Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 61-61)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 9 ] إباحة الأكل من بيوت الأقرباء التحليل اللفظي { حَرَجٌ } : قال الزجّاج : الحَرَج في اللغة الضيق ، وفي الشرع : الإثم . قال تعالى : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ } [ الأحزاب : 37 ] والمتحرّج : الكافّ عن الإثم ، وفي الحديث " حدّثُوا عن بني إسرائيل ولا حرج " وتحرّج تأثّم ، والتحريجُ : التضييق . قال ابن الأثير : الحرج في الأصل الضّيقُ ويقع على الإثم والحرام ، وقيل الحَرَج : أضيق الضيق ، ومعنى الحديث لا بأس ولا إثم عليكم أن تحدّثوا عنهم ما سمعتم . وقد ورد الحرج في أحاديث كثيرة وكلها راجعة إلى هذا المعنى . وفي التنزيل : { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 125 ] أي شديد الضيق لا ينشرح لخير . { مَّفَاتِحهُ } : جمع مِفْتحَ ، وأمّا المفاتيح فجمع مفتاح ، قال في " لسان العرب " : والمفتح ، بكسر الميم والمفتاح : مفتاح الباب وكل ما فتح به الشيء ، قال الجوهري : وكل مستغلق . وفي التنزيل { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } [ القصص : 76 ] قيل هي مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب ، وقيل : هي الكنوز والخزائن . قال الأزهري : والأشبه في التفسير أن قوله تعالى : { مَّفَاتِحهُ } خزائن ماله ، والله أعلم بما أراد . { أَشْتَاتاً } : متفرقين جمع شَتّ ، والشتات : الفرقة ، وتشتّت جمعهم : أي تفرّق جمعهم ، قال الطرماح : @ شتّ شعبُ الحيّ بعدَ التئامِ وشَجَاكَ الرّبْعُ ربعُ المُقَام @@ قال في " لسان العرب " : الشَتّ : الافتراق والتفريق ، والشّتيتُ المتفرّق ، وفي التنزيل { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً } [ الزلزلة : 6 ] أي يصدرون متفرقين ، منهم من عمل صالحاً ، ومنهم من عمل شراً . وجاء القوم أشتاتاً : متفرقين ، واحدهم شَتّ . ومعنى الآية ؛ أي ليس عليكم إثم أو جناح أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين . { فَسَلِّمُواْ } : من التسليم بمعنى التحية ، والمعنى : حيّوا بعضكم بعضاً بتحية الإسلام ، وتحية الإسلام ( السلام عليكم ورحمة الله ) وفي الحديث " وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " والتسليم : مشتق من السّلام اسم الله تعالى ، لسلامته من العيب والنقص . قال في " اللسان " : السلام والتحية معناهما واحد ، وهو السلامة من جميع الآفات ، وفي حديث التسليم : " قل السلام عليك ، فإن عليك السلام تحيةُ الموتى " وقد جرت به عادتهم في المراثي كانوا يقدّمون ضمير الميت على الدعاء له كقوله : " عليك سلام الله قيسَ بن عاصم " . وفي حديث أبي هريرة : " لما خلق الله آدم قال : اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة ، فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال : " السلام عليكم … " الحديث . { تَحِيَّةً } : قال الزجّاج : هي منصوبة على المصدر كقولك : قعدت جلوساً ، لأن قوله : ( فسلّموا ) بمعنى فحيّوا ، ومعنى الآية : فحيّوا بعضكم بعضاً تحية من عند الله مباركة طيبة . والتحية في اللغة : السلام ، قال تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } [ المجادلة : 8 ] . قال الأزهري : والتحية ( تَفْعِلة ) من الحياة ، وإنما أدغمت لاجتماع الأمثال . والهاء لازمة لها والتاء زائدة ، وروي عن أبي الهيثم أنه قال : التحية في كلام العرب ما يحيّي بعضهم بعضاً إذا تلاقَوْا قال الشاعر : @ " تحيةُ بَيْنِهِم ضربٌ وَجيعُ " @@ { مُبَٰرَكَةً } : بالأجر والثواب ، والبركة في اللغة أصلها : النماء والزيادة . { طَيِّبَةً } : حسنة طابت بالدعاء والإيمان أو تطيب نفس المحيّى بها ، قال أبو بكر الجصاص : يعني أن السلام تحية من عند الله ، لأن الله أمر به ، وهي مباركة طيبة ، لأنه دعاء بالسلامة ، فيبقى أثره ومنفعته ، وفيه الدلالة على أن قوله : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [ النساء : 86 ] قد أريد به السلام . المعنى الإجمالي يقول الله جلّ ذكره ما معناه : ليس على أهل الأعذار ولا على ذوي العاهات ( الأعمى ، والأعرج ، والمريض ) حرج أن يأكلوا مع الأصحاء ، فإن الله تعالى يكره الكِبْر والمتكبرين ، ويحب من عباده التواضع . وليس عليكم أيها المؤمنون حرج أن تأكلوا من بيوت أقربائكم أو أصدقائكم ، أو البيوت التي توكّلون عليها ، وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها ، ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين ، فإذا دخلتم بيوت إخوانكم أو أصدقائكم ، فابدءوهم بالسلام ، وسلّموا عليهم بتحية الإسلام ، التي هي شعار المؤمنين ، تحية من عند الله مباركة طيبة ، ذلك شرع الله وحكمه إليكم ، لتتأدبوا بآداب الإسلام ، وتتمسكوا بتعاليمه الرشيدة ، التي فيها سعادتكم وصلاح دينكم ودنياكم ، كذلك يبيّن الله لكم طريق الخير والسعادة لعلكم تعقلون الخير والحق في جميع الأمور وتكونون من المؤمنين المتقين . سبب النزول أولاً : عن ابن عباس رضي الله عنهما : لمّا نزل قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى ، والزَّمنى ، والعُمْي ، والعُرْج وقالوا : الطعام أفضل الأموال وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب ، والمريض لا يستوفي الطعام بسبب مرضه ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، فنزلت الآية الكريمة { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ } . ثانياً : وعن سعيد بن المسيّب رضي الله عنه أنه قال : إن ناساً كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا فكانوا يتقون أن يأكلوا منها ، ويقولون : نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيّبة ، فنزلت هذه الآية . ثالثاً : وروي عن مجاهد في هذه الآية أنه قال : كان رجال زمنى وعميان وعرجان وأولو حاجة ، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ، فإن لم يجدوا لهم طعاماً ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وبعض من سمّى الله عزّ وجلّ في هذه الآية ، فكان أهل الزّمانة يتحرجون من أكل ذلك الطعام ، لأنه أطعمهم غير مالكه فنزلت هذه الآية . وجوه القراءات أولاً - قرأ الجمهور ( مَلَكْتُمْ ) بالبناء للمعلوم ، وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو العالية ( مُلِّكْتُمْ ) بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها بالبناء للمجهول . ثانياً - قرأ الجمهور ( مَفَاتِحَه ) بالجمع ، وقرأ أنس بن مالك ، وقتادة ( مِفْتَاحَه ) بكسر الميم على الإفراد ، وقرأ ابن جبير ( مفاتيحه ) جمع مفتاح . ثالثاً - قوله تعالى : { أَوْ صَديقكم } قرئ بكسر الصاد اتباعاً لحركة الدال وقراءة الجمهور بفتح الصاد ، ومثلها ( أُمّهاتكم ) بضم الهمزة وقرأ طلحة ( إمّهاتكم ) بكسر الهمزة . وجوه الإعراب أولاً : قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ } الآية رفع الله تعالى الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ، ولم يذكر في الآية متعلق الحرج فذهب جمهور المفسّرين على أن نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في ( المَطَاعم ) ويكون معنى الآية " ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه ، ولا في الأعرج حرج ، ولا في المريض حرج وتكون ( على ) بمعنى ( في ) " ذكره ابن جرير . وقال الحسن ، وعبد الرحمٰن بن زيد : الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد في سبيل الله ، وهو مقطوع ممّا قبله ، إذ متعلّق الحرجين ، مختلف ويكون معنى الآية : " ليس على الأعمى ، ولا على الأعرج ولا على المريض حرج في تركهم للجهاد وعدم خروجهم مع المجاهدين بسبب أعذارهم " ويكون الكلام قد تمّ هنا ، وأنّ ما بعده مستأنف لا تعلّق له به ، وهذا ما اختاره ( أبو حيّان ) في تفسيره " البحر المحيط " . ثانياً : قوله تعالى : { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } قال أبو حيّان : انتصب " جميعاً " و " أشتاتاً " على الحال . أي مجتمعين ، أو متفرقين . ثالثاً : قوله تعالى : { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً } . قال الزجّاج : تحيّة منصوبة على المصدر ، لأن قوله ( فسلّموا ) بمعنى فحيّوا فتكون مفعولاً مطلقاً . وقوله ( مباركة طيّبة ) صفتان للمصدر ( تحيّةً ) والجار والمجرور متعلق بـ ( مباركة ) أو بنفس التحية والله أعلم . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : ذكر الله تعالى بيوت الأقارب ( الآباء ، الأمهات ، الإخوان ، الأخوات ، الأعمام ، العمات … ) إلخ ولم يذكر بيوت الأولاد ، والسّر في ذلك أن مال الولد مال الأب ، وبيته بيته كما ورد ( أنت ومالك لأبيك ) فلم يذكر اكتفاءً بذكر ( بيوتكم ) فما يملكه الولد كأنه ملك للأب ، لقوة حقّ القرابة وفي الحديث الشريف ( إنَّ أطيبَ ما يأكل الرجل من كسب ولده ، وإنَّ ولده من كسبه ) . قال أبو حيان : ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاءً بذكر بيوتكم ، ومعنى قوله تعالى : { مِن بُيُوتِكُمْ } أي من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم . والولد أقرب من عدّد من القرابات ، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى . اللطيفة الثانية : قيل لبعضهم من أحبّ إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحبّ أخي إلا إذا كان صديقي . وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب ، فجاء فرآهم فسُرّ بذلك وقال : هكذا وجدناهم ، يعني كبراء الصحابة . وكان الرجل يدخل بيت صديقه ، فيأخذ من كيسه ، فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك . قال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة ، ألا ترى استغاثة الجهنّميّين حيث يقولون : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات . اللطيفة الثالثة : اشتهر العرب بالكرم . وكان قوم من الأنصار لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم ، وكانت قبيلة ( كنانة ) يتحرّج الرجل أن يأكل وحده ، فربما قعد والطعام بين يديه من الصباح إلى المساء ، فإذا لم يجد من يؤاكله اضطر إلى الأكل وحده ، وقد قال بعضهم مفتخراً : @ إذا ما صَنَعْتِ الزّاد فالتمسي لهُ أكيلاً فإنّي لستُ آكلُهُ وَحْدي @@ اللطيفة الرابعة : قال الزمخشري : ( فإذا دخلتم بيوتاً ) فابدأوا بالسلام على أهلها ، الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة . و ( تحية من عند الله ) أي ثابتة بأمره ومشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة ، وحياة للمسلّم عليه . ووصفُها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن ، يُرْجى بها من الله زيادة الخير ، وطيب الرزق . اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { بُيُوتاً } التنكير يفيد العموم ، أي إذا دخلتم أيّ بيت من البيوت فسلّموا على أنفسكم ، قال الفخر الرازي : ( فسلّموا على أنفسكم ) جعل المولى تعالى أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله ( ولا تقتلوا أنفسكم ) قال ابن عباس : فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل : السلام علينا من قبل ربنا . وقال ابن جرير الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه : فإذا دخلتم بيوتاً من بيوت المسلمين ، فليسلّم بعضكم على بعض ، قال : وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } ولم يخصّص من ذلك بيتاً دون بيت ، وقال : ( فسلّموا على أنفسكم ) يعني : بعضكم على بعض ، فكان معلوماً إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض ، أنه معنيّ به جميعها ، مساجدها وغير مساجدها . الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما المراد بالأكل من البيوت ؟ دلت الآية الكريمة على إباحة الأكل من بيوت الأقرباء ، وذلك جار مجرى المؤانسة والمباسطة وعدم الكلفة ، وقد جرت العادة ببذل الطعام للأقرباء ، لأنه بذلك يسرّهم ، فكان جريان العادة بالإذن كالنطق الصريح ، فيباح للإنسان أن يأكل من بيوت من سمّى الله عز وجل من الأقارب . وقد اختلف المفسّرون في قوله تعالى : { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } على ثلاثة أقوال : أحدها : أن المراد بها بيوت الأولاد ، أي بيوت أولادكم لأنها في حكم بيوتكم . الثاني : أن المراد بها البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم ، فيكون الخطاب لأهل الرجل ، وولده ، وخادمه ، ومن يشتمل عليه منزله ، ونسبها إليهم لأنهم سكّانها . الثالث : أن المراد بها بيوتهم ، والمقصود من الآية أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم ، لأن بيت المرأة بيت الرجل . واختار أبو بكر ( الجصّاص ) الرأي الثاني فقال : " يعني والله أعلم من البيوت التي هم سكّانها ، وهم عيال غيرهم فيها مثل : أهل الرجل ، وولده ، وخادمه ، ومن يشتمل عليه منزله ، فيأكل من بيته ، ونسبها إليهم لأنهم سكانها ، وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل ، لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباحة للرجل أن يأكل من مال نفسه ، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره . وقال الله : { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ } فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم ، وفقد التمانع في أمثاله " . الحكم الثاني : هل للوكيل أن يأكل من مال موكّله ؟ ظاهر قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } يدل على أنه يرخّص للوكيل أن يأكل من مال الموكل ، بغير شطط ولا عدوان ، وقد روي عن ( عكرمة ) أنه قال : " إذا ملك المفتاح فهو جائز ، ولا بأس أن يَطْعم الشيء اليسير " . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } هو وكيل الرجل يُرخَّص له أن يأكل من التمر ، ويشرب من اللبن . وقيل : المراد به وليّ اليتيم ، يتناول من ماله بالمعروف دون إضرار باليتيم كما قال تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ النساء : 6 ] . الحكم الثالث : هل يباح الأكل من بيت الصّديق بغير إذنه ؟ أباحة الآية الكريمة الأكل من بيوت من سمّى الله عز وجلّ من الأقارب ، ومن بيوت الأصدقاء . وقد كان الواحد لا يأكل من بيت غيره تأثماً ، فرخّص الله تعالى لأهل الأعذار ( العمي ، والعرج ، والمرضى ) أولاً ثمّ رخّص للنَّاس عامة ، فلو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالاً . قال الجصاص : " وهذا أيضاً مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه ، فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به ، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها ، من غير استئذانها إيّاه ، لأنه متعارف أنهم لا يمنعون مثله ، كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما ، ويتصدقان باليسير ممّا في أيديهما ، فيجوز بغير إذن المولى . وقد روي عن نافع عن ابن عمر أنه قال : " لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم " . وروى إسحاق بن كثير عن الرصافي قال : " كنا عند أبي جعفر يوماً فقال : هل يُدْخل أحدكم يده في كُمّ أخيه أو في كيسه فيأخذ ماله ؟ قلنا : لا ، قال : ما أنتم بإخوان " . أقول : يباح للإنسان أن يأكل من بيت صديقه في غيبته لما بينهما من المودّة والصداقة ، وقد جرت العادة بذلك ، ودلت الآية عليه . والصديق يفرح بأكل صديقه عنده ويُسرّ غاية السرور . اللهم إلا إذا كان ممن قال فيهم الشاعر : @ سِيَانِ كَسْرُ رغيفِهِ أو كَسْرُ عظم من عظَامِه @@ نسأله تعالى أن يقينا مرض البخل والشح إنه سميع مجيب الدعاء . الحكم الرابع : ما هو حكم الشركة في الطعام ؟ يجوز للإنسان أن يشارك غيره في الطعام ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } أي مجتمعين أو منفردين ، فإذا اشترك جماعة في طعام جاز لهم أن يأكلوا منه مجتمعين . وقد كان الرجل يخاف إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه ، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام . فرخّص لهم القرآن الكريم وأباح لهم الأكل حتى ولو كان بعضهم أشهى نفساً ، وأوسع معدة . وقد دلّ على هذا قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعاً . ونحو هذا قوله تعالى عن أصحاب الكهف { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } [ الكهف : 19 ] . فكان الورِق ( الفضة ) لهم جميعاً . والطعام بينهم فاستجازوا أكله وهذا ما يسميه الفقهاء ( المناهدة ) وهي الشركة التي يفعلها الناس في الأسفار . الحكم الخامس : هل تقطع اليد في السرقة من بيت المحارم ؟ قال أبو بكر الجصّاص رحمه الله في كتابه " أحكام القرآن " : " قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ؛ لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ، ودخولها من غير إذنهم ، فلا يكون ماله مُحْرَزاً منهم . فإن قيل : فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه ، لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه ؟ قيل له : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له " . أقول : الحدود تُدْرأ بالشبهات ، ولمّا كانت السرقة من بيت ذي الرحم المحرم ، وبينهما هذه القرابة القوية وهي ( قرابة الرحم ) فقد وجدت الشبهة ، فلا قطع حينئذٍ وإنما فيه التعزير والله تعالى أعلم . الحكم السادس : هل الآية الكريمة منسوخة بآية الاستئذان ؟ ذهب بعض المفسّرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ } [ النور : 27 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " والصحيح أنها غير منسوخة وهو رأي جمهور المفسّرين ومذهب الإمام أبي بكر الجصّاص والرازي وغيرهما . وقد قال أبو بكر : ليس في ذلك ما يوجب النسخ ، لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها - أي من أهل الأعذار والأقارب - وقوله { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } [ النور : 27 ] في سائر الناس غيرهم ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " فإنه في غير هؤلاء المذكورين في الآية الكريمة والله أعلم . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - رفع الحرج عن أهل الأعذار في ترك الجهاد أو في الأكل من بيوت الناس . ثانياً - إباحة الأكل من بيوت الأقارب للمؤانسة والمباسطة التي تكون في العادة بينهم . ثالثاً - حق الصداقة عظيم ولذلك رخّص الله في الأكل من بيت الصديق بغير إذنه . رابعاً - جواز الشركة في الطعام والأكل مع بقية الشركاء مجتمعين أو متفرقين . خامساً - ضرورة التقيد بآداب الإسلام ومنها السلام على أهل المنزل عند الدخول . سادساً - تحية المسلم لأخيه المسلم شرعها الباري جلّ وعلا وهي بلفظ السلام عليكم ورحمة الله . سابعاً - الأحكام التي شرعها الله لعباده المؤمنين فيها خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدارين . حكمة التشريع حرّم الله تعالى الاعتداء على الناس وأكل أموالهم بالباطل ، فلا يجوز لإنسان أن يأكل مال غيره إلاّ بإذنه ، وبطيب نفسٍ منه كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وقال صلى الله عليه وسلم : " كلُّ المسلم على المسلم حرام : دمُه ، ومالُه ، وعرضُه " . وقد أباح الباري جلّ وعلا للإنسان أن يأكل من بيت أقاربه بدون إذن ، وهم الذين سمّاهم في كتابه العزيز وعدّد أصنافهم وهم ( الآباء ، الأمهات ، الإخوان ، الأخوات ، الأعمام ، العمات ، الأخوال ، الخالات ) وذلك لما بين هؤلاء من صلة الرحم ، ولأنه يستدعي المحبة والوداد والوئام ، فإنَّ أكل الإنسان من بيت أقربائه ، يقوّي أواصر القرابة ، ويزيل الكُلْفة ، ويدعو إلى المؤانسة والانبساط . كما أباح الأكل من بيت الصديق بدون إذن أيضاً ، لأن الصداقة بمنزلة القرابة ؛ وحق الصديق على صديقه عظيم وكبير ، وكم من صديق أنفع من أخٍ قريب . وقد قيل في الأمثال : " ربّ أخٍ لك لم تلده أمّك " . ولهذا رخّص المولى جلّ ثناؤه بالأكل من بيوت الأصدقاء . وجعلهم في عداد الأقرباء ، حتى تدوم الألفة ، وتتمكن الصداقة والمودّة . وتتقوى روابط ( الأخوّة الدينيّة ) بين المسلمين ، وذلك من أغراض الشريعة الإسلامية ، وأهدافها الإنسانية السامية . وصدق الله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] . وقد أمر سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ، عند دخولهم لبيوت الآخرين ، أن يبدءوهم بالتحية والسلام . فذلك من الآداب الإجتماعية الرفيعة . التي دعا إليها الإسلام . وأمر بإشاعة السلام لأنه تحية المؤمن وشعار الإسلام . وهو طريق المحبة بين المؤمنين . الذي يربط بين أفراد الأمة الإسلامية . كما قال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " . وقد كان أهل الجاهلية إذا لقي الرجل منهم صديقه أو أخاه . يقول له : أنعم صباحاً ، أو أنعم مساءً . وأنعم الله بك عيناً إلخ . فجاء الإسلام بما هو خير وأزكى وأطهر . جاءهم بالتحية المباركة الطيبة ، بلفظ كريم لطيف " السلام عليكم ورحمة الله " وهذه التحية شرعها الله لعباده كما قال تعالى : { فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً } والسلام اسم من أسماء الله تعالى فلا يليق بالمسلم أن يدع هذه التحية إلى تحية الجاهلية . أو ما شابهها من ألفاظٍ مستحدثة كقولهم : احتراماتي ، تحياتي . صباح الخير ، إلى غير ما هنالك من ألفاظ وعبارات ليس فيها ذلك المعنى اللطيف أو المغزى الدقيق الذي قصد إليه الإسلام ، دين الإنسانية الخالد .