Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 22-26)

Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ 4 ] في أعقاب حادثة الإفك التحليل اللفظي { يَأْتَلِ } : أي يحلف من ( الأليّة ) بمعنى الحلف ، ووزنها ( يَفْتَعِلْ ) ومنه قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ البقرة : 226 ] وقال بعضهم : معناه يقصّر من قولك : ألَوْتُ في كذا إذا قصّرت فيه ومنه قوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] . قال الزمخشري : ( يأتل ) من ائتلى إذا حلف : افتعال من الأليّة ، وقيل : من قولهم : ما ألوت جهداً ، إذا لم تدّخر منه شيئاً ، ويشهد للأول قراءة الحسن : ولا يتألَّ والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان . { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ } : أصحاب الصلاح والدين ، ومعنى الفضل الزيادة والمراد هنا أهل البر والدين والصلاح . { وَٱلسَّعَةِ } : المراد بها السعة في الرزق والمال ، الذين وسّع الله عليهم وأغناهم من فضله ، قال الشاعر : @ ومن يك ذا مال فيبخل بفضله على غيره يستغنى عنه ويذمم @@ { أَن يُؤْتُوۤاْ } قال ابن قتيبة معناه : أن لا يؤتوا ، وقال القرطبي قوله تعالى : { أَن يُؤْتُوۤاْ } أي ألاّ يؤتوا فحذف ( لا ) كقول القائل : @ فقلتُ يمينُ اللَّه أبرحُ قاعداً ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي @@ أقول : هذا الحذف وارد في كلام العرب ومثله قوله تعالى : { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي لئلا تضلّوا أو خشية أن تضلوا . { وَلْيَعْفُواْ } : أي يغفروا الزلات ، من عفا الربع إذا محي أثره ودرس ، فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع . { ٱلْمُحْصَنَاتِ } : العفائف الشريفات الطاهرات ، وقد تقدم معنى الإحصان فيما سبق . { ٱلْغَافِلاَتِ } : جمع غافلة وهي التي غفلت عن الفاحشة ، بحيث لا تخطر ببالها ، وقيل : هي السليمة الصدر ، النقية القلب ، التي ليس فيها دهاء ولا مكر ، لأنها لم تجرب الأمور ، ولم تزن الأحوال ، فلا تفطن لما تفطن له المجرِّبة العارفة . { لُعِنُواْ } : اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل { وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [ النساء : 52 ] وقد يراد به الذكر السَّيِّئ أو الحد ( الجلد ) كما في هذه الآية حيث أقيم عليهم حد القذف . { تَشْهَدُ } : تقر وتعترف ، وشهادة الألسنة إقرارها بما تكلموا به من الفرية ، وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم . وقال ابن جرير : المعنى أنّ ألسنة بعضهم تشهد على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان . { يُوَفِّيهِمُ } : التوفية إعطاء الشيء وافياً ، يقال : تَوفّى حقه إذا أخذه كاملاً غير منقوص . { دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } : أي حسابهم العدل ، أو جزاءهم الواجب ، والدين في اللغة بمعنى الجزاء ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " إعمل ما شئت كما تدين تدان " أي كما تفعل تجزى . { ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ } : المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، وهو جمع خبيثة وخبيث ، والخبيثُ الذي يعمل الفواحش والمنكرات سمّى خبيثاً لخبث باطنه وسوء عمله قال تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ ٱلْخَبَائِثَ } [ الأنبياء : 74 ] وذهب جمهور المفسّرين إلى أن معنى الآية : الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال . والخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول … قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية واختاره ابن جرير الطبري . { مُبَرَّءُونَ } : أي منزّهون مما رُمُوا به ، والمراد بالآية براءة الصدّيقة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان ، وجاء بصيغة الجمع للتعظيم . { مَّغْفِرَةٌ } : أي محو وغفران للذنب ، والبشر جميعاً معرضون للخطأ وقيل في الآية إنه من باب : ( حسناتُ الأبرار سيئات المقربين ) . { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } : قال الألوسي : هو الجنة كما قال أكثر المفسرين . ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [ الأحزاب : 31 ] فإن المراد به الجنة . