Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 1-5)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 1 ] التبني في الجاهلية والإسلام التحليل اللفظي { ٱتَّقِ ٱللَّهَ } : أي أثبت على تقوى الله ودم عليها ، والتقوى لفظ جامع يراد منه فعلُ كلّ خير ، واجتنابُ كل شر ، وأصله من ( الوقاية ) بمعنى الحفظ والصيانة . قال في " اللسان " : التقوى ، والإتّقاء ، والتّقاة ، والتّقيّة كله واحد ، ورجل تقيّ : معناه يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح . قال ابن الوردي : @ واتّقِ اللَّهَ فتقوى اللَّهِ مَا جاورتْ قلبَ امرئٍ إلاّ وصَل ليس من يقطعُ طرقاً بطَلاً إنَما مَنْ يَتَّق اللَّهَ البطل @@ { ٱلْكَٰفِرِينَ } : جمع كافر ، وهو الجاحد لنعم الله ، مشتق من ( الكَفْر ) وهو الستر ، وكل من ستر شيئاً فقد كفره ، ولهذا يسمّى الزارع ( كافراً ) لأنه يستر الحب في الأرض ومنه قوله تعالى : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [ الحديد : 20 ] أي أعجب الزرّاع . ويسمى الليل كافراً لأنه يستر بظلامه الأشياء . وفي الصحاح : والكافر : الليلُ المظلم لأنه يستر بظلمته كل شيء ، وكفر النعمة جحدها . وقال الجوهري : ومن ذلك سُمّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله عز وجلّ ، ونعمُه آياته الدالة على توحيده . قال بعض العلماء : الكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلاً ، ولا يعترف به ، ويكفر بقلبه ولسانه . وكفر جحود وهو أن يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه ، ككفر إبليس ، وكفر أهل الكتاب { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] . وكفر عناد وهو : أن يعترف بقلبه ، ويقرّ بلسانه ولا يدين به حسداً وبغياً ككفر أبي جهل وأضرابه . وكفر نفاق وهو : أن يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه فلا يعتقد بما يقول وهو فعل المنافقين . { وَٱلْمُنَٰفِقِينَ } : جمع منافق وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، مشتق من ( النَّفَق ) وهو سَرَب في الأرض ، والنافقاء : جُحْرُ الضبّ واليربوع ، قال أبو عبيد : سمّي المنافق منافقاً للنّفق وهو السّرَب في الأرض ، وقيل : إنما سُمّي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه . فإذا طُلِبَ خرج من القاصعاء ، فهو يدخل من ( النافقاء ) ويخرج من ( القاصعاء ) أو بالعكس ، وهكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه . وقال في " اللسان " : وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق ، وهو اسم اسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به ، وهو الذي يستر كفره ويُظهر إيمانه ، وإن كان أصله في اللغة معروفاً . { وَكِيلاً } : الوكيل : الحافظ ، الكفيل بأرزاق العباد ، والمتوكل على الله : الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره ، فيركن إليه وحده ، ولا يتوكل على غيره ، وفي التنزيل : { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] وتوكّلَ بالأمر إذا ضمن القيام به . والتوكل : اللجوء والاعتماد يقال : وكلتُ أمري إلى فلان أي ألجأته إليه ، واعتمدت فيه عليه قال تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] . والمعنى : اعتمد على الله والجأ إليه ، وكفى به حافظاً وكفيلاً . قال أبو السعود : { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ } أي فوّض جميع أمورك إليه { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي حافظاً موكلاً إليه كل الأمور . { تُظَٰهِرُونَ } : نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب ( ظاهر من زوجته ) أنه قال لها : أنتِ عليّ كظهر أمي ، وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة ، وكان الظّهار عندهم طلاقاً ، فلما جاء الإسلام نُهوا عنه ، وأُوجِبت الكفارة على من ظاهر من امرأته . قال في " اللسان " : وأصل الظّهار مأخوذ من الظَّهْر ، وإنما خصّوا الظهر دون البطن والفخذ ، لأنّ الظهر موضع الركوب ، فكأنه قال : ركوبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمي للنكاح ، فأقام الظهر مقام الركوب ، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية . { أَدْعِيَآءَكُمْ } : جمع دَعيّ ، وهو الذي يُدعى ابناً وليس بابن ، وهو التبني الذي كان في الجاهلية وأبطله الإسلام ، وقد تبنّى عليه السلام ( زيد بن حارثة ) قبل النبوة لحكمة جليلة نبينها بعد إن شاء الله . قال في " اللسان " : والدّعي : المنسوب إلى غير أبيه ، والدِّعوة بكسر الدال : ادّعاء الولد الدّعيّ غير أبيه ، وقال ابن شُميل : الدَّعوة بالفتح في الطعام ، والدِّعوة بالكسر في النسب . وقد أنكر بعضهم هذه التفرقة . وقال الشاعر : @ دعيّ القوم ينصرُ مدّعيه ليُلحقه بذي النسب الصّميم أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقَيْسٍ أو تميم @@ { أَقْسَطُ } : بمعنى أعدل أفعل تفضيل ، يقال : أقْسَط إذا عدل ، وقَسَط إذا جار وظلم ، فالرباعي ( أقسط ) يأتي اسم الفاعل منه ( مُقْسِط ) بمعنى عادل ومنه قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] والثلاثي ( قَسَط ) يأتي اسم الفاعل منه ( قاسط ) بمعنى جائر ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] فكأنّ الهمزة في أقسط للسلب ، كما يقال : شكا إليه فأشكاه ، أي أزال شكواه . والقِسط : العدل قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } [ الرحمٰن : 9 ] . { وَمَوَٰلِيكُمْ } : أي أولياؤكم في الدين ، جمع مولى وهو الذي بينه وبين غيره حقوق متبادلة كما بين القريب وقريبه ، والمملوك سيّده . ومعنى الآية : فإن لم تعرفوا آباءهم أيها المؤمنون فهم إخوانكم في الدين ، وأولياؤكم فيه ، فليقل أحدكم : يا أخي ، أو يا مولاي ، يقصد بذلك الأخوّة والولاية في الدين . { غَفُوراً } : يغفر ذنوب عباده ، ويكفّر عنهم السيئات إذا تابوا { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] . { رَّحِيماً } : بعباده ومن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ ، ولم يؤاخذه على خطئه . المعنى الإجمالي أمر الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم بالتقوى واجتناب المحارم ، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين ، لأنهم أعداء الله ورسوله ، وأعداء المؤمنين ، لا يؤتمنون على شيء ، ولا يستشارون في أمر ، فظاهرهم غير باطنهم ، وصورتُهم غير حقيقتهم ، لذلك ينبغي الحذر منهم ، وعدم الاستجابة لهم ، والإعراض عنهم لأنهم فسقة خارجون عن طاعة الله عز وجلّ . والخطاب وإن كان في صورته موجهاً للنبي عليه السلام ، لكنّه في الحقيقة تعليم للأمة ، وإرشاد لها ؛ لتسلك طريق التقوى ، وتعمل بهدي القرآن . وقد استحدث أهل الجاهلية بدعاً غريبة ، ومنكراتٍ كثيرة ، زعموا أنّها من الدين ، فنزل القرآن الكريم مبطلاً لهذه البدع ، مغيّراً تلك الخرافات والأباطيل ، بالحق الساطع ، والبرهان القاطع ، مقرراً الأمر على أساس المنطق السليم . يقول الله تعالى ما معناه : " يا أيها النبي تحل بالتقوى ، وتمسّك بطاعة الله ، ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل وعدم التعرض لآلهتهم بسوء ، فإنّ الله عالم بأحوال العباد ، لا تخفى عليه خافية ، واتّبْع ما يوحيه إليك ربك ، من الشرع القويم ، والدين الحكيم ، ولا تخش وعيد أحدٍ من المشركين ، فإنّ الله معك فتوكل عليه ، والجأ في جميع أمورك إليه ، فهو الحافظ والناصر . ثم ردّ تعالى مزاعم أهل الجاهلية ، وما هم عليه من ضلالٍ وعنادٍ ، فبيّن أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً ، ولا الولد المتبنّى ابناً ، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] والابن الحقيقي هو الذي جاء من صلب ذلك الرجل فلا يمكن لإنسان أن يكون له أبوان ، فكيف يزعمون أنّ هؤلاء الزوجات أمهات ! ! وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم ، مع أنهم ليسوا من أصلابهم ! ! ذلك هو محض الكذب والافتراء على الله ، والله يقول الحق ويهدي إلى أقوم طريق . ثم أمر تعالى بنسبة هؤلاء إلى آبائهم ، لأنه أعدل وأقسط فقال : فإن لم تعرفوا - أيها المؤمنون - آباءهم ، فهم إخوانكم في الدين ، وأولياؤكم فيه ، فليقل أحدكم : يا أخي ويا مولاي يقصد أخوّة الدين وولايته ، وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به ولكنّ الذنب والإثم