Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 12-15)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 1 ] " طاعة الوالدين " أو " بر الوالدين " التحليل اللفظي { ٱلْحِكْمَةَ } : الإصابة في القول والعمل . وأصل الحكمة : وضع الشيء في موضعه قال تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] . قال الرازي : الحكمة عبارة عن التوفيق بين العلم والعمل ، فكلّ من أوتي توفيق العلم بالعمل فقد أوتي الحكمة . وفي " اللسان " : أحكم الأمر : أتقنه ، ويقال للرجل إذا كان حكيماً : قد أحكمته التجارب ، والحكيم : المتقن للأمور . وقد كان لقمان حكيماً على الرأي الراجح ولم يكن نبياً . { غَنِيٌّ } : مستغنٍ عن الخلق ليس بحاجة إلى أحد ، والعبادُ محتاجون إليه جلّ وعلا { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [ فاطر : 15 ] . { حَمِيدٌ } : فعيل بمعنى ( مفعول ) أي محمود يحمده أهل السماء وأهل الأرض . قال أبو السعود : ( حميد ) أي حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد ، والمعنى أنه تعالى مستحق للحمد سواء شكره الناس أو لم يشكروه . { يَعِظُهُ } : العظة والموعظة بمعنى ( النصيحة ) و ( الإرشاد ) بالأسلوب الحكيم { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] . وفي حديث العرباض بن سارية ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظةٍ ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب … ) . { وَهْناً } : مصدر وَهَن بمعنى ضعف ، والوهن الضعف ، وفي التنزيل { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [ مريم : 4 ] . قال الزجّاج : ( وهناً على وهنٍ ) أي ضعفاً على ضعف ، والمعنى : لزمها بحملها إيّاه أن تضعف مرة بعد مرة ، فلا يزل ضعفها يتزايد من حين الحمل إلى الولادة ، لأن الحمل كلما عظم ازدادت به ثقلاً وضعفاً . ثم هي في أصل خلقتها ضعيفة البنية والحمل يزيدها ضعفاً . { وَفِصَٰلُهُ } : فطامه ، والفِصال : يراد منه ترك الإرضاع ، وهو لفظ يستعمل في الرضاع خاصة ، وأما الفصل فهو أعمّ منه ، لأنه يستعمل في الرضاع وغيره ، وقيل : هما بمعنى واحد . قال في " اللسان " : والفصال : الفطام ، قال تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] . وفصلت المرأة ولدها أي فطمته ، وفي الحديث ( لا رضاع بعد فصال ) قال ابن الأثير : أي بعد أن يفصل الولد عن أمه ، وبه سُمّي الفصيل من أولاد الإبل ، فعيل بمعنى مفعول . ومعنى الآية : أي فطامه يتم في انقضاء عامين . { ٱلْمَصِيرُ } : المرجع والمآب قال تعالى : { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ المائدة : 18 ] أي الرجوع والمآب ، وصِرْت إلى فلان مصيراً ، قال الجوهري : وهو شاذ والقياس مَصَار مثل معاش ، وفي كلام الفَزَاري لعمه ( ابن عنقاء ) : ما الذي أصارك إلى ما أرى يا عم ؟ قال : بخلك بمالك ، وبخل غيرك من أمثالك ، وصوني أنا وجهي عن مثلهم وتسآلك ! { جَٰهَدَاكَ } : أي بذلا أقصى ما في وسعهما من أجل حملك على الإشراك بالله ، يقال : جاهد أي بذل جهده قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] والجهاد المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة ، ولهذا يسمى المحارب ( مجاهداً ) لأنه يبذل ماله ونفسه وروحه في سبيل الله . فهو قد بذل كل ما لديه قال الشاعر : @ يقولونَ جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ وأيّ جهادٍ غيرهنّ أريد ؟ @@ { مَعْرُوفاً } : أي صاحبهما مصاحبة بالمعروف ، والمعروف ما يستحسن من الأفعال . { أَنَابَ } : أي رجع إلى ربه وتاب إليه ، والمنيب : الراجع إلى ربه ، السالك طريق الاستقامة ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ سبأ : 9 ] . قال الطبري : وقوله { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يقول : واسلك طريق من تاب من شركه ، ورجع إلى الإسلام ، واتّبع محمداً صلى الله عليه وسلم . المعنى الإجمالي نبّه الباري جلّ وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى المقام الرفيع الذي أُعطيه العبد الصالح ( لقمان ) … وذكّر بحق الوالدين ، وحذّر من الشرك ، الذي هو أعظم الجرائم عند الله ، فالله جلّ ثناؤه يخبرنا عن أمر ذلك العبد الصالح ، الذي رزقه الله الحكمة ، وآتاه