Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 10-14)

Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ 1 ] حكم التماثيل والصور التحليل اللفظي { فَضْلاً } : أي أمراً عظيماً فضّلناه به على غيره ، والمراد به النبوة والزبور ، وقيل : ما خصّه الله تعالى به على سائر الأنبياء من النعم كتسخير الجبال ، والطير ، وإلانة الحديد ، وحسن الصوت ، وغير ذلك من النعم . { أَوِّبِي مَعَهُ } : أي سبّحي معه ، ورجّعي معه التسبيح قال تعالى : { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [ صۤ : 18 ] . قال القرطبي : فكان إذا قرأ الزبور صوّتت الجبال معه ، وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل . قال ابن قتيبة : وأصل التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً ، فكأنه أراد : ادأبي النهار كله بالتسبيح معه إلى الليل . وقيل المعنى : سيري معه حيث شاء ، من التأويب وهو السير ، قال ابن مقبل : @ لحقنا بحّيٍ أوّبوا السّيْر بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح @@ { سَٰبِغَاتٍ } : أي دروعاً واسعات ، فذكر الصفةَ لأنها تدل على الموصوف ، والسابغات : الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى تفضل عنه فيجرّها على الأرض . قال أبو حيّان : السابغات : الدروع ، وأصله الوصف بالسبوغ وهو التمام والكمال ، وغلب على الدروع فصار كالأبطح قال الشاعر : @ عليها أسودٌ ضارياتٌ لبَوسُهم سوابغُ بيضٌ لا يخرّقُها النبلُ @@ وقال القرطبي : أي كوامل تامات واسعة ، يقال : سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطّى كل ما هو عليه وفضل منه . { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } : أي في النسج ، والمراد : اجعله على قدر الحاجة ، لا تجعل حِلَق الدرع صغيرة فتنفصم الحَلْقة ، ولا واسعة فلا تقي صاحبها السهم والرمح . قال قتادة : كانت الدروع قبل داود صفائح فكانت ثقالاً ، فأُمر بأن يجمع بين الخفّة والحصانة ، ويقال لصانع الدروع سرّاد ، وزرّاد بإبدال السين بالزاي ، والسّرْد : إتباع الشيء بالشيء من جنسه قال الشمّاخ : @ فظلّت تِباعاً خيلُنا في بيوتكم كما تابعت سرْدَ العِنَان الخوارز @@ والسُّراد : السّير الذي يخرز به النعل . قال القرطبي : وأصل ذلك في سرد الدرع ، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلَقها وِلاءً غير مختلف قال لبيد : @ صنع الحديدَ مضاعفاً أسرادُه لينال طولَ العيش غير مروم @@ { عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } : قال الزجّاج : القِطر الصُّفْر وهو النحاس : أذيب لسليمان وكان قبل سليمان لا يذوب لأحد . قال المفسّرون : أجرى الله لسليمان عين الصُّفْر ، حتى صنع منها ما أراد من غير نار ، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار ، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء ، وإنما يعمل الناس اليوم مما أعطي سليمان . قال القرطبي : " وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدري ما حدّه ، ولعله وَهَم من الناقل ، والظاهر أنه جُعل النحاس لسليمان في معدنه عيناً تسيل كعيون المياه ، دلالة على نبوته " . { يَزِغْ } : أي يعدل عن الذي أمرناه به من طاعة سليمان ، يقال : زاغ أي مالَ وانصرف . { مَّحَٰرِيبَ } : أي قصور عظيمة ، ومساكن حصينة ، قال القرطبي : المحراب في اللغة : كل موضع مرتفع ، وقيل للذي يُصلّى فيه : محراب ، لأنه يجب أن يرفع ويعظّم ، قال الشاعر : @ جمع الشجاعة والخضوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب @@ وروي عن أبي عبيدة أنه قال : المحراب أشرف بيوت الدار ، وأنشد عدّي بن زيد : @ كدُمَى العاج في المحاريب أوكالْـ ـبيْض في الرّوض زهره مستنير @@ وقيل : هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة ، قال تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [ صۤ : 21 ] . وقيل المراد بالمحاريب : المساجد ، ونقل عن