فيما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً ، يغفر لعباده زلاتهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم . سبب النزول روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أسباباً عديدة نذكر أصحها وأجمعها : أولاً : رُوي أنّ أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السّلمي ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينهم ، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ ، ومُعتّب بن قُشَيْر ، والجدّ بن قيس ، فتكلموا فيما بينهم ، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوه إلى أمرهم ، وعرضوا عليه أشياء ، وطلبوا منه أن يرفض ذكر ( اللاَّت والعُزّى ) بسوء . وأن يقول : إنّ لها شفاعة ، فكره صلى الله عليه وسلم ذلك ، ونزلت هذه الآية : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ } . ثانياً : وروي أنّ رجلاً من قريش يُدعى ( جميل بن مَعْمَر الفِهْري ) كان لبيباً ، حافظاً لما سمع ، فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلاّ وله قلبان في جوفه ، وكان يقول : " إن لي قلبين أعقل بكلّ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد " ، فلمّا كان يوم بدر ، وهُزِم المشركون - وفيهم يومئذٍ جميل بن مَعْمر - تلقَّاه ( أبو سفيان ) وهو معلّق إحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : ما حال الناس ؟ فقال : انهزموا ، قال : فما بال إحدى نعليك في يدك ، والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعَرْتُ إلاّ أنهما في رجليّ ! ! فعرفوا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان لما نسيَ نعله في يده فأنزل الله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ . … } الآية . ثالثاً : وروى السيوطي عن مجاهد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تبنّى ( زيد بن حارثة ) وأعتقه قبل الوحي ، فلمّا تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون : تزوّج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } الآية . رابعاً : وروى البخاري في " صحيحه " عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما كنّا ندعو ( زيد بن حارثة ) إلاّ زيد بن محمد ، حتى نزلت الآية الكريمة { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } . وجوه القراءات أولاً : قرأ الجمهور { إنّ اللَّهَ بما تَعْملون } بتاء الخطاب ، وقرأ أبو عمرو ( يعملون ) بياء الغَيْبة ، قال أبو حيّان : وعلى قراءة أبي عمرو يجوز أن يكون من باب الالتفات . ثانياً : قرأ الجمهور { اللاّئي تُظَاهرون منهنّ } بالهمز وياء بعدها ، وقرأ ( أبو عمرو ) بياء ساكنة ( واللايْ ) بدلاً من الهمزة ، وهي لغة قريش وقرأ ( ورش ) بياء مختلسة الكسرة . ثالثاً : قرأ الجمهور { تُظَاهرون منهنّ } بضم التاء ، وفتح الظّاء ، من ظاهر وقرأ ( أبو عمرو ) بشدّ الظاهر { تَظّاهرون } وقرأ هارون ( تَظْهَرون ) بفتح التاء والهاء ، وقد ذكر أبو حيّان في تفسيره " البحر المحيط " أنّ فيها تسع قراءات . رابعاً : قرأ الجمهور { وهو يَهْدي السّبيلَ } بفتح الياء مضارع هدى ، وقرأ قتادة ( يُهَدِّي ) بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الدال … وجوه الإعراب أولاً : قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ } جعل هنا بمعنى ( خلق ) فهي تنصب مفعولاً واحداً ، بخلاف قوله { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } فإنها بمعنى : ( صيّر ) تنصب مفعولين ، وقوله : ( من قلبين ) مِنْ صلة ( أي زائدة ) و ( قلبين ) مفعول جعل ، و ( في جوفه ) متعلق بجَعَل . ثانياً : قوله تعالى : { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } … الحقّ : منصوب لوجهين : أحدهما : أن يكون مفعولاً لـ ( يقول ) . والثاني : أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره : والله يقول القول الحق . ثالثاً : قوله تعالى : { وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ( ما ) يجوز فيها وجهان : الجرّ بالعطف على ( ما ) في قوله تعالى : { فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } . والرفعُ على