Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 196-203)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 10 ] إتمام الحج والعمرة التحليل اللفظي { أُحْصِرْتُمْ } : الإحصار في اللغة معناه : المنع والحبس ، يقال : حَصَره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه قال الشاعر : @ وما هجرُ ليلى أن تكون تَباعدت عليك ولا أن أحصرتْكَ شُغُول @@ قال في " اللسان " : الإحصار أن يُحضر الحاج عن بلوغ المناسك بمرضٍ أو نحوه . قال الفراء : العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجه أو عمرته : قد أُحْصر ، وفي الحبس إذا حبسه سلطان ، أو قاهر مانع : قد حُصِر . وقال الأزهري وأبو عبيدة : حُصر الرجل في الحبس ، وأحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاع به . { ٱلْهَدْيُ } : الهديُ ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها ، وأصله هديٌّ مشدد فخفّف ، جمع هديّة قاله ابن قتيبة ، وقال القرطبي : وسميت هدياً لأن منها ما يهدى إلى بيت الله . { مَحِلَّهُ } : المحلّ بكسر الحاء الموضع الذي يحل به نحر الهدي وهو الحرم ، أو مكان الإحصار . { نُسُكٍ } : النّسك : جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى وأصل النسك العبادة ومنه قوله تعالى : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } [ البقرة : 128 ] أي متعبداتنا . { رَفَثَ } : الرفث : الإفحاش للمرأة بالكلام . وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه ، وأنشد أبو عبيدة : @ وربّ أسراب حجيجٍ كظّم عن اللغا ورفث التكلم @@ { فُسُوقَ } : الفسوق في اللغة : الخروج عن الشيء يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها ، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله عز وجل ، ومنه قوله تعالى في حق إبليس { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] والمراد في الآية جميع المعاصي . { جِدَالَ } : الجدال : الخصام والمراء ، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر . { ٱلزَّادِ } : ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره ، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة قال الأعشى : @ إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُقى ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزودّا ندمتَ على ألاّ تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا @@ { جُنَاحٌ } : الجناحُ : الحرج والإثم من الجنوح وهو الميل عن القصد وقد تقدم . { أَفَضْتُم } : أي اندفعتم يقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصبّ على نواحيه . قال الراغب : فاض الماء إذا سال منصباً ، والفيضُ : الماء الكثير ، ويقال غيضٌ من فيض ، أي قليل من كثير ، وقوله تعالى : { أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ } أي دفعتم منها بكثرة تشبيهاً بفيض الماء . وقال الزمخشري : أفضتم : دفعتم بكثرة ، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله أفضتم أنفسكم ، فتُرك ذكرُ المفعول . { عَرَفَٰتٍ } : اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج ، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها ، وهي اسم في لفظ الجمع ( كأذرعات ) فلا تجمع . قال الفراء : عرفات جمع لا واحد له ، وقول الناس : نزلنا عرفة شبيهٌ بمولّد . وليس بعربي محض . وقوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " هو اسم لليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم الوقوف بعرفات ، وليس اسماً للمكان كما صرح به الراغب . { ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام ، وسمي ( مَشْعراً ) لأنه مَعْلم للعبادة ، ووصف بالحرام لحرمته . { مَّنَاسِكَكُمْ } : المناسك جمع ( مَنْسَك ) الذي هو المصدر بمنزلة النسك ، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، وإن جعلتها جمع ( مَنْسَك ) الذي هو موضع العبادة كان التقدير : فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف . أفاده الفخر . { خَلاَقٍ } : أي نصيب وقد تقدم ، ومعنى الآية : ليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله . المعنى الإجمالي أمر الله المؤمنين بإتمام الحج والعمرة ، وأداء المناسك على الوجه الأكمل ابتغاء وجه الله ، فإذا مُنع المحرم من إتمام النسك بسبب عدوٍ أو مرض ، وأراد أن يتحلل فعليه أن يذبح ما تيسّر له من بدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، ونهى تعالى عن الحلق والتحلل قبل بلوغ الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه ، أمّا من كان مريضاً أو به أذى في رأسه فإنه يحلق وعليه فدية ، إمّا صيام ثلاثة أيام ، أو يذبح شاة ، أو يتصدق على ستة مساكين ، لكل مسكين فدية ، صاعٍ من طعام فمن اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها فعليه ما استيسر من الهدي شكر لله تعالى ، فمن لم يجد الهدي فعليه صيام عشرة أيام ، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه . ذلك التمتع خاص بغير أهل الحرم ، أما أهل الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي . ثم بيّن تعالى أشهر الحج وهي ( شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ) وأمر من ألزم نفسه الحج بالتجرد عن عاداته ، وعن التمتع بنعيم الدنيا ، لأنه مقبل على الله ، قاصد لرضاه ، فعليه أن يترك