحفصة صائمتين متطوعتين ، فأهدي إلينا طعام فأعجبنا فأفطرنا ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدرتني حفصة فسألته - وهي ابنة أبيها - فقال عليه السلام : صوما يوماً مكانه " . دليل الشافعية والحنابلة : أ - قوله تعالى : { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } [ التوبة : 91 ] والمتطوّع محسن فليس عليه حرج في الإفطار . ب - حديث " الصائم المتطوع أمير نفسه ، إن شاء صام وإن شاء أفطر " . الترجيح : ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة وحفصة بصيام يوم مكانه وهو نص في وجوب القضاء والله أعلم . الحكم الرابع عشر : ما هو الاعتكاف وفي أي المساجد يعتكف ؟ قال الشافعي رحمه الله : الاعتكاف اللغوي : ملازمةُ المرء للشيء وحبسُ نفسه عليه ، براً كان أو إثماً قال تعالى : { يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [ الأعراف : 138 ] . والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله بنيّة العبادة ، وهو من الشرائع القديمة قال الله تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ } [ الحج : 26 ] وقال تعالى : { وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } ويشترط في الاعتكاف أن يكون في المسجد لقوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف على أقوالٍ : أ - فقال بعضهم : الاعتكاف خاصٌ بالمساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ) وهي مساجد الأنبياء عليهم السلام ، واستدلوا بحديث : " لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد … " الحديث وهذا قول سعيد بن المسيّب . 2 - وقال بعضهم : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة ، وهو قول ابن مسعود وبه أخذ الإمام مالك رحمه الله في أحد قوليه . 3 - وقال الجمهور : يجوز الاعتكاف في كل مسجد من المساجد لعموم قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } وهو الصحيح لأن الآية لم تعيّن مسجداً مخصوصاً فيبقى اللفظ على عمومه . قال أبو بكر الجصاص : " حصل اتفاق جميع السلف أنّ من شرط الاعتكاف أن يكون في المسجد ، على اختلاف منهم في عموم المساجد وخصوصها ، وظاهر قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ ، ومن اقتصر به على بعضها فعليه بإقامة الدليل ، وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه ، كما أن تخصيص من خصّه بمساجد الأنبياء لمّا لم يكن عليه دليل سقط اعتباره " . وأما المرأة فيجوز لها أن تعتكف في بيتها لعدم دخولها في النص السابق . الحكم الخامس عشر : ما هي مدة الاعتكاف وهل يشترط فيه الصيام ؟ اختلف الفقهاء في المدة التي تلزم في الاعتكاف على أقوال : أ - أقله يوم وليلة ، وهو مذهب الأحناف . ب - أقله عشرة أيام ، وهو أحد قولي الإمام مالك . جـ - أقله لحظة ولا حدّ لأكثره وهو مذهب الشافعي . ويجوز عند الشافعي وأحمد ( في أحد قوليه ) الاعتكاف بغير صوم . وقال الجمهور ( أبو حنيفة ومالك وأحمد ) في القول الآخر : لا يصح الاعتكاف إلا بصوم . واحتجوا بما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا اعتكاف إلا بصيام " . وحديث " اعتكف وصم " وقالوا : إن الله ذكر الاعتكاف مع الصيام في قوله : { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } فدل على أنه لا اعتكاف إلا بصيام . قال الإمام الفخر : " يجوز الاعتكاف بغير صوم ، والأفضل أن يصوم معه وهو مذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا بالصوم . حجةُ الشافعي رضي الله عنه هذه الآية ، لأنه بغير الصوم عاكف ، والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة " . أقول : المشهور عند فقهاء الأحناف أنهم قسموا الاعتكاف إلى ثلاثة أقسام : 1 - مندوب : وهو يتحقق بمجرد النيّة ويكفي فيه ولو ساعة . 2 - وسنة وهو في العشر الأواخر في رمضان . 3 - وواجب : وهو المنذور ولا بدّ فيه من الصوم . والأدلة بالتفصيل تطلب من كتب الفروع . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الصيام شريعة الله لجميع الأمم فرضه الله على جميع المسلمين . 2 - الصوم مدرسة روحية لتهذيب النفس وتعويدها على الصبر . 3 - إختار الله شهر رمضان لفريضة الصيام لأنه شهر القرآن . 4 - أهل الأعذار رخص الله لهم في الإفطار رحمة من الله وتيسيراً . 5 - لا يجوز تعدي حدود الله ولا تجاوز أوامره ونواهيه لأنها لخير البشرية . خاتمة البحث : حكمة التشريع مما لا شك فيه أن الصوم له فوائد جليلة ، غفل عنها الجاهلون فرأوا فيه تجويعاً للنفس ، وإرهاقاً للجسد ، وكبتاً للحرية ، لا داعي له ولا مبرر ، لأنه تعذيب للبدن دون فائدة أو جدوى … وعرف سرّ حكمته العقلاء والعلماء فأدركوا بعض فوائد وأسراره ، وأيّدهم في ذلك الأطباء ، فرأوا في الصيام أعظم علاج ، وخير وقاية ، وأنجح دواء لكثير من الأمراض الجسدية ، التي لا ينفع فيها إلا الحمية الكاملة ، والانقطاع عن الطعام والشراب مدة من الزمان . ولسنا الآن بصدد معرفة ( الفوائد الصحية ) للصيام ، فإنّ ذلك مرجعه لأهل الاختصاص من الأطباء ، ولكننا بصدد التعرف على بعض الحكم الروحية التي هي الأساس لتشريع الصيام - فإن الله عز وجل ما شرع العبادات إلا ليربي في الإنسان ( ملكة التقوى ) وليعوده على الخضوع ، والعبودية ، والإذعان لأوامر الله العلي القدير . الأمر الأول : فالصيام عبودية لله ، وامتثال لأوامره ، واتقاء لحرماته ، ولهذا جاء في الحديث القدسي : " كل عمل آدم له إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " فشعور الإنسان بالعبودية لله عز وجل ، والاستسلام لأمره وحكمه ، وهو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها ، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 71 ] . الأمر الثاني : الأمر الثاني من حكمة مشروعية الصيام ، هي تربية النفس ، وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله ، فالصيام يربي قوة العزيمة وقوة الإرادة ، ويجعل الإنسان متحكماً في أهوائه ورغباته ، فلا يكون عبداً للجسد ، ولا أسيراً للشهوة ، وإنما يسير على هدي الشرع ، ونور البصيرة والعقل ، وشتّان بين إنسان تتحكّم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالحيوان لبطنه وشهوته ، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته ، فهو ملاك من الملائكة { وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [ محمد : 12 ] . الأمر الثالث : أن الصوم يربي في الإنسان ، ملكة الحب والعطف والحنان ، ويجعل منه إنساناً رقيق القلب ، طيّب النفس ، ويحرّك فيه كوامن الإيمان ، فليس الصيام حرماناً للإنسان عن الطعام والشراب ، بل هو تفجير للطاقة الروحية في نفس الإنسان ، ليشعر بشعور إخوانه ، ويُحسّ بإحساسهم ، فيمدّ إليهم يد المساعدة والعون ، ويمسح دموع البائسين ، ويزيل أحزان المنكوبين ، بما تجود به نفسه الخيّرة الكريمة التي هذّبها شهر الصيام ، ولقد قيل ليوسف الصدّيق عليه السلام : " لم تجوع وأنتَ على خزائن الأرض فقال : أخشى إن أنا شبعتُ أن أنسى الجائع " . الأمر الرابع : أن الصوم يهذّب النفس البشرية ، بما يغرسه فيها من خوف الله جل وعلا ، ومراقبته في السر والعلن ، ويجعل المرء تقياً نقياً يبتعد عن كل ما حرّم الله ، فالسر في الصوم هو الحصول على ( مرتبة التقوى ) والله تبارك وتعالى حين ذكر الحكمة من مشروعية الصيام قال : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ولم يقل ( لعلكم تتألمون ) أو ( لعلكم تجوعون ) أو ( لعلكم تصحّون ) والتقوى هي ثمرة الصيام التي يجنيها الصائم من هذه العبادة ، وهي إعداد نفس الصائم للوقوف عند حدود الله ، بترك شهواته الطبيعية المباحة ، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده ، وهذا هو سرّ الصيام وروحه ومقصده الأسمى ، الذي شرعه الله من أجله ، كما بينه في كتابه العزيز ، فللَّه ما أسمى الصيام ، وما أروع حكمة الله في شرعه العادل الحكيم ! !