الابتداء وتقديره : ولكنْ ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : نادى الله تعالى نبيّه بلفظ النبوة { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } كما ناداه جلّ ثناؤه بوصف الرسالة { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } [ المائدة : 41 ] ونداءُ اللَّهِ تعالى لنبيّه الكريم بلفظ ( النبوة ) أو وصف ( الرسالة ) فيه تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى أفضليته عليه السلام على جميع الأنبياء . كما فيه تعليم لنا الأدب معه ، فلا نذكره إلاّ بالإجلال والإكرام ، ولا نصفه إلاّ بما يدل على التوقير والتعظيم { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً … } [ النور : 63 ] . قال أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " ما نصُّه : " نداء النبي صلى الله عليه وسلم بـ ( يا أيها النبي ) ( يا أيها الرسول ) هو على سبيل التشريف والتكرمة ، والتنويه بمحلّه وفضيلته ، وجاء نداء غيره باسمه كقوله : يا آدم ، يا نوح ، يا إبراهيم ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى … وحيث ذكره على سبيل الإخبار عنه بأنه رسوله ، صرّح باسمه فقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } [ الفتح : 29 ] { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] أعلم أنّه رسوله . ولقّنهم أن يسمّوه بذلك . وحيث لم يقصد الإعلام بذلك جاء اسمه كما جاء في النداء - يعني بوصف النبوة أو الرسالة - كقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ } [ الفرقان : 30 ] وقوله : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] . اللطيفة الثانية : فإن قيل : ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى ، وهو سيّد المتقين ؟ ! فالجواب أنه أمرٌ بالاستدامة على التقوى كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] أي اثبتوا على الإيمان ، وقوله : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] بمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم . وقيل : إن الأمر خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم موجه إليه في الظاهر . والمراد به أمته ، بدليل صيغة الجمع التي ختمت بها الآية الكريمة { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } . قال الإمام الفخر رحمه الله : " الأمرُ بالشيء لا يكون إلاّ عند عدم اشتغال المأمور ، بالمأمور به ، إذ لا يصلُح أن يقال للجالس : اجلس ، وللساكت : اسكت ، والنبيّ عليه السلام كان متقياً لله فما الوجه فيه ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أنه أمر بالمداومة ، فإنه يصح أن يقول القائلُ للجالس : اجلس هٰهنا إلى أن أجيئك ، ويقول القائلُ للساكت : قد أصبتَ فاسكتْ تسلَمْ ، أي دمْ على ما أنتَ عليه . والثاني : أن النبيّ عليه السلام كلّ لحظة كان يزداد علمُه ومرتبتُه ، فكان له في كل ساعة تقوى متجدّدة . فقوله : ( اتق الله ) يراد منه الترقي الدائم ، فحاله فيما مضى كأنه بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل ، فناسب الأمر به صلى الله عليه وسلم بالتقوى . اللطيفة الثالثة : السرّ في تقديم القلبين في قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ } على بقية الأمور التي كان يعتقد بها أهل الجاهلية ، هو أنه بمثابة ضرب مثل ، والمثلُ ينبغي أن يكون أظهر وأوضح ، فهناك أمور ثلاثة باطلة هي من مخلّفات الجاهلية ، فكونُ الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع ، وجعلُ ( المُظَاهَر ) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من مخترعات الجاهلية ، وجعل ( المتبنّى ) ابناً في جميع الأحكام مما لا يقرّه شرع . ولمّا كان أظهرَ هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كونُ الرجل له قلبان ، قدّم الله جلّ ثناؤه ذلك ، وضربه مثلاً للظهار ، والتبني . فكأنّ الآية تقول : كما لا يكون لرجلٍ قلبان ، لا تكون المظاهَرُ منها أمّاً ، ولا المتبنّى ابناً ، والله أعلم بأسرار كتابه . اللطيفة الرابعة : التنكير في قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ } وإدخال ( مِنْ ) على الجملة