قتادة : أنها المساجد والقصور الشامخة . وسمي القصر بالمحراب لأنه يحارب من أجله ، ومما يرجح هذا الرأي أن الله تعالى ذكر أنها من عمل الجن ، ولعلّ عمل القصور الضخمة الشامخة كان مما يستعصي على الناس في ذلك الزمن لجهلهم بفن العمارة ، فكانت الجن مسخّرة لسليمان لتعمل له تلك الأعمال التي يعجز عنها البشر . { وَتَمَٰثِيلَ } : جمع تمثال وهو في اللغة : الصورة ، ومثّل الشيء : صوَّره حتى كأنه ينظر إليه ، قال في اللسان : ومثّل الشيء بالشيء ، سوّاه وشبّهه به ، وجعله مثله وعلى مثاله ، والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله ، وأصله من مثَّلْت الشيء بالشيء : إذا قدرته على قدره ، ومثال الشيء ما يماثله ويحكيه ، ولم يرد في القرآن هذا الوزن ( تِفْعال ) إلا في لفظين : ( تِلْقاء ، وتِبْيان ) . وقال القرطبي : " التمثال : كل ما صوّر على مثل صورة من حيوان ، أو غير حيوان " . { وَجِفَانٍ } : جمع جفنة ، وهي القصعة الكبيرة قال الشاعر : @ وإذا هاجت شمالاً أطعموا في قدورٍ مشبعات لم تُجَع وجفانٍ كالجوابي مُلئت من سمينات الذّرى فيها تَرَع @@ وقال الآخر : @ ثقال الجفون والحلوم رحاهم رحا الماء يكتالون كيلاً عذمذماً @@ قال أبو عبيدة : كان لعبد الله بن جدعان جفنة يأكل منها القائم والراكب ، وذكر المدائني أنه وقع فيها صبي فغرق . { كَٱلْجَوَٰبِ } : جمع جابية ، وهي الحوض الكبير يُجبى فيه الماء ، أي يجمع قال الأعشى : @ نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنةٌ كجابية الشيخ العراقيّ تَفْهَقُ @@ قال المفسرون : كان الجن يصنعون لسليمان القصاع كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها . { رَّاسِيَٰتٍ } : أي ثوابت ، يقال : رسا الشيء يرسو : إذا ثبت ، والمراد أنها لعظمها لا تنقل فهي ثابتة في أماكنها ، ومنه قيل للجبال : رواسي ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } [ المرسلات : 27 ] . قال ابن العربي : " راسيات : أي ثوابت لا تُحمل ولا تُحرّك لعظمها ، وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان ، يُصعد إليها في الجاهلية بسُلم ، وعنها عبّر ( طرفة بن العبد ) بقوله : @ كالجوابي لا تَني مُتْرعةً لِقرى الأضياف أو للمحتَضر @@ وقال ابن الجوزي : وفي علة ثبوتها في مكانها قولان : أحدهما أن أثافيّها منها قاله ابن عباس ، والثاني : أنها لا تنزل لعظمها ، قاله ابن قتيبة . الأثافي ( جمع الأثفية ) : ما توضع عليها القدر من حجارة وغيرها . { دَابَّةُ الأَرْضِ } : هي حشرة تسمّى ( الأرَضَة ) تأكل الخشب وتنخره . { مِنسَأَتَهُ } : المنسأة : العصا ، وهي ( مِفْعَلة ) من نسأتُ الدابة : إذا سقتَها . قال الشاعر : @ ضربنا بمنسأة وجهَه فصار بذاكَ مهيناً ذليلا @@ قال الزجّاج : وإنّما سميت منسأة لأنه يُنْسأ بها : أي يُطْرد ويُزْجر ، وقال الفراء : أهل الحجاز لا يهمزون ( المنسأة ) وتميم وفصحاء قيس يهمزونها ، قال الشاعر في ترك الهمزة : @ إذا دببتَ على المِنْساة من كِبَر فقد تباعد عنك اللهو والغزل @@ وقال آخر مع الهمز والفتح : @ أمن أجل حَبْل لا أبَاكَ ضربتَه بمنسَأةٍ قد جرّ حبلُك أحْبُلا @@ وقال أبو عمرو : وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً ، فإن كانت لا تهمز فقد احتطت ، وإن كانت تهمز فيجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز . { خَرَّ } : سقط على الأرض أي سقط ميتاً . { ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } : المراد به التكاليف والأعمال الشاقة التي كلّف سليمان عليه السلام بها الجن . قال المفسرون : كانت الإنس تقول : إن الجن يعلمون الغيب ، الذي يكون في المستقبل ، فوقف سليمان عليه السلام في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه ، فمات ومكث على ذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته ، حتى أكلت الأرَضة عصا سليمان ، فسقط على الأرض فعلموا موته ، وعلم الإنس أن الجنّ لا تعلم