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا يحلف أهل الفضل والصلاح والدين . الذين وسّع الله عليهم في الرزق وأغناهم من فضله ، على ألا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كانوا يعطونهم إياه من الإحسان لجرم ارتكبوه ، أو ذنب فعلوه . وليعفوا عما كان منهم من جرم ، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة . وليعودوا إلى مثل ما كانوا عليه من الإفضال والإحسان ، ألا تحبون أيها المؤمنون أن يكفر الله عنكم سيئاتكم ، ويغفر لكم ذنوبكم ، ويدخلكم الجنة مع الأبرار ! ! ثم أخبر تعالى بأن الذين يرمون المؤمنات العفيفات الطاهرات بالزنى ، ويقذفونهن بالفاحشة ، وهنّ الغافلات عن مثل هذا الافتراء والبهتان … هؤلاء الذين يتهمون الحرائر العفيفات الشريفات ، قد لعنهم الله بسبب هذا البهتان . فطردهم من رحمته ، وأوجب لهم العذاب الأليم ، الجلد في الدنيا ، وعذاب جهنم في الآخرة ، بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة في حق أولئك المؤمنات … وليس هذا فحسب بل سوف تنطق عليهم جوارحهم ، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، في ذلك اليوم الرهيب . بما كانوا يفعلونه من الإفك والبهتان ، وستكون فضيحتهم عظيمة ، عندما ينكشف أمرهم على رؤوس الأشهاد ، وينالون جزاءهم العادل من أحكم الحاكمين ، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة ويعلمون في ذلك اليوم أن الله عادل ، لا يظلم أحداً من خلقه ؛ لأنه هو الحق المبين ، الذي يكشف لكل إنسان كتاب أعماله ، ويجازيه عليها الجزاء العادل . ثمّ أخبر تعالى ببراءة السيدة عائشة الصدّيقة أم المؤمنين رضوان الله عليها ، مما رماها به أهل الضلال والنفاق ، وتقوّلوا به عليها من الفاحشة ، وأتى بالبرهان الساطع ، والدليل القاطع ، على عصمتها ونزاهتها وبراءتها ، فهي زوج رسول الله الطاهرة الشريفة ، ورسول الله طيّب طاهر . وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه ، فالخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء . والطيبات من النساء للطّيبين من الرجال ، والطّيبون من الرجال للطيبات من النساء ، أولئك المتهمات في أعراضهن ، بريئات من تلك التهمة الشنيعة ، كيف لا وهنَّ أزواج أشرف رسول ، وأكرم مخلوق على الله ، وما كان الله ليقسمهنَّ لأحب عباده إليه إن لم يكنَّ طاهرات النفس { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ! ! سبب النزول 1 - روى ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لما نزل قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } [ النور : 11 ] الآية في عائشة وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر : - وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً ، ولا أنفعه بنفع أبداً ، بعد الذي قال لعائشة ما قال ، وأدخل عليها ما أدخل ، قالت فأنزل الله في ذلك : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ … } الآية قالت : فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجّع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : " والله لا أنزعها منه أبداً " 2 - وأخرج ابن المنذر عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان مسطح بن أثاثة ) ممن تولى كِبْرَه من أهل الإفك ، وكان قريباً لأبي بكر ، وكان في عياله ، فحلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ } الآية قالت : فأعاده أبو بكر إلى عياله ، وقال : لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها ، إلاّ تحلّلتها وأتيت الذي هو خير . وفي رواية أخرى أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر فتلاها عليه ، فقال : ألا تحب أن يغفر الله لك ؟ قال : بلى ، قال : فاعف عنه وتجاوز ، فقال أبو بكر : لا جرم والله لا أمنعه معروفاً كنت أوليه قبل اليوم ، وضعّف له بعد ذلك فكان يعطيه ضِعْفي ما كان يعطيه . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور ( وَلاَ يَأْتَلِ ) على وزن ( يفتعِل ) وقرأ الحسن وأبو العالية ( ولا يتألّ ) بهمزة مفتوحة مع تشديد اللام على وزن ( يتعَلَّ ) وهو مضارع تألى بمعنى حلف قال الشاعر : @ تألّى ابن أوس حِلفةً ليردّني إلى نسوة لي كأنهن مقائد @@ وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل . وليس كما قال أبو عبيدة إنه من ( الألْو ) بوزن الدلو بمعنى لا يقصّر ، واستشهد بقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] فإنّ سبب النزول يؤيد الرأي الأول . 2 - قرأ الجمهور ( أَن يُؤْتُوۤاْ ) وقرأ أبو حيوة ( أن تُؤتوا ) بتاء الخطاب على طريق الالتفات . 3 - قوله : { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ } قراءة الجمهور بالياء ، وقرأ الحسن ، وسفيان بن الحسين ( ولتَعْفوا ولتَصْفحوا ) بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } . 4 - قرأ الجمهور ( يوم تشهد ) بالتاء ، وقرأ حمزة والكسائي ( يوم يشهد ) بالياء بدل التاء ، قال الألوسي : ووجهه ظاهر . 5 - قرأ الجمهور ( دينَهم الحقّ ) بالفتح على أنه صفة للدّين بمعنى حسابهم العدل ، وقرأ مجاهد والأعمش ( دينَهم الحقُّ ) برفع القاف على أنه صفة للاسم الجليل . ( ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته ) ويصبح المعنى : يومئذ يوفيهم اللَّهُ الحقّ دينهم . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ … } الآية هذه شهادة عظيمة من الله سبحانه بفضل أبي بكر ، وأنه أفضل الصحابة . قال الفخر الرازي : أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى : { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ } أبو بكر رضي الله عنه ، وهذه الآية تدل على أنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز . فتعيّن أن يكون المراد منه الفضل في الدين . ولأنه لو أريد به الفضل في الدنيا لكان قوله ( والسعة ) تكريراً . فلما أثبت الله له الفضل المطلق وجب أن يكون أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال أبو السعود : قوله تعالى : { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ } أي في الدين ، وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله تعالى عنه . اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { أَن يُؤْتُوۤاْ } فيه حذف بالإيجاز ، فقد حذفت منه ( لا ) لدلالة المعنى على ذلك ، أي على أن لا يؤتوا . قال الزجّاج ، إنّ ( لا ) تحذف في اليمين كثيراً قال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } [ البقرة : 224 ] يعني أن لا تبروا . وقال امرؤ القيس : " فقلت يمين الله أبرح قاعداً " أي لا أبرح . اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } هذا خطاب بصيغة الجمع ، والمراد به أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وورد الخطاب بهذه الصيغة للتعظيم كقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ } [ الحجر : 9 ] . قال الإمام الفخر رحمه الله : " فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه " وحين سمعها أبو بكر قال : بلى أحب أن يغفر الله لي . وأعاد النفقة إلى مسطح . اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } قال العلامة ابن الجوزي : فإن قيل : لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال ؟ فالجواب أنّ من رمى مؤمنة فلا بدّ أن يرمي معها مؤمناً ، فاستغني عن ذكر المؤمنين . ومثله قوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أراد : والبرد ، قاله الزجاج . اللطيفة الخامسة : ذكر الله تعالى في أول السورة المحصنات بقوله : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [ النور : 4 ] ولم يقيّد المحصنات هناك بوصفٍ وأما هنا فقد قيّده بأوصاف عديدة بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ } والسرُّ في هذا أن هذه الآيات خاصة بأمهات المؤمنين ، رضوان الله عليهن أجمعين ، وتدخل السيدة عائشة فيهن دخولاً أولياً ، فاتهام هؤلاء الأزواج الطاهرات إتهام لـ ( بيت النبوّة ) ، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ، حين قرأ سورة النور ففسّرها فلما أتى على هذه الآية { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ } قال : هذه في ( عائشة ) وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة ، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات ، من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة ، ثم تلا هذه الآية { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فهمّ بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبّل رأسه لحسن ما فسّره . اللطيفة السادسة : أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ } إلى مبدأ هام من مبادئ الحياة الاجتماعية ، وهو أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع النفوس الخبيثة من مثلها ، والنفوس الطيبة لا تمتزج إلا بالنفوس الطيبة من مثلها ، وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين ، وأفضل الأولين والآخرين ، تبيّن أنّ الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب النساء بالضرورة ، وأنّ ما قيل في حقها كذب وبهتان كما نطق بذلك القرآن { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } ويا لها من شهادة قاطعة ! ! قال أبو السعود : " هذا مسوق على قاعدة السنّة الإلٰهية ، الجارية فيما بين الخلق ، على موجب أنّ لله ملكاً يسوق الأهل إلى الأهل ، لأن المجانسة من دواعي الانضمام … وما في الإشارة من معنى البعد ( أولئك ) للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم ، وبعد منزلتهم في الفضل ، أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن ، مبرءون مما تقوّله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة " . اللطيفة السابعة : قال الزمخشري في تفسيره " الكشاف " : " لقد برَأ الله تعالى أربعة بأربعة : برّأ يوسف بلسان الشاهد { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [ يوسف : 26 ] . وبرّأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه … وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [ مريم : 30 ] . وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز ، المتلوّ على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد آدم ، وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين ، ومن أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم ، وتقدّم قدمه ، وإحرازه قَصَب السبق دون كل سابق ، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك ، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه " . خصائص السيدة عائشة رضي الله عنها عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " لقد أُعطِيتُ تسعاً ما أعطيتهنّ امرأة : لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ، ولقد تزوجني بكراً وما تزوّج بكراً غيري . ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي . ولقد حفّته الملائكة في بيتي . وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه ، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وإني لابنة خليفته وصديقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خُلقت طيّبة عند طيّب . ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً " . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل يحبط العمل الصالح بارتكاب المعاصي ؟ أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى : { أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } مِسْطَح ، لأنه كان قريباً لأبي بكر ، وكان من المساكين ، والمهاجرين البدريّين ، وكان قد وقع في حديث الإفك ، وقذف عائشة ثم تاب بعد ذلك ، ولا شك أن القذف من الذنوب الكبائر ، وقد احتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية الكريمة على عدم بطلان العمل بارتكاب الذنوب والمعاصي ، ووجه الاستدلال أن الله سبحانه وصف ( مسطحاً ) بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف ، وهذه صفة مدح ، فدلّ على أنّ ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف . وقالوا : لا يحبط العمل إلا بالإشراك ، والردة عن الإسلام والعياذ بالله ، أما سائر المعاصي فلا تُحبِط العمل إلا إذا استحل الإنسان المحرّم فحينئذٍ يرتد وبالردة يحبط العمل قال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ المائدة : 5 ] وقال تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ … } [ البقرة : 217 ] الآية . الحكم الثاني : هل العفو عن المسيء واجب على الإنسان ؟ اتفق الفقهاء على أنّ العفو والصفح عن المسيء حسن ومندوب إليه ، لقوله تعالى : { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ } والأمر هنا للندب والإرشاد ، وليس للوجوب ، لأن الإنسان يجوز له أن يقتص ممّن أساء إليه ، فلو كان العفو واجباً لما جاز طلب القصاص ، ومما يدل لرأي الفقهاء قوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } [ الشورى : 40 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ، ويعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه " فيندب العفو عن المسيء لقوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } ؟ فعلّق الغفران بالعفو والصفح ، قال الإمام الفخر : ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفى . الحكم الثالث : هل تجب الكفارة على من حنث في يمينه ؟ ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيراً منها ، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ، ثمّ يكفّر عن يمينه لقوله عليه السلام : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه " . فتجب الكفارة بالحنث في اليمين ، سواء كان الحانث في أمر فيه خير أو غير ذلك . وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير وليس عليه كفارة ليمينه ، واستدلوا بظاهر هذه الآية { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ } ووجه استدلالهم أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة . واستدلوا كذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته " . أدلة الجمهور : استدل الجمهور على وجوب الكفارة على الحانث بما يلي : أ - قوله تعالى : { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] الآية . ب - وقوله تعالى : { ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [ المائدة : 89 ] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره . جـ - وقوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ صۤ : 44 ] والحنث كان خيراً من تركه ، وأمره الله بضرب لا يبلغ منها ، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها ، بل كان يحنث بلا كفارة . د - وبحديث " فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه " وقد تقدم . قال الجصاص : " أما استدلالهم بالآية فليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة ، لأن الله قد بيّن إيجاب الكفارة في قوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وقوله : { ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } [ المائدة : 89 ] وذلك عام فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره ، وأما استدلالهم بالحديث " فليأت الذي هو خير وذلك كفارته " فإن معناه تكفير الذنب . لا الكفارة المذكورة في الكتاب ، وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث والتوبة ، وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف " . وقال ابن العربي : عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون ، هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح ، ثم رجَّع إليه نفقته ، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأن أبا بكر لم يكفّر حتى يتكلم بهذا الهزء . الترجيح : ومن استعراض الأدلة يتبيّن لنا قوة رأي الجمهور في وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً وضعف رأي غيرهم والله أعلم . الحكم الرابع : هل تنعقد اليمين في الامتناع عن فعل الخير ؟ تنعقد اليمين إذا حلف الإنسان أن يمتنع عن فعل الخير وتجب عليه الكفارة عند الجمهور كما أسلفنا ، ولكنّ هذا النوع من الحلف غير جائز لما فيه من ترك الطاعة لله عز وجل في قوله : { وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } [ الحج : 77 ] . قال الفخر الرازي : " في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة ، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير ، لا صارفة عنه " . وقال الألوسي : " وظاهر هذا حمل النهي على التحريم ، وقيل : هو للكراهة ، وقيل : إن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراماً ، وقد يكون مكروهاً ، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقاً " . الحكم الخامس : هل يكفر من قذف إحدى أمهات المؤمنين ؟ ذهب بعض العلماء إلى كفر من قذف إحدى نساء الرسول ( أمهات المؤمنين ) رضوان الله عليهن ، وذلك لما ورد من الوعيد الشديد في حق قاذفهن كما قال تعالى : { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } حتى ذهب ابن عباس إلى عدم قبول توبته . وحجة هؤلاء أن قذف أمهات المؤمنين ، طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرح لكرامته ومن استباح الطعن في عرض الرسول فهو كافر مرتد عن الإسلام . قال العلامة الألوسي رحمه الله : " وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجلّ رتّب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين ، والذي ينبغي أن يعوَّلَ الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين ، بعد نزول الآيات ، وتبيّن أنهن طيبات ، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد ، وأمّا من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقاً غير ظاهر . والظاهر أن يحكم بكفره إن كان مستبيحاً ، أو قاصداً الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أُبيّ لعنه الله تعالى ، فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسّان . ومِسطَح ، وحمنة ، فإنّ الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ، ولا قاصدين الطعن بسيّد المرسلين ، وإنما قالوا ما قالوا تقليداً ، فوبخوا على ذلك توبيخاً شديداً " . أقول : إنّ من استحلّ قذف إحدى المؤمنات كافر ، فكيف بمن يستحل قذف أمهات المؤمنين الطاهرات وعلى رأسهن الصدّيقة عائشة التي برأها القرآن الكريم ، ونزلت براءتها من السماء ؟ ولا شك أن الخوض في أمهات المؤمنين بعد نزول القرآن الكريم ، تكذيب لله عز وجل في إخباره ، وطعن لرسول الله وإيذاء له في نسائه وهنّ العفيفات ، الطاهرات ، الشريفات ، فيكون قاذفهن كافراً بلا تردد . والله تعالى يقول : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [ الأحزاب : 57 ] . الحكم السادس : هل يجوز لعن الفاسق أو الكافر ؟ دلّ قوله تعالى : { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } على جواز لعن الفاسق أو الكافر ، وقد اتفق الفقهاء على جواز لعن من مات على الكفر كأبي جهل وأبي لهب ، وعلى جواز التعميم باللعنة على الكفرة والفسقة والظالمين كقوله : لعنة الله على الظالمين ، أو لعنة الله على الفاسقين ، أو الكافرين … أما إذا خصّص باللعنة إنساناً معيّناً فلا يجوز حتى ولو كان كافراً ، لأن معنى اللعنة : الطرد من رحمة الله . والدعاء عليه بأن يموت على الكفر ، ولا يجوز لمسلم أن يتمنى موت غيره على الكفر ، لأن الرضى بكفر الكافر كفر ، والمسلم يريد الخير للناس ، ويتمنى أن يموتوا على الإيمان جميعاً . قال الألوسي : " واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين ، تحقّق موته على الكفر ، إن لم يتضمن إيذاء مسلم ، أما إن تضمّن ذلك حرم ، ومن الحرام لعن ( أبي طالب ) على القول بموته كافراً ، بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه ، ثمّ أن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمّن مصلحةً شرعية ، وأما لعن كافر معيّن حي ، فالمشهور أنه حرام ، ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر ، لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة ، وسؤالُ ذلك كفر " . وقال العلامة ابن حجر : " ينبغي أن يقال : إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر ، أو أطلق لم يكفر ، وإن أراد سؤال بقائه على الكفر ، أو الرضى ببقائه عليه كفر ، فتدبر ذلك حق التدبر " . أقول : وردت نصوص في السنة المطهّرة تدل على جواز لعن الفاسق المعين ، أو العاصي المشتهر الذي كثر ضرره ، منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بحمارٍ وُسِمَ في وجهه فقال : " لعن الله