بعده في قوله ( مِنْ قلبين ) يفيد العموم والاستغراق ، ومعنى الآية : ما خلقَ اللَّه لرجلٍ إطلاقاً ، أي رجلٍ كان قلبين في جوفه . فهو نفي للشيء بطريق ( التأكيد والاستغراق ) . وذكرُ الجوف وإن كان من المعلوم أنّ القلب لا يكون إلا بالجوف لزيادة التصوير في الإنكار ، والتكذيب للمدّعى ، فهو كقوله تعالى : { وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] . فإذا سمع الإنسان ذلك ، تصوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين . فسارع عقله إلى إنكاره . اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ } فيه إشارة لطيفة إلى أنّ هذا القول مجرّد كلام صادر من الأفواه فقط ، وليس له ظلّ من الحقيقة أو مصداق من الواقع . كما نقول : ( هذا حبرٌ على ورق ) أي ليس له وجود أو تطبيق . قال الزمخشري : ( من المعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالفم . فلماذا ذكر قوله ( بأفواهكم ) ؟ الجواب : أنّ فيه إشارة إلى أنّ هذا القول . ليس له من الحقيقة والواقع نصيب . إنما هو مجرد ادعاء باللسان . وقول مزعوم باطل نطقت به شفاههم دون أن يكون له نصيب من الصحة ) والله أعلم . اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } الآية . قال الإمام الفخر : فيه إشارة إلى معنى لطيف . وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل . وإمّا عن شرع . وفي الدّعي ( الولد المتبنّى ) لم توجد الحقيقة . ولا ورد الشرع . فإنّ قولهم : هذه زوجة الابن المتبنّى فتحرم . والله تعالى يقول : هي لك حلال . فقولهم لا اعتبار به لأنه قول من الأفواه مجرد عن الحقيقة كأصوات البهائم ، وقول الله حق فيجب اتباعه . وهو خير من أقوالكم التي عن قلوبكم . فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم ! ؟ . اللطيفة السابعة : صيغة ( فعيل ) في اللغة العربية تفيد المبالغة ، فقوله تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 17 ] إنما يقصد به المبالغة ، لأن الصيغة تقتضي ذلك ، ففرق في التعبير بين قولك ( عالم ، وعليم ، وعلاّم ) فالأولى ليس فيها إلا إثبات العلم ، وأما الثانية والثالثة ففيهما المبالغة ، لأنّ ( فعّال وفعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك : @ فَعَالٌ أو مِفْعَالٌ أو فَعُولُ في كَثْرةٍ عن فَاعِلٍ بديلُ فيستحقّ مالَهُ منْ عَمَل وفي فَعِيلٍ قلّ ذا وفعِل @@ فالمراد في الآية الكريمة من لفظه ( عليم ) أنه جلّ جلاله قد أحاط علمه بكل الأشياء ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . و ( الحكيم ) المبالغ في الحكمة الذي تناهت حكمته فشملت الأمر العظيم والشيء اليسير وكل ما جاء على ذلك الوزن إنما يقصد به المبالغة فتدبره . اللطيفة الثامنة : كانت العرب تزعم أنّ كل لبيبٍ أريب له في جوفه قلبان ، وقد اشتهر ( جميل بن مَعْمر ) عند أهل مكة بذكائه وقوة حفظه ، فكانوا يسمونه بذي القلبين ، وكانوا يخصونه بالمديح في أشعارهم كما قال بعض الشعراء : @ وكيفَ ثَوَائي بالمدينَةِ بعدَما قَضَى وَطْراً منها جميلُ بن مَعْمر @@ وكان هذا الجهول يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم منه . فلمّا بلغته هزيمة بدر طاش لبه ، وحدّث أبا سفيان بحديثٍ كان فيه كالمختل . وهو يحمل إحدى نعليه بيده ، والأخرى يلبسها في رجله وهو لا يدري ، فظهر للناس كذبه . وافتضح على رؤوس الأشهاد أمره . اللطيفة التاسعة : قوله تعالى : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } … أفعل التفضيل ليس ( على بابه ) لأنّ نسبتهم إلى غير آبائهم ظلم وعدوان ، فلا يقصد إذن التفضيل وإنما يقصد به الزيادة مطلقاً . والمعنى : دعاؤهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق نهايته . وهو القسط والعدل في حكم الله تعالى وقضائه … وجوّز بعضهم أن يكون ( على بابه ) جارياً على سبيل التهكّم بهم . والمعنى : دعاؤهم لغير آبائهم إذا كان فيه خير وعدل فهذا أقسط وأعدل ويكون ذلك جارياً مجرى التهكم والله أعلم . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل تقع المعصية من الأنبياء ؟ من المعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن ارتكاب الذنوب والمعاصي . فإنّ ( العصمة ) من صفاتهم . فلا يمكن أن تقع معصية من الأنبياء أو تحصل منهم مخالفة لأوامر الله عز وجلّ . لأنهم القدوة للخلق وقد أُمِرْنا باتّباعهم . فلو جاز عليهم الوقوع في المعصية لأصبحت طاعتهم غير واجبة أو أصبحنا مأمورين باتباعهم في الخير والشر . لذلك عصمهم الله من الذنوب والآثام ، فكل ما ورد في القرآن الكريم مما ظاهره يخالف ( عصمة الأنبياء ) فلا بدّ من فهمه على الوجه الصحيح حتى لا يتعارض مع الأصل العام . فقوله تعالى هنا { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ } لا يفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم مال إلى طاعتهم ، أو أحبّ موافقتهم على ما هم عليه من نفاقٍ وضلال . وإنما هو تحذيرٌ للأمة جاء في صورة خطابٍ للرسول عليه السلام ومما يدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } حيث جاء بصيغة الجمع وقد عرفت ما فيه . الحكم الثاني : هل الظهار محرّم في الشريعة الإسلامية ؟ دلت الآيات الكريمة على أن الظهار كان من العادات المتّبعة في الجاهلية وكان من أشدّ أنواع الطلاق . حيث تثبت به ( الحرمة المؤبدة ) وتصبح الزوجة المظاهَرُ منها - في اعتقادهم - أماً كالأم من النسب ، فأبطل الإسلام ذلك ، واعتبره بهتاناً وضلالاً ، وحرّم الظهار ولكنه جعل حرمته مؤقتة إلى أن يكفّر عن ظهاره . قال تعالى : { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ المجادلة : 2 ] فالظهار في الإسلام منكر ولكن له كفارة يتخلص بها الإنسان من الإثم ، وستأتي أحكام الظهار مفصّلة إن شاء الله عند تفسير سورة المجادلة . الحكم الثالث : هل يجوز التبني في الإسلام ؟ كما أبطل الإسلام الظهار أبطل ( التبني ) وجعله محرماً في الشريعة الإسلامية لأن فيه نسبة الولد إلى غير أبيه . وهو من الكبائر التي توجب السخط واللعنة فقد أخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ادّعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله تعالى منه صَرْفاً ولا عدلاً " . وجاء في الحديث الصحيح : " ليس من رجلٍ ادّعى لغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر " . وقال صلى الله عليه وسلم : " من ادّعى إلى غير أبيه - وهو يعلم أنه غير أبيه - فالجنة عليه حرام " . قال في " تفسير روح المعاني " : " وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه ، ولعلّ ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية … وأما إذا لم يكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل ( التحنن والشفقة ) يا ابني ، وكثيراً ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة " . وقال ( ابن كثير ) في تفسيره : ( فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبُّب ، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما روي عن ( ابن عباس ) رضي الله عنهما قال : قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع ، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول : أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ) . كما نادى النبي صلى الله عليه وسلم أنساً فقال له : يا بنيّ . الحكم الرابع : ما المراد بالخطأ والعمد في الآية الكريمة ؟ نفى الله سبحانه وتعالى الجُناح ( الإثم ) عمن أخطأ ، وأثبته لمن تعمّد دعوة الرجل لغير أبيه وقد اختلف المفسرون في المراد من ( الخطأ والعمد ) في الآية الكريمة على قولين : أ - ذهب ( مجاهد ) إلى أنّ المراد بالخطأ هنا ما كان قبل ورود النهي والبيان ، والعمد ما كان بعد النهي والبيان . ب - وذهب ( قتادة ) إلى أن الخطأ هنا ما كان عن غير قصد فقد أخرج ( ابن جرير ) عن قتادة أنه قال في الآية : ( لو دعوت رجلاً لغير أبيه ، وأنت ترى أي ( تظنّ ) أنه أبوه ، لم يكن عليك بأس ، ولكن ما تعمّدت وقصدتَ دعاءه لغير أبيه ) أي فعليك فيه الإثم . فعلى الرأي الأول يكون المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم ( الأدعياء ) أبناء قبل ورود النهي . وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم هو ما كان بعد ورود النهي ، ويصبح معنى الآية : ليس عليكم إثم أو حرج فيما فعلتموه من التبني في الجاهلية قبل أن تعرفوا أحكام