الغيب ، ولو علموا الغيب لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة . المعنى الإجمالي يخبر المولى تعالى بما أنعم على عبده ورسوله ( داود ) عليه السلام ، من الفضل المبين ، والجاه العظيم ، حيث جمع له بين ( النبوة والملك ) والجنود ذوي العَدَد والعُدَد ، وما منحه إياه من الصوت الرخيم ، الذي كان إذا سبّح به تسبّح معه الجبال الراسيات ، وإذا قرأ الزبور تقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات ، تكفّ عن طيرانها ثم تردّد معه الزبور مع التسبيح والتمجيد معجزة له عليه السلام ، وقد ألان الله تعالى له الحديد ، حتى كان بين يديه كالعجين ، يصنع منه الدروع السابغة ، التي تقي الإنسان شر الحروب ، كما قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } [ الأنبياء : 80 ] . وكما أنعم الله على ( داود ) أنعم على ولده ( سليمان ) عليهما الصلاة والسلام ، فسخّر له الريح ، وسخَّر الجن ، وعلّمه لغة الطير ، وأسال له عين النحاس فكانت عيناً جارية تسيل بقدرة الله ، وكانت الريح تقطع به المسافات الشاسعة الواسعة ، في ساعات معدودات ، تحمله مع جنده فتنتقل به من بلد إلى بلد ، ، وتسير به مسيرة شهرين في أقل من نهار واحد { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي تغدو به مسيرة شهر إلى نصف النهار ، وترجع به مسيرة شهر آخر النهار ، وكأنها ( طائرة نفاثة ) تحمل ذلك الجيش العرمرم وتنتقل به في ساعات محدودات ، تقطع به مسيرة شهرين . كما سخّر له الجن تعمل بأمره وإرادته ، ما يعجز عنه البشر ، من القصور الشامخة ، والتماثيل العجيبة والقصاع الضخمة التي تشبه الأحواض ، والقدور الراسيات التي لا تتحرك لكبرها وضخامتها ، وأمره أن يشكر الله على هذه النعم . ثمّ أخبر تعالى عن كيفية موت سليمان عليه السلام ، وكيف عمّى الله موته على الجانّ المسخّرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئاً على عصاه نحو سنة وهو ميت ، والجن لا تعلم ذلك حتى أكلت الأرَضَة العصا فكُسرت وسقط على الأرض فعلموا حينئذٍ موته ، ولو كانوا يعلمون الغيب ما مكثوا هذه المدة الطويلة مسخرين في الأعمال الشاقة التي كلفهم بها سليمان عليه السلام . وجه المناسبة لما سبق من الآيات مناسبة قصة ( داود ) وولده ( سليمان ) عليهما السلام لما سبق من الآيات الكريمة هي : أن الكفار لما أنكروا البعث والنشور لاستحالته في نظرهم ، أخبرهم الله عزّ وجل بوقوع ما هو مستحيل في العادة ، مما لا يمكنهم إنكاره من تأويب الجبال والطير ، وإلانة الحديد لداود حتى كان بين يديه كالشمع أو كالعجين مع أنه جرم صلب ، وكذلك تسخير الريح لسليمان تحمله مع جنده ، وإسالة النحاس له حتى كان يجري بقدرة الله كجري الماء ، وتسخير الجن تعمل له ما شاء من الأعمال الشاقة ممّا ليس في طاقة البشر ، وكل هذا أثر من آثار قدرة الله عزّ وجلّ ، فلا استحالة إذاً لأنّ الله على كل شيء قدير ، وهذه هي وجه المناسبة بين هذه الآيات الكريمة والآيات السابقة ، والله أعلم . وجوه القراءات أولاً : قرأ الجمهور ( أوّبي ) بالتشديد من التأويب أي رجّعي معه التسبيح ، وقرأ بعضهم ( أُوبي ) بضم الهمزة وتخفيف الواو ، من الأوب ، أي عودي معه في التسبيح كلّما عاد . قال أبو السعود : " كان كلّما سبّح عليه الصلاة والسلام يسمع من الجبال ما يسمع من المسبّح معجزة له " . ثانياً : قرأ الجمهور ( والطّيرَ ) بالنصب ، وقرأ أبو العالية ، وابن أبي عبلة ( والطيرُ ) بالرفع ، فأمّا قراءة النصب فهي عطف على قوله ( فضلاً ) أي وسخرنا له الطيرَ ، وأما قراءة الرفع فله وجهان : الأول : أن يكون عطفاً على الجبال ، والمعنى : يا جبال رجّعي التسبيح معه أنتِ والطيرُ ، والثاني : أن يكون على النداء ، والمعنى : يا جبالُ ويا أيّها الطيرُ سبّحي معه . ثالثاً : قوله تعالى : { أَنِ ٱعْمَلْ سَٰبِغَاتٍ } قراءة الجمهور بالسين ، وقرئ بالصاد { صابغات } مثل : ( سوط ) و ( صوط ) ، و ( مسيطر ) و ( مصيطر ) تبدل من الصاد السين . رابعاً : قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَٰنَ ٱلرِّيحَ } قرأ الجمهور بنصب الريح على معنى : وسخرنا لسليمان الريحَ ، وقرأ المفضّل عن عاصم ( الريحُ ) بالرفع على معنى : لسليمان الريحُ مسخرةٌ ، وقرأ أبو جعفر ( الرياحُ ) على الجمع . خامساً : قوله تعالى : { وَمَن يَزِغْ } قرأ الجمهور بالبناء للفاعل ( يَزغْ ) وقرئ بالبناء للمفعول ( يُزَغ ) من أزاغ الرباعي . سادساً : قوله تعالى : { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَٰبِ } قرأ الجمهور ( كالجواب ) بدون ياء ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ( كالجوابي ) بياء ، إلاّ أنَّ ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف ، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف . قال الزجّاج : " وأكثر القراء على الوقف بدون ياء ، وكان الأصل الوقف بالياء ، إلاّ أن الكسرة تنوب عنها " . سابعاً : قوله تعالى : { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } قرأ لجمهور بالهمز ( منسأته ) وقرأ نافع وأبو عمرو ( منساته ) من غير همز وهي لغة أهل الحجاز . ثامناً : قوله تعالى : { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } قرأ الجمهور بالبناء للفاعل ، وقرأ يعقوب ( تُبُيّنت ) بالبناء للمفعول . وجوه الإعراب أولاً : قوله تعالى : { آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } آتى : تنصب مفعولين لأنها بمعنى أعطى ، و { دَاوُودَ } مفعول أول ، و { فَضْلاً } مفعول ثان ، و { مِنَّا } الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لـ { فَضْلاً } أي فضلاً كائناً منا . ثانياً : قوله تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَٰبِغَاتٍ } قال أبو البركات ابن الأنباري : ( أنْ ) فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مفسِّرة بمعنى أي ، ولا موضع لها من الإعراب . والثاني : أن تكون في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر ، وتقديره : لأن تعمل ، أي ألنّا له الحديد لهذا الأمر ، و { سَٰبِغَاتٍ } أي دروعاً سابغات فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه . ثالثاً : قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } أي بعضهم لأنّ { مِنَ } للتبعيض . والجار والمجرور { مِنَ ٱلْجِنِّ } في محل رفع خبر مقدم ، و { مَن يَعْمَلُ } الجملة في محل رفع مبتدأ مؤخر ، والتقدير : ومن الجن عمّال مسخرون له ، وجوّز النحاة أن يكون قوله : { مَن يَعْمَلُ } في موضع نصب بفعل محذوف مقدر ، والتقدير : سخّرنا من الجنّ من يعمل بين يديه . أقول : وفيه تكلف والوجه الأول أوضح . رابعاً : قوله تعالى : { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } { مَنْ } : شرطية في موضع رفع على الابتداء ، و { نُذِقْهُ } جواب الشرط والجملة في محل رفع خبر المبتدأ . خامساً : قوله تعالى : { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } … { شُكْراً } منصوب لأنه مفعول له أي اعملوا من أجل شكر الله ، ويجوز أن تكون حالاً أي اعملوا شاكرين لله . أقول : وهذا أرجح ، قال ابن مالك : @ ومصدرٌ منكرٌ حالاً يقع بكثرة كبغتةً زيد طلع @@ وجوّز بعض النحاة : أن تكون مفعولاً به أي اعملوا الشكر ، وردّ ابن الأنباري هذا الوجه فقال : " ولا يكون منصوباً بـ ( اعملوا ) لأن ( اشكروا ) أفصح من ( اعملوا الشكر ) ا هـ ، وهذا القول وجيه فتدبره . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : خصّ الله تعالى نبيه ( داود ) عليه السلام ببعض الخصوصيات فسخّر له الجبال والطير تسبح معه ، وألان له الحديد ، وجمع له بين ( النبوة والملك ) كما جمع ذلك لولده ( سليمان ) عليه السلام ، وذلك من الفضل الذي أعطيه آل داود . قال ابن عباس : كانت الطير تسبّح مع داود إذا سبّح ، وكان إذا قرأ لم تبق دابة إلاّ استمعت لقراءته ، وبكت لبكائه . وقال وهب بن منبّه : كان يقول للجبال : سبّحي ، وللطير : أجيبي ثمّ يأخذ في تلاوة الزبور بصوته الحسن ، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه . اللطيفة الثانية : التنكير في قوله تعالى : { فَضْلاً } للتفخيم أي فضلاً عظيماً خصصناه به من بين سائر الأنبياء ، وقوله : { مِنَّا } فيه إشارة إلى أن هذا الفضل هائل ، لأنه صادر من الله تعالى مباشرةً تكريماً لنبيه داود ، كما قال تعالى عن العبد الصالح : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] . قال أبو السعود : وتقديم داود على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم ، والتشويق إلى المؤخر ، فإنّ ما حقه التقديم إذا أُخّر ، تبقى النفس مترقبة له ، فإذا ورد يتمكن عندها فَضْل تمكن . اللطيفة الثالثة : ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة ، ولم يجئ ذكره لتوفية قصة بتمامها ، وإنما هو لتعداد آلاء الله على سليمان ، فمنها ذكاؤه وبصره النافذ في الحكم والقضاء { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ } [ الأنبياء : 78 ] إلى قوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [ الأنبياء : 79 ] ومنها تعليمه منطق الطير { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } [ النمل : 16 ] ومنها تسخير الريح له تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب ، وفي القرآن إشارة إلى عملية صهر المعادن الصلبة { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } ومنها تسخير الجن يعملون له ما يعجز عنه البشر { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } [ صۤ : 37 ] وقوله : { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } وقد أعطاه الله الجاه الكبير ، والسلطان الواسع ، والملك العظيم الذي لم يُعطَه أحد بعده { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ صۤ : 35 ] . وكلّ هذا من الفضل الذي خصّ الله تبارك وتعالى به آل داود عليه السلام . اللطيفة الرابعة : قال العلامة أبو السعود رحمه الله : قوله تعالى : { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ } . " في تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المخاطبين ، المطيعين لأمره تعالى ، المذعنين لحكمه ، المشعر بأنه ما من حيوان وجماد وصامت وناطق ، إلاّ وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته ، من الفخامة المعربة عن غاية عظمة شأنه تعالى ، وكمال كبرياء سلطانه ما لا يخفى على أولى الألباب " . اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } فيه إيجاز بالحذف أي مسيرة شهر فهو على حذف مضاف والتقدير : غدوّها مسيرة شهر ، ورواحها مسيرة شهر ، وإنما وجب هذا التقدير لأنّ الغدوّ والرواح ليسا بالشهر ، وإنما يكونان فيه ، فتنبه له فإنه دقيق . قال قتادة : " كانت الريح تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار ، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار ، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين " . اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } الآية فإن قيل : إن الاجماع بالجن فيه مفسدة للإنسان ولهذا قال تعالى : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 97 - 98 ] فكيف سخّرت الشياطين لسليمان عليه السلام ؟ فالجواب : أن ذلك الاجتماع والتسخير كان بأمر الله عز وجل وتسخيره بدليل قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِ } فلم يكن فيه مفسدة وإنما كان فيه مصلحة لسليمان عليه السلام ، ولفظ الرب ينبئ عن التربية والحفظ والرعاية ، فسليمان عليه السلام كان في حفظ الله ورعايته ، فلذلك لم يصله ضرر من جهتهم . اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } في الآية الكريمة إشارة دقيقة إلى أنّ الجن الذين كانوا مسخّرين لسليمان ، لم يكونوا من المؤمنين وإنما كانوا من المردة الكافرين ، لأنّ سليمان لا يعذِّب المؤمنين ولا يذيقهم