العقل والرشد ، فكان ينطق بالحكمة ويعلّمها الناس . وقد عدّد سبحانه وتعالى بعض هذه النصائح ، التي أوصى بها ( لقمان الحكيم ) ولده ، وكان من أهمها وأخطرها ، التحذير من ( الكفر والإشراك ) لأنه نهاية القبح والشناعة { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] . يقول الله جل ثناؤه ما معناه : اذكر يا محمد لقومك . موعظة لقمان لابنه ، وهو أشفق الناس عليه ، وأحبّهم لديه ، حين نبَّهه إلى خطر الشرك بالله ، وجحود نعمائه . وحذّره من ضرره ، لأنه ظلم صارخ ، وعدوان مبين ، لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه . فمن سوّى بين الخالق والمخلوق ، وبين الإلٰه الرازق ، والصنم الذي لا يسمع ولا ينفع ولا يغني عن صاحبه شيئاً . فهو - بلا شك - أحمق الناس . وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة . وحريّ به أن يوصف بالظلم ، ويجعل في عداد البهائم … وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم ، وذكر ما في الشرك من الشناعة . أتبعها سبحانه بوصيةٍ مستقلةٍ عن وصايا لقمان ألا وهي ( الوصية بالوالدين ) ليشير إلى قبح الشرك ، ويؤكد حكمة الرجل الصالح ( لقمان ) لابنه في نهيه عن الشرك فكأنه تعالى يقول : مع أننا أوصينا الإنسان بوالديه ، وأمرناه بالعطف عليهما ، والإحسان إليهما ، وألزمناه طاعتهما لما تحملا في سبيله من المتاعب والمصاعب ، مع كل هذا فقد حذَّرناه من طاعتهما في حالة الشرك والعصيان ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فالوضع السليم بين ( الأب وابنه ) هي الطاعة والإحسان ، وامتثال كمال الأدب مع من ربّاه وتعب في شأن تربيته . { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] فإذا تغيّر الوضع ، وأصبح الأب والأم مدعاةً للشرك ، ومصدراً للعصيان ، فلا سمع ولا طاعة ولا استجابة لصوت الضلال ، مهما بذلا من جهدٍ ، ومع كل ذلك فقد ختم الله جلّ ثناؤه الآية الكريمة بوجوب صحبتهما بالمعروف والإحسان إليهما في الدنيا حتى ولو كانا مشركَيْن ، لأنّ حقهما على ولدهما عظيم ، وكفرُهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمّلاها في تربية الولد ، فالإحسان إليهما واجب ، وطاعتهما في معصية الله ممنوعة ، واتباع سبيل المؤمنين الصادقين هو الطريق السوي الذي يوصل إلى رضوان الله تعالى . سبب النزول روى الحافظ ( ابن كثير ) في تفسيره عن ( سعد بن أبي وقاص ) رضي الله عنه أنه قال : ( كنتُ رجلاً براً بأمي ، فلما أسلمتُ ، قالت يا سعد : ما هذا الدين الذي أراك قد أحدثت ! لتَدَعن دينك هذا ، أو لا آكل ، ولا أشرب ، حتى أموت فتعيّر بي ، فيقال : يا قاتل أمه ، فقلتَ لها : يا أمّهْ لا تفعلي ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء أبداً ) ! ! قال : فمكثتْ يوماً وليلة ولم تأكُلْ ، فأصبحتْ قد جَهِدت ، فمكثتْ يوماً آخر وليلة ولم تأكل ، فأصبحتْ وقد جَهِدت ، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحت قد اشتدّ جهدها … فلما رأيتُ ذلك جئتُ إليها فقلت : يا أُمّهْ ، تعلمينَ واللَّهِ ، لو كانتْ لكِ مائةُ نفسٍ أي ( روح ) فخرجتْ نَفْساً نَفْساً ، ما تركت ديني هذا لشيءٍ أبداً ، فإن شئتِ فكلي وإن شئت فدعي … فلما رأت صلابته في دينه أكلت فأنزل الله عز وجلّ { وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ … } الآية . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : ذَكَرَ اللَّه سبحانه وتعالى في الوصية ( أمر الوالدين ) ثمّ نوّه بشأن الأم خاصة ، فهو من باب ذكر ( الخاص بعد العام ) لزيادة العناية والاهتمام ، ولبيان أن حق الأم على الولد أعظم من حق الأب ، وقوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } هذه جملة اعتراضية . قال الزمخشري : في " الكشّاف " : فإن قلت : قوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } كيف اعترض به بين المفسَّر والمفسِّر ؟ قلتُ : لمّا وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاقّ والمتاعب ، في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً ، ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله : مَنْ أبرّ ؟ قال : أمّك ، ثم أمّك ، ثم أمّك ، ثم قال بعد ذلك : أباك . وروي عن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره ، وهو يقول في حدائه : ( أحمل أمي وهي الحمّالة ، ترضعني الدرّة والعُلاَلة ، ولا يُجَازَى والدٌ فِعَاله ) . اللطيفة الثانية : حين أمر سبحانه بشكر الوالدين قدّم شكره تعالى على شكرهما فقال { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وفي هذا التقديم إشارة إلى أن حقّ الله أعظم من حق الوالدين ، وشكره أوجب وألزم ، لأنه تعالى هو المنعم الحقيقي ، المتفضل على عباده بالنعم ، وشكر الوالدين جزء من شكر المنعِم ، والله جلّ وعلا هو السبب الحقيقي في الخلق والايجاد ، والوالدان سبب ظاهري ، فينبغي أن يُقدَّم السبب الحقيقي على السبب الظاهري . اللطيفة الثالثة : تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر فقوله تعالى : { إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } وقوله { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } تقدّم الجار والمجرور على المتعلّق به فأفاد معنى الحصر والمعنى : إليّ المرجع والمآب لا إلى غيري ، وإليّ مرجع الخلائق جميعاً لا إلى أحدٍ سواي . اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فِي ٱلدُّنْيَا } ذكرُ الدنيا في الآية الكريمة ، فيه إشارة إلى ( تهوين ) أمر الصحبة ، وتقليل مدتها لأنها في أيام قلائل ، وشيكة الزوال والانقضاء ، فلا يصعب على الإنسان تحمّلها . ولقد أحسن من قال : @ دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له إنّ الحياةَ دقائقٌ وثواني @@ اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } في الآية الكريمة إشارة إلى سلوك طريق الصالحين والاقتداء بالسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين . وفسّره بعضهم بأن المراد بقوله تعالى : { مَنْ أَنَابَ } هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه أي اتّبع سبيله في الإيمان لأن إسلام ( سعد ) كان بسببه . والصحيح كما قال الألوسي : أنها عامة تعمُ كل من اتصف بهذا الوصف . وجوه القراءات 1 - قوله تعالى : { وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } قراءة الجمهور بسكون الهاء ، وقرأ الضحاك وعاصم { وَهَنَاً على وَهَنٍ } بفتح الهاء فيهما . 2 - قوله تعالى : { وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيْنِ } قرأ النخعي والأعمش " وفَصَاله " بفتح الفاء ، والجمهور بكسرها ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ( وفَصْله ) بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف . 3 - قوله تعالى : { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } [ لقمان : 17 ] قراءة الجمهور بفتح الياء على تقدير ( يا بُنَيّا ) والاجتزاء بالفتحة عن الألف ، وقرأ البزي ( يَا بْنِي ) بالسكون ، وقرأ بعضهم ( يا بُنَيِّ ) بكسر الياء مع التشديد . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ } إذْ ظرف متعلق بفعل مقدر ، وتقديره : إذكر إذ قال لقمان ، و ( لقمان ) ممنوع من الصرف للتعريف والألف والنون الزائدتين كعثمان ، وعمران ، ويجوز أن يكون أعجمياً ، فلا ينصرف للعجمة والتعريف . 2 - قوله تعالى : { وَهُوَ يَعِظُهُ } الجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال أي واعظاً له . 3 - قوله تعالى : { وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } وهناً : حال من الفاعل ، والمعنى حملته أُمه ذات وهن أو واهنة ، وهذا اختيار أبي حيّان والزمخشري . والمصدر يأتي ( حالاً ) بكثرة كما قال ابن مالك : @ ومصدرٌ منكّرٌ حالاً يقع بكثرةٍ كبغتةً زيدٌ طلع @@ واختار ابن الأنباري أن يكون منصوباً بنزع الخافض وتقديره : حملته أمه بوهنٍ ، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه . والأرجح الأول لعدم احتياجه للتأويل بخلاف الثاني . 4 - قوله تعالى : { أَنِ ٱشْكُرْ لي } قال الزجّاج : هي في موضع نصب على حذف حرف الجر ، وتقديره ، بأن اشكر ، وقيل ( أنْ ) مفسّرة بمعنى ( أيْ ) كقوله تعالى : { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ } [ صۤ : 6 ] قال النحّاس : والأجود أن تكون مفسّرة . 5 - قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } انتصب ( معروفاً ) على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره : صحاباً معروفاً أو بنزع الخافض والتقدير : وصاحبهما بالمعروف . الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما هي مدة الرضاع المحرِّم ؟ استدل الفقهاء على أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم هو سنتان بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيْنِ } فإنّ المراد بالفصال الفطام فتكون السنتان هي تمام مدة الرضاع . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى في سورة البقرة [ 233 ] { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ … } الآية . على أن أقصى مدة الرضاع سنتان فقط . وهذا رأي الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) رحمهم الله تعالى . وذهب الإمام ( أبو حنيفة ) رحمه الله إلى أن مدة الرضاع المحرِّم سنتان ونصف ، ودليله قوله تعالى في سورة الأحقاف [ 15 ] : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً … } الآية . وله في الاستدلال من الآية الكريمة وجهان : الوجه الأول : أن المراد بالحمل هنا ليس حمل الجنين في بطن أمه ، وإنما حمله على اليدين من أجل الإرضاع فكأن الله تعالى يقول : تحمل الأم ولدها بعد الولادة لترضعه مدة ثلاثين شهراً ، فتكون المدة المذكورة في الآية الكريمة لشيءٍ واحد وهو الرضاع . الوجه الثاني : أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية الكريمة أمرين وهما : ( الحمل ) و ( الفِصال ) ، وأعقبهما بذكر بيان المدة ، فتكون هذه المدة لكلٍ من الأمرين استقلالاً ويصبح المعنى على هذا التأويل : حمله ثلاثون شهراً ، وفصاله ثلاثون شهراً أي إن المدة لكلٍ منهما ( عامان ونصف ) وبذلك يثبت أن مدة الرضاع عامان ونصف ، وهو كما إذا قال إنسان عليه دين ( لفلانٍ وفلان عندي مائة إلى سنة ) فتكون السنة هي أجل كلٍ من الدَيْنَيْن ، وكذلك هنا تكون الثلاثون شهراً مدة كلٍ من الحمل والرضاع . وهذا الرأي الذي ذهب إليه ( أبو حنيفة ) رحمه الله لم يوافقه عليه تلميذاه ( أبو يوسف ) و ( الإمام محمد ) بل قالوا بمثل قول الجمهور وهو أن مدة الرضاع المحرِّم عامان فقط . الترجيح : ولعلنا بعد استعراض الأدلة نرجح قول الجمهور ، لا سيّما وأنّ تلميذيه قد خالفاه فيما ذهب إليه ، ودليل أبي حنيفة وإن كان وجيهاً إلا أنه يحتاج إلى تكلفٍ في التأويل بخلاف دليل الجمهور . والله أعلم . الحكم الثاني : كم هي مدة الحمل الشرعي ؟ أجمع الفقهاء على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر ، وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ومن قوله تعالى في الآية الأخرى { وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيْنِ } فمن مجموع الآيتين الكريمتين يتبيَّن أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور … قال ( ابن العربي ) في تفسيره : روي أن امرأة تزوجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوجت ، فأتي بها عثمان رضي الله عنه فأراد أن يرجمها ، فقال ( ابن عباس ) لعثمان : إنها إن تخاصمْكم بكتاب الله تخصِمْكم ، قال الله عز وجل : { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وقال : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ … } [ البقرة : 233 ] فالحمل ستة أشهر ، والفصال أربع وعشرون شهراً ، فخلّى عثمان رضي الله عنه سبيلها . وفي رواية أنّ ( علي بن أبي طالب ) قال له ذلك . قال ابن العربي : وهو استنباط بديع . الحكم الثالث : هل يقتص من الوالد بجنايته على الولد ؟ ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الولد لا يستحق القوَد على أحد والديه بجناية أحدهما عليه ، ولا يقتص منهما بسبب الولد ، كما لا يحدّ إذا قذفه أحدهما ولا يحبس له بدين عليه . ودليلهم أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالصحبة لهما بالمعروف فقال { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } وليس من المعروف أن يقتص من الوالد للولد ، ولا أن يحبس في دينه ، ولا أن يحدّ إذا قذفه لأن ذلك كلّه مما يتنافى مع صحبتهما بالمعروف . ولأنهما كانا سبباً في حياته ، فلا يصح أن يكون الولد سبباً في إهلاك والديه . وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا حيث قال صلى الله عليه وسلم " لا يقاد للولد من والده " . الحكم الرابع : هل تلزم طاعة الوالدين في الأمور المحظورة ؟ قال العلامة القرطبي : ( إن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة ، ولا في ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات ، ونقل عن ( الحسن ) أنه قال : إن منعته أُمّه من شهود صلاة العشاء شفقةً فلا يطعها ) . ثم قال : والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين ، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق . وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة فقالت : " يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : نعم " . وهذه الأحكام استنبطها العلماء من قوله تعالى : { وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } فكما تحرم طاعة الوالدين في الشرك تحرم في كل معصية ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وهذا المعنى قد سَنّه الخليفة الراشد ( أبو بكر ) رضي الله عنه في خطبته الأولى حين تولى الخلافة على المؤمنين . فكان فيما قال : ( أما بعد . أيها الناس : إني قَدْ وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم ، فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوِّموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم ) . الحكم الخامس : هل يصح سلوك طريق غير المؤمنين ؟ ظاهر قوله تعالى : { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ … } وجوب الاقتداء بالسلف الصالح وسلوك طريق المؤمنين ، وتحريم السير في اتجاه يخالف اتجاههم كطريق المنافقين والكافرين . وقد صرّح بهذا المعنى في قوله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] . فلا بدّ من الانضواء تحت رأية أَهل التوحيد والإيمان واتباع سبيلهم ، فالخير كله في الاقتداء بهم ، والسير على منوالهم . ولقد أحسن من قال : @ فكلّ خيرٍ في اتباع من سَلَف وكلّ شرٍّ في ابتداعِ من خَلَف @@ ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الحكمة هبة إلٰهية لا تنال إلا بطريق التقوى والعمل الصالح . 2 - شكر النعمة واجب على المرء . ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله . 3 - الشرك من أعظم الذنوب ، وأكبر الجرائم عند الله وهو محبط للعمل . 4 - طاعة الوالدين من طاعة الله ، وبرهما مقرون بعبادة الله تعالى . 5 - حق الأم على ولدها أعظم من حق الأب لأنّ أتعابها عليها أكثر . 6 - لا تجوز الطاعة في المعصية . إنما الطاعة في المعروف كما بينَّه عليه السلام . حكمة التشريع أوصى الله تعالى بالوالدين إحساناً ، وأمر ببرّهما وطاعتهما والإحسان إليهما ، وخصّ ( الأم ) بمزيد من العناية والاهتمام ، فجعل حقّها أعظم من حق الأب ، لما تحملته من شدائد وأهوال تجاه طفلها الوليد ، ولما قاسته من آلام في سبيل تربيته وحياته . فمن أحق بالعناية والرعاية من الأم ؟ ! الأم التي حنت عليه فغذته بلَبَانها ، وغمرته بحنانها ، وآثرته على نفسها وراحتها فشقيت من أجل سعادته ، وتعبت من أجل راحته ، وتحمّلت الأثقال والآلام في سبيل أن ترى وليدها زهرة يانعة ، تعيش بين أزهار الربيع ، فكم من ليلة سهرت من أجل راحته ، لتطرد عنه شبح الخوف ، أو تزيل عنه ألم المرض ، وكم من ساعة قضتها بين جدران البيت تحمله على يديها ، متعبة مثقلة لتواسيه في وقت شدته ومحنته … فهل يليق بعد كل هذا أن يسلك طريق العقوق ، أو يجنح إلى الإساءة والعصيان ؟ ! فحق الأم على ولدها عظيم ، وفضلها عليه كبير وجسيم ، إذ هي السبب المباشر في حياة هذا الطفل بعد الله عزّ وجلّ ، فلولا رعايتها وحنانها ، ولولا تحملها المتاعب والآلام ، لَمَا تَربّى وليد ، ولا عاش إنسان ! ! وقد أمر الله تعالى بشكر الوالدين ، وطاعتهما وبرّهما حتى ولو كانا ( مُشْركَيْن ) ، ولكنّه جلّ ثناؤه حذّر من اتّباعهما ومسايرتهما في أمر الكفر والإشراك { وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } إذْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله عز وجلّ … فطاعتهما مشروطة بطاعة الله ، وفي الحدود التي يقرّها الشرع الحنيف ، ولا يكون فيها تضييع لحق الخالق ، أو حقّ المخلوق ، فشكرُ الوالدين من شكر الله ، وطاعتهما - فيما ليس فيه معصية - من طاعة الله ! ! وصدق الله حيث يقول : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً … } [ الأحقاف : 15 ] .