الإسلام ، ولكن الحرج والإثم فيما فعلتموه بعد الإسلام ، وبيان الأحكام . وعلى الرأي الثاني يكون المراد بالخطأ ما وقع منهم عن غير قصد أو تعمد ، والعمد ما كان عن إصرار وقصد ، ويصبح معنى الآية : ولا جناح عليكم فيما سبق إليه اللّسان على سبيل الغلط من نسبة الإنسان إلى غير أبيه بطريق الخطأ أو النسيان ، وأمّا ما تقصّدتم نسبته إلى غير أبيه مع علمكم بأنّ هذا الولد من غيره فعليكم الإثم والحرج . وقد رجّح أبو حيّان في تفسيره " البحر المحيط " الرأي الثاني ، وضعّف الأول وقال : ( قوله تعالى : { فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } قيل : المراد به رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي ، وهذا ضعيف ، لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي . وقيل : فيما سبق إليه اللسان ، إمّا على سبيل الغلط ، أو على سبيل التحنّن والشفقة ، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير : يا بني ، كما يقول للكبير : يا أبي على سبيل التوقير والتعظيم ) . الحكم الخامس : ما هو حكم الاستلحاق في الشريعة الإسلامية ؟ الاستلحاق الذي أباحه الإسلام ، ليس من التبنّي المحرم المنهيّ عنه في شيء ، فإنّ من شرط الحلّ في الاستلحاق الشرعي أن يعلم ( المستلحق ) بكسر الحاء أنّ ( المستلحَق ) بفتح الحاء ابنه . أو يظنّ ذلك ظناً قوياً ، وحينئذٍ شرع له الإسلام استلحاقه . وأحلّه له . وأثبت نسبه منه . بشروط مبينة في كتب الفقه . أمّا التبنّي المنهيّ عنه فهو دعوى الولد مع القطع بأنه ليس ابنه ، وأين هذا من ذاك ؟ الحكم السادس : هل يباح قول : يا أخي أو يا مولاي ؟ ظاهر الآية الكريمة { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ } أنه يباح أن يقال في دعاء من لم يُعْرف أبوه : يا أخي ، أو يا مولاي ، إذا قصد الأخوّة في الدين ، والولاية فيه ، لا أخوّة النسب وقرابته ، فإن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ومعلوم أنه لا يراد بها أخوّة النسب فدلّ على جواز قول المسلم : هذا أخي يقصد بها أخوّة الإسلام وقرابة الدّين . وخصّ بعض العلماء ذلك بما إذا لم يكن المدعوّ فاسقاً . وكان دعاؤه بـ ( يا أخي ) أو ( يا مولاي ) تعظيماً له فإنه يكون حراماً ، لأننا نُهينا عن تعظيم الفاسق ، فمثل هذا يُدْعى باسمه ، أو بقولك : يا عبد الله ، أو يا هذا ، ففي الحديث الشريف ( لا تقولوا للمنافق يا سيّد ، فإنه إن يك سيّداً فقد أغضبتم ربكم ) . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - تقوى الله عز وجل زاد المؤمن . ووصية الله في الأولين والآخرين . ثانياً - من شروط الإيمان التوكل على الله ، والالتجاء إليه في جميع الأحوال والأوقات . ثالثاً - الخرافات والأساطير ليس لها وجود في شريعة الإسلام ولذلك حذّر الإسلام منها . رابعاً - ادعاء أنّ الرجل الأريب اللبيب له في جوفه قلبان دعوى باطلة مخالفة للشرع والعقل . خامساً - الاعتقاد بأن الزوجة ( المظاهَر منها ) تصبح أماً من مزاعم الجاهلية الجهلاء . سادساً - حرمة ( التبنّي ) في الإسلام ، ووجوب دعوة الأبناء ونسبتهم إلى آبائهم . سابعاً - جواز قول الإنسان يا ( أخي ) ويا ( مولاي ) إذا قصد أخوّة الدين وولايته . ثامناً - الله تعالى رحيم لا يؤاخذ العبد على ما صدر منه عن خطأ بل يعفو عنه ويغفر . خاتمة البحث : حكمة التشريع " بدعة التبني في الجاهلية " أشرقت شمس الإسلام على الإنسانية ، والأمة العربية لا تزال تتخبّط في ظلمات الجاهلية ، وتعيش في ضلالات وأوهام ، وتعتقد بخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان ، هي من بقايا مخلّفات ( العصر الجاهلي ) التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم . وما كان الإسلام ليتركهم في ضلالهم يتخبَّطون ، وفي سَكْرتهم يعمهون دون أن ينقذهم مما هم فيه من سفهٍ ، وجهالة ، وكفر ، وضلالة ! ! فكان من رحمة الله تعالى أن انتشل الأمة العربية ، من أوحال الجاهلية . وخلّصها من تلك العقائد الزائغة ، والأوهام الباطلة ، وغذاها بلَبَان الإيمان ، حتى أصبحت خير أُمّة أُخْرجت للناس . ولقد كانت ( بدعة التبنّي ) من أظهر بدع الجاهلية ، وتفشّت هذه البدعة حتى أصبحت ديناً متوارثاً ، لا يمكن