النساء والاستمتاع بهن ، وأن يترك المعاصي والنزاع والجدال مع الناس ، وأن يتزود من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله . ثم أبان تعالى أن الكسب في أيام الحج غير محظور ، وأن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية ، وقد كان الناس يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج ، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص ثم أمر تعالى الناس بعد الدفع من عرفات ، أن يذكروا الله عند المشعر الحرام ، بالدعاء والتكبير والتلبية ، وأن يشكروه على نعمة الإيمان ، فإذا فرغوا من مناسك الحج ، فليكثروا ذكر الله وليبالغوا فيه كما كانوا يفعلون بذكر آبائهم ومفاخرهم . روي عن ابن عباس أنه قال : " كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم ، يتفاخرون بمآثر آبائهم ، يقول الرجل منهم : كان أبي يُطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم فأنزل الله { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } . وجه الارتباط بالآيات السابقة ذكرت أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام ، لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام ، وأما آيات القتال السابقة فقد نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم ، والإحرام ، والمسجد الحرام ، ولما كان عليه السلام قد أراد العمرة وصدّه المشركون أول مرة بالحديبية ، وأراد القضاء في العام القابل ، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم أنزل الله أحكام القتال ، ثم عاد الكلام إلى إتمام أحكام الحج فهذا هو وجه الارتباط والله تعالى أعلم . سبب النزول أولاً : عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال : " حُملتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا ! ! أما تجد شاة ؟ قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك " فنزلت { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } قال فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة . ثانياً : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحو المتوكلون فيسألون الناس ، فأنزل الله تعالى { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } . ثالثاً : عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وسائر العرب يقفون بعرفات ، " فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها يفيض منها فذلك قوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } . وفي رواية كانوا يقولون : " نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ولا نفيض إلا من الحرم " . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور ( أو نُسُكٍ ) بضم النون والسين ، وقرأ الحسن ( أو نُسْكٍ ) بسكون السين . 2 - قرأ الجمهور ( فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج ) بالفتح في الجميع ، وقرأ أبو جعفر وابن كثير بالرفع في الجميع ( فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج ) . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } قال الزمخشري : رفع بالابتداء أي فعليه ما استيسر ، أو نصب على تقدير : فاهدوا ما استيسر . 2 - قوله تعالى : { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } ( الحج ) مبتدأ و ( أشهرٌ ) الخبر ، والتقدير : أشهر الحج أشهر معلومات كقولهم : البرد شهران أي وقت البرد شهران . أقول : إنما قدّر العلماء ذلك لأنه من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر . 3 - قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } ( لا ) نافية للجنس و ( رفث ) اسمها و ( في الحج ) الخبر و ( لا ) مكررة للتوكيد في المعنى وهو خبر يفيد النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا . 4 - قوله تعالى : { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ } الكاف نعت لمصدر محذوف و ( ما ) مصدرية والتقدير اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسنة ، ويجوز أن تكون الكاف بمعنى ( على ) والتقدير : اذكروا الله على ما هداكم ، وقوله تعالى { وَإِن كُنْتُمْ } إنْ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : الهديُ يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هديّة لأهل الحرم من غير سببٍ موجب ، وهذا ليس مراداً هنا ، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب موجب كترك واجب أو فعل شيء محظوراً ، أو كالإحصار والتمتع وهذا هو المراد في الآية الكريمة . اللطيفة الثانية : المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهراً بأداء المناسك على وجهها ، وباطناً بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة قال الشاعر : @ إذا حججتَ بمال أصله سُحُتٌ فما حججتَ ولكنْ حجّت العير لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ ما كلّ من حج بيت الله مبرور @@ اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } فيه مجاز بالحذف تقديره : فحلق ففدية من صيام ، فحذف " فحلق " اختصاراً ، فهو مثل قوله تعالى في آية الصيام { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] حذف كلمة ( فأفطر ) اختصاراً لدلالة اللفظ عليه . اللطيفة الرابعة : التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب فقوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } جاء على طريقهم في التوكيد ، مثل قوله : { وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُور } [ الحج : 46 ] وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقوله : { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] وفيه فائدة دفع التوهم إذ أن بعض العرب يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد ، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة ، فلئلا يتوهم السامع ذلك قال ( عشرة كاملة ) فتنبه له . اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } كانت قريش لا تخرج من الحرم وتقول : لسنا كسائر الناس ، نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفيضون منه فأمرهم الله أن يقفوا حيث يقف الناس ، ويفيضوا من حيث أفاض الناس ، أفاده ابن قتيبة . اللطيفة السادسة : من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار ، بذكر الحج ثلاث مرات في قوله تعالى : { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } فالمراد بالأول زمان الحج ، وبالثاني الحج نفسه المسمّى بالنسك ، وبالثالث ما يعم الزمان والمكان وهو ( الحرم ) ولو قال : فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه ، لم يؤدّ هذه المعاني كلها ، وجاء بصيغة النفي لأنه أبلغ في النهي . قال أبو السعود : " وإيثار النفي للمبالغة في النهي ، والدلالة على أن ذلك حقيق بألاّ يكون " . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل العمرة واجبة كالحج ؟ اختلف الفقهاء في حكم العمرة ، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها واجبة كالحج ، وهو مروي عن ( علي ) و ( ابن عمر ) و ( ابن عباس ) . وذهب المالكية والحنفية إلى أنها سنة ، وهو مروي عن ( ابن مسعود ) و ( جابر بن عبد الله ) . أدلة الشافعية والحنابلة : استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي : أولاً - قوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } فقد أمرت الآية بالإتمام وهو فعل الشيء والإتيان به كاملاً تاماً فدل على الوجوب . ثانياً - ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه " مَن كان معه هدي فليهلّ بحجة وعمرة " . ثالثاً - ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " . أدلة المالكية والحنفية : واستدل المالكية والحنفية على أن العمرة سنة بما يلي : أولاً : عدم ذكر العمرة في الآيات التي دلت على فريضة الحج مثل قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] وقوله جل ثناؤه : { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ … } [ الحج : 27 ] الآية . ثانياً : قالوا إن الأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة ، فدل ذلك على أن العمرة ليست بفريضة ، وأنها تختلف في الحكم عن الحج . ثالثاً : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحج جهادٌ والعمرة تطوع " . رابعاً : ما روي عن جابر بن عبد الله " أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : لا ، وأن تعتمروا خير لكم " . خامساً : وأجابوا عن الآية والأحاديث التي استدل بها الشافعية فقالوا : إنها محمولة على ما كان بعد الشروع ، فإن التعبير بالإتمام مشعر بأنه كان قد شرع فيه ، وهذا يجب بالاتفاق . قال العلامة الشوكاني : " وهذا وإن كان فيه بعد ، لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة ، ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب ، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها " . أقول : لعل هذا الرأي يكون أرجح والله تعالى أعلم . الحكم الثاني : هل الإحصار يشمل المرض والعدو ؟ اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار ، والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام . فذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو ، لأن الآية نزلت في إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة . وقال ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو . وذهب أبو حنيفة : إلى أن الإحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدوٍ ، أو مرضٍ ، أو خوفٍ ، أو ذهاب نفقة ، أو ضلال راحلةٍ ، أو موت محرم الزوجة في الطريق ، وغير ذلك من الأعذار المانعة . وحجته : ظاهر الآية { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } فإن الإحصار - كما يقول أهل اللغة - يكون بالمرض ، وأما الحصر ( المنع والحبس ) فيكون بالعدو ، فلما قال تعالى : { أُحْصِرْتُمْ } ولم يقل ( حصرتم ) دلّ على أنه أراد ما يعم المرض والعدو . واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلاً لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل . وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض ، ولو كان من المرض لقال : ( فإذا برأتم ) ولقول ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو ، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل . الترجيح : ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح ، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة ، والموافق ليسر الإسلام وسماحته ، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة ، فإنهم جميعاً متفقون على أن ( الإحصار ) يكون بالمرض ، و ( الحصر ) يكون بالعدو ، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير ، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك ! والشخص الذي تضل راحلته ، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر ، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زاداً ؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس ؟ ! وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله حيث قال ما نصه : " وأولى التأويلين بالصواب في قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } تأويل من تأوله بمعنى : فإن أحصركم خوف عدو ، أو مرض ، أو علة من الوصول إلى البيت ، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم . ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت ، لوجب أن يكون : فإن حصرتم " . أقول ويؤيده ما روي في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها قالت : " دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني " فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل ، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه . الحكم الثالث : ماذا يجب على المحصر ، وأين موضع ذبح الهدي ؟ الآية الكريمة صريحة في أن على ( المحصر ) أن يذبح الهدي لقوله تعالى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } وأقله شاة ، والأفضل بقرة أو بدنة ، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى : { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ } وهذا رأي جمهور الفقهاء ، وروي عن ابن عمر أنه قال : بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة ، والصحيح رأي الجمهور . وأما المكان : الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال : فقال الجمهور ( الشافعي ومالك وأحمد ) : هو موضع الحصر ، سواءً كان حلاً أو حرماً . وقال أبو حنيفة : لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] . وقال ابن عباس : إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه ، وإلاّ ينحره في محل إحصاره . قال الإمام الفخر : " ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية ، فقال الشافعي : المحِلّ في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل ، وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان " . الترجيح : والراجح رأي الجمهور اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم ، فدلّ على أن المحصر ينحر حيث يحل في حرمٍ أو حل ، وأما قوله تعالى : { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] فذلك - كما يقول الشوكاني - في الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت ، والله تعالى أعلم . الحكم الرابع : ما هو حكم المتمتع الذي لا يجد الهدي ؟ دل قوله تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } على وجوب دم الهدي على المتمتع ، فإذا لم يجد الدم - إما لعدم المال ، أو لعدم الحيوان - صام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله . وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام في قوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ … } الآية . فقال أبو حنيفة : المراد في أشهر الحج وهو ما بين الإحرامين ( إحرام العمرة ) و ( إحرام الحج ) فإذا انتهى من عمرته حلّ له الصيام وإن لم يحرم بعد بالحج ، والأفضل أن يصوم يوم التروية ، ويوم عرفة ، ويوماً قبلهما يعني ( السابع ، والثامن ، والتاسع ) من ذي الحجة . وقال الشافعي : لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى : { فِي ٱلْحَجِّ } ، وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر ، والأصح أنها لا تجوز يوم النحر ، ولا أيام التشريق ، والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة . ويرى بعض العلماء أن من لم يصم هذه الأيام قبل العيد ، فله أن يصومها في أيام التشريق ، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما " لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لا يجد الهدي " . ومنشأ الخلاف بين ( الحنفية ) و ( الشافعية ) هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى : { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } فالحنفية قالوا في أشهر الحج ، والشافعية قالوا : في إحرام الحج ، وبكلٍ قال بعض الصحابة والتابعين . وأما السبعة أيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها . فقال الشافعية : وقت صيامها الرجوع إلى الأهل والوطن لقوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } . وقال أحمد بن حنبل : يجزيه أن يصوم في الطريق ولا يشترط أن يصل إلى أهله ووطنه . وقال أبو حنيفة : المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب مالك رحمه الله . قال الشوكاني : والأول أرجح فقد ثبت في " الصحيح " من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله " . وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ ( وسبعةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم ) . الحكم الخامس : ما هي شروط وجوب دم التمتع ؟ قال العلماء : يشترط لوجوب دم التمتع خمسة شروط : الأول : تقديم العمرة على الحج ، فلو حج ثم اعتمر لا يكون متمتعاً . الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج . الثالث : أن يحج في تلك السنة لقوله تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } . الرابع : ألا يكون من أهل مكة لقوله تعالى : { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . الخامس : أن يحرم بالحج من مكة ، فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع . وقال المالكية : شروطه ثمانية وهي كالتالي ( 1 - أن يجمع بين الحج والعمرة 2 - في سفر واحد 3 - في عام واحد 4 - في أشهر الحج 5 - وأن تقدم العمرة على الحج 6 - وأن يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة 7 - وأن تكون العمرة والحج عن شخص واحد 8 - وألاَّ يكون من أهل مكة ) . الحكم السادس : من هم حاضرو المسجد الحرام ؟ دل قوله تعالى : { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } على أنّ أهل الحرم لا متعة لهم ، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة ، وقال ( مالك ، والشافعي ، وأحمد ) إن للمكي أن يتمتع بدون كراهة وليس عليه هدي ولا صيام ، واستدلوا بأن الإشارة تعود إلى أقرب المذكور ، وأقرب المذكور هنا وجوب الهدي أو الصيام على المتمتع ، وأما أبو حنيفة فقد أعاد الإشارة إلى التمتع ، والتقدير : ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . وقد اختلفوا في المراد من قوله تعالى : { حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . فقال مالك : هم أهل مكة بعينها ، واختاره الطحاوي ورجحه . وقال ابن عباس : هم أهل الحرم ، قال الحافظ : وهو الظاهر . وقال الشافعي : من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة ، واختاره ابن جرير . وقال أبو حنيفة : هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية . أقول : لعل ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح والله تعالى أعلم . الحكم السابع : ما هي أشهر الحج ؟ واختلف العلماء في المراد من قوله تعالى : { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } ما هي هذه الأشهر ؟ فذهب مالك : إلى أن أشهر الحج ( شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة كلّه ) وهو قول ( ابن عمر ) و ( ابن مسعود ) و ( عطاء ) و ( مجاهد ) . وذهب الجمهور ( مالك ، والشافعي ، وأحمد ) : إلى أن أشهر الحج ( شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ) وهو قول ابن عباس ، والسدي ، والشعبي ، والنخعي ، وأما وقت العمرة فجميع السنة . قال الشوكاني : " وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر ، فمن قال : إنّ ذا الحجة كله من الوقت لم يُلْزمه دم التأخير ، ومن قال : ليس إلا العشر منه قال : يلزم دم التأخير " . الحكم الثامن : هل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ؟ اختلف الفقهاء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج هل يصح إحرامه ؟ على أقوال : الأول : روي عن ابن عباس أنه قال : من سُنّة الحج أن يحرم به في أشهر الحج . الثاني : فذهب الشافعي أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجرُّه ذلك ويكون عمرة ، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة . الثالث : مذهب أحمد بن حنبل أنه مكروه فقط ويجوز الإحرام قبل دخول أشهر الحج . الرابع : مذهب أبي حنيفة جواز الإحرام في الحج في جميع السنة كلها وهو مشهور مذهب مالك ، واستدلوا بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] وقالوا : كما يصح الإحرام للعمرة في جميع السنة ، كذلك يجوز للحج . قال العلامة القرطبي : " وما ذهب إليه الشافعي أصح لأن هذه عامة وتلك الآية خاصة والخاص يقدم على العام " وقد مال إلى هذا المذهب الشوكاني ورجحه لأنه موافق لظاهر النص الكريم . الحكم التاسع : ما هي محرمات الإحرام ؟ حظر الشارع على المحرم أشياء كثيرة ، منها ما ثبت بالكتاب ، ومنها ما ثبت بالسنة ، ونحن نذكرها بالإجمال فيما يلي : أولاً : الجماع ودواعيه ، كالتقبيل ، واللمس بشهوة ، والإفحاش بالكلام ، والحديث مع المرأة الذي يتعلق بالوطء أو مقدماته . ثانياً : اكتساب السيئات ، واقتراف المعاصي ، التي تخرج الإنسان عن طاعة الله عز وجل . ثالثاً : المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم . والأصل في تحريم هذه الأشياء قوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } وهذه كلها بنص الآية الكريمة . روى البخاري في " صحيحه " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حجّ فلم يرفث ، ولم يفسق ، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . وقد ثبت بالسنة بعض المحرمات كالتطيب ، ولبس المخيط ، وتقليم الأظافر ، وقص الشعر أو حلقه ، وانتقاب المرأة ، ولبسها القفازين … إلى أخر ما هنالك من محرمات وهذه تعرف من كتب الفروع . الحكم العاشر : ما هو حكم الوقوف بعرفة ، ومتى يبتدئ وقته ؟ أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك " . ويرى جمهور العلماء أن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع ، إلى طلوع فجر اليوم العاشر ، وأنه يكفي الوقوف في أي جزءٍ من هذا الوقت ليلاً أو نهاراً ، إلا أنه إذا وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب ، أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شيء . وقد روي عن الإمام ( مالك ) رحمه الله أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس لم يصح حجه وعليه حج قابل ، قال القرطبي : " واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه ؟ فقال ( الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ) عليه دم ، وقال ( مالك ) عليه حج قابل ، والهدي ينحره في حج قابل وهو كمن فاته الحج .