من فعل هذا " . ومنها ما صح أنه صلى الله عليه وسلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال : " اللهم العن رَعْلاً ، وذَكوان ، وعُصيّة ، عصَوا الله تعالى ورسوله " . ومنها حديث " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء ، فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح " . فيجوز لعن من اشتهر بالفسق والمعصية ، وخاصة إذا كان ضرره بيناً أو أذاه واضحاً يتعدى إلى الناس ، أو كان سيفاً للحجاج مسلطاً بالظلم والطغيان ، كزبانية هذا الزمان ، الذين يعتدون على عباد الله بدون حق ، وقد أصبحنا في زمان لا يأمن فيه الإنسان على نفسه أو ماله وإنا لله وإنّا إليه راجعون ، وقد حدّث المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى عن مثل هذا الصنف من الظلمة ، وذلك من معجزات النبوة ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس " . الحديث . فيجوز لعن مثل هؤلاء الظلمة ، المستبيحين للحرمات … والدعاء لهم بالصلاح أفضل من اللّعن ولكن هيهات أن ينفع الدعاء بالصلاح لأمثال ( أبي جهل ) و ( أبي لهب ) ! ! وقد قال ( السراج البلقيني ) بجواز لعن العاصي المعيّن ، أو الفاسق المستهتر ، وذلك ما دلت عليه النصوص النبوية الكريمة والله أعلم . الحكم السابع : هل يقطع لأمهات المؤمنين بدخول الجنة ؟ اتفق العلماء على أن العشرة المبشرين بالجنة ، الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة ، يقطع لهم بدخول الجنة ، لأنّ خبر الرسول حق وهو بوحي من الله تعالى ، وقد ألحق بعض العلماء أمهات المؤمنين بالعشرة المبشرين ، بأنه يقطع لهن بدخول الجنة ، واستدلوا بقوله تعالى : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بناءً على أن الآيات الكريمة نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عامة وفي شأن عائشة خاصة ، والرزق الكريم الذي أشارت إليه الآية يراد منه الجنة بدليل قوله تعالى في مكان آخر { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [ الأحزاب : 31 ] وهو استدلال حسن . قال الإمام الفخر : " بيّن الله تعالى أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول صلى الله عليه وسلم فأزواجه إذن لا يجوز أن يكنّ إلاّ طيبات . ثمّ بيّن تعالى أنّ { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ويحتمل أن يكون ذلك خبراً مقطوعاً به . فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هنّ معه في الجنة ، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنّة ، بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفّرونها بسبب حرب يوم الجمل ، فإنهم يردّون بذلك نصّ القرآن الكريم " . وقال العلامة الألوسي : " وممّا يرد زعم الرافضة ، القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل ، قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله وجهه مع الحسن يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة : والله إني لأعلم أنها زوجة نبيّكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة . ولكن الله تعالى ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها " ؟ ثم قال : " ومما يقضي منه العجب ما رأيته في كتب بعض الشيعة . من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأمير كرّم الله وجهه : " قد أذنت لك أن تُخْرج بعد وفاتي من الزوجيّة من شئت من أزواجي " ، فأخرجها من ذلك لما صدر منها معه ما صدر . ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى ، وفي حسن معاملة الأمير إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر ما يكذب ذلك . ولو لم يكن في فضلها إلا ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " لكفى ذلك ، لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها " . قصة الإفك لم تسترح نفوس المنافقين من الكيد للإسلام ، والدسّ على المسلمين ، حتى استهدفوا صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فرموه في أقدس شيء وأعزه ، في عرضه المصون ، وأهله الطاهرة البريئة ، السيدة عائشة بنت الصدّيق الأكبر رضي الله عنهما ، وقد حاولوا بذلك أن يوجهوا ضربة للإسلام في الصميم ، في شخص نبيه الكريم ، عن طريق الطعن في عرضه واتهام أهله بارتكابها فاحشة الزنى التي هي من أقبح الجرائم وأشنعها على الإطلاق ، وكان الذي تولى كبر هذه التهمة النكراء ، وأشاع ذلك الإفك المفتري المزعوم . رأس المنافقين ( عبد الله بن أُبيّ بن سلول ) لعنه الله ، الذي ما فتئ يكيد للإسلام ولرسوله الكريم حتى أهلكه الله تعالى ، وخلّص المسلمين من شره وبلائه . وقد أنزل الله تبارك وتعالى في شأن هذا المنافق وغيره من المنافقين قرآناً يُتلى ، وآيات تسطّر ، ليكون ذلك درساً وعبرة للأمة ، لتعرف فيه خطر ( النفاق والمنافقين ) وضررهم على الأمة الإسلامية ، فيأخذوا الحيطة والحذر . والقرآن الكريم يكشف لنا عن شناعة الجرم وبشاعته ، وهو يتناول بيت النبوّة الطاهر ، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم إنسان على الله ، وعرض صديقه الأول ( أبي بكر ) رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض رجل من خيرة الصحابة ( صفوان بن المعطل ) رضي الله عنه ، يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعرف عليه إلا خيراً … ذلك هو حديث الإفك الذي نزل فيه عشر آيات في كتاب الله تعالى ، تبتدئ من قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] وتنتهي بالبراءة التامة لبيت النبوة في قوله تعالى : { ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَٰتِ أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . هذا الحادث - حادث الإفك - قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق . وكلّف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ، وزرع في بعض النفوس الشك والريبة والقلق ، وعلّق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلب زوجه عائشة التي يحبها ، وقلب أبي بكر الصديق ، وقلب صفوان بن المعطل شهراً كاملاً . وجعلها في حالة من الألم الذي لا يطاق ، حتى نزل القرآن ببراءة زوج الرسول ، الطاهرة العفيفة الشريفة ، وببراءة ذلك المؤمن المجاهد المناضل ( صفوان ) وإدانة أهل النفاق ، وحزب الضلال وعلى رأسهم ( عبد الله بن أبي بن سلول ) بالتآمر على بيت النبوة ، وترويج الدعايات المغرضة ضد صاحب الرسالة عليه السلام ، واختلاق الإفك والبهتان ضد المحصنات الغافلات المؤمنات ، في تلك الحادثة المفجعة الأليمة . ومن المؤسف أن يغترّ بهذه التهمة النكراء بعض المسلمين ، وأن يتناقلها السذّج البسطاء منهم ، وهم في غفلة عن مكائد المنافقين ، ومؤامراتهم ومخططاتهم ، التي يستهدفون بها الإسلام . وأن تروج أمثال هذه الفرية المكذوبة ، فيقع في حبائل هذا الإفك والبهتان ، أناس مؤمنون مشهورون بالتقى والصلاح . كأمثال ( مسطح بن أثاثة ) و ( حسّان بن ثابت ) و ( حمنة بنت جحش ) أخت السيدة زينب زوج الرسول الكريم ، فلنترك المجال لأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها ، تروي لنا قصة هذا الألم ، وتكشف عن سرّ هذه الآيات الكريمة التي نزلت بشأنها ، وما افتراه عليها أهل الإفك والبهتان . قصة الإفك كما في " الصحيحين " روى الإمام البخاري ومسلم في " صحيحيهما " عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه . وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي . فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودج وأُنْزَل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظِفَار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم . وإنما نأكل العُلْقَة من الطعام . فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فحملوه وكنت جارية حديثة السن . فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش . فجئت منزلهم وليس فيه أحد منهم . فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ . فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت ، وكان ( صفوان بن المعطل السُّلَمي ) ثم الذكواني قد عرّس وراء الجيش فادّلج فأصبح عندي منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني - وكان يراني قبل الحجاب - فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يديها فركبها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُعَرِّسين ، قالت : فهلك في شأني من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإثم ( عبد الله بن أبيّ بن سلول ) فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلّم ثم يقول : " كيف تيكم ؟ " ثم ينصرف ، فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر حتى نقهت . فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل . وذلك قبل أن نتخذ الكُنُف ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق - وابنها ( مسطح بن أثاثة ) حتى فرغنا من شأننا نمشي ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت يا هنتاه : ألم تسمعي ما قال ؟ فقلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضاً إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كيف تيكم ؟ " فقلت : ائذن لي أن آتي أبوي - وأنا حينئذٍ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي ، فأتيت أبويّ فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت يا بنيّة : هوّني على نفسك الشأن ، فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة ، عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها ، فقلت : سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي … فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم من الودّ لهم ، فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم والله إلا خيراً . وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله : لم يضيّق الله عليك ، والنساءُ سواها كثير ، وسل الجارية تخبرك ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها : " أي بريرة : هل رأيت فيها شيئاً يريبك ؟ " فقالت : لا والذي بعثك بالحق نبياً ، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه واستعذر من ( عبد الله بن أبي بن سلول ) فقال وهو على المنبر : " من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي ؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً … ولقد ذكروا لي رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " . قالت : فقام ( سعد بن معاذ ) فقال يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك ! فقام ( سعد بن عبادة ) وهو سيّد الخزرج - وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ : كذبتَ لعمرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام ( أُسَيْد بن حُضَيْر ) وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيّان ( الأوس ) و ( الخزرج ) حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ونزل . وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي ، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها . فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس - ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها ، وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء - فتشهّد حين جلس ثم قال : " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب ، فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه بقطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ! ! قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ! ! قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن ، فقلت : إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدّث الناس به ، واستقرَّ في نفوسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ ، واللَّهُ يعلم أني منه بريئة لتصدقُنَّني ، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ أبا يوسف إذ قال { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله أعلم أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ كلاماً يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه ، ولا خرج أحد من البيت ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، فسرّي عنه وهو يضحك … فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : " يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك " . فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه - فقلت : والله لا أقوم إليه . ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل براءتي ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ … } [ النور : 11 ] الآيات العشر . فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة فأنزل الله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ … } إلى قوله : { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فقال أبو بكر رضي الله عنه : بل والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً . قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال : " يا زينب ما علمت وما رأيت " ؟ فقالت يا رسول الله : أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع . قالت : فطفقت أختها ( حمنة ) تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك " . قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط . " رواه البخاري ومسلم " وهكذا يظهر لنا خطر النفاق والمنافقين ، وتآمرهم على الإسلام ، وكيدهم لصاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، حيث استهدفوا عرضه وكرامته ، وأرادوا أن يلوّثوا سمعته الطاهرة ، بالطعن في عفاف زوجه الصدّيقة عائشة رضي الله عنها … ولكنّ الله جلّ ثناؤه كشف خبثهم وتآمرهم ، وبرّأ أم المؤمنين من ذلك البهتان العظيم ، وجعل ذلك درساً للأجيال وعبرة لأولي البصائر ، وعنوان مجد وفخار لزوجاته الطاهرات ، ودليل طهر ونزاهة لبيت النبوة الكريم { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - وصفُ المرء بالتقى والصلاح جائز إذا لم يدع ذلك إلى العُجب والخيلاء . 2 - إذا حلف الإنسان على ترك فعل الخير فليكفّر عن يمينه وليفعل الخير . 3 - الصفح والعفو عمن أساء من مظاهر الكمال ودلائل الإيمان . 4 - قذف العفائف المحصنات من الكبائر التي توجب سخط الله وغضبه . 5 - الجوارح والحواس تشهد على الإنسان يوم القيامة بما عمل في الدنيا . 6 - الجزاء العادل يلقاه المرء يوم القيامة على ما اقترف من سيِّئ الأعمال . 7 - اتهام زوجات الرسول الطاهرات إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوان على الدين نفسه . 8 - براءة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها مما نسب إليها أهل الإفك والبهتان . 9 - بيت النبوة بيت الطهر والعفة فلا يتصور أن تخرج منه رائحة الخنا أو الفجور . 10 - السُنّة الإلٰهية قضت بالامتزاج الروحي فالنساء الخبيثات للرجال الخبيثين والعكس بالعكس .