تعطيله أو تبديله لأنه دين الآباء والأجداد ، { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] . كان العربي في الجاهلية . يتبنّى الرجل منهم ولد غيره ، فيقول له : ( أنتَ ابني أرثك وترثني ) فيصبح ولده وتجري عليه أحكام البنوّة كلها . من الإرث ، والنكاح ، والطلاق ، ومحرمات المصاهرة ، وغير ذلك مما يتعلق بأحوال الابن الصلبي على الوجه الشرعي المعروف . ولحكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ ألهم نبيّه الكريم - قبل البعثة والنبوة - أن يتبنى أحد الأبناء . جرياً على عادة العرب في التبني . ليكون ذلك تشريعاً للأمة في إنهاء حكم التبني . وإبطال تلك البدعة المنكرة ، التي درج عليها العرب ردحاً طويلاً من الزمن . فتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الأبناء ، هو ( زيد بن حارثة ) وأصبح الناس منذ ذلك الحين يدعونه ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم فتخلّى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تبنّيه ، وعاد نسبه إلى أبيه فأصبح يدعى زيد بن حارثة بن شرحبيل . أخرج البخاري ومسلم في " صحيحهما " عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " إنّ زيد بن حارثة ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل " . أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة - مع كراهته الشديدة لعادات الجاهلية - فهو لحكمةٍ يريدها الله ، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه عليه الصلاة والسلام . وخلاصة القصة : أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طي ، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب ، فسلبتهم أموالهم وذراريهم - على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب - فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه ، فاشترته السيدة ( خديجة بنت خويلد ) فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه ، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه . وكان أبوه ( حارثة بن شرحبيل ) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار ، وينشد فيه الأشعار ، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها : @ بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل @@ وبلغ ( حارثةَ ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد صلى الله عليه وسلم في مكة ، فقدم مع عمه ، حتى دخل على رسول الله ، فقال يا محمد : إنكم أهل بيت الله ، تفكّون العاني وتطعمون الأسير ، ابني عندك فامنن علينا فيه ، وأحسن إلينا في فدائه ، فإنك ابن سيّد قومه ، ولك ما أحببت من المال في فدائه ! ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيكم خيراً من ذلك ، قالوا ما هو ؟ قال : أخيّره أمامكم ، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء ، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً ، فقالوا : أحسنتَ فجزاك الله خيراً . فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا زيد : أتعرف هؤلاء ؟ قال : نعم ، هذا أبي ، وهذا عمي ، فقال يا زيد : هذا أبوك ، وهذا عمك ، وأنا من عرفت ، فاختر من شئت منا ، فدمعت عينا زيد وقال : ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً ، أنت مني بمنزلة الوالد والعم . فقال له أبوه وعمه : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية ؟ فقال زيد : لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان ، ما يجعلني لا استطيع فراقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس وقال : اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه ، ويرثني … فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلى الله عليه وسلم . فلم يزل في الجاهلية يدعى ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن الكريم . { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } فدُعي زيد بن حارثة . ونزل قوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ … } [ الأحزاب : 40 ] الآية . وانتهى بذلك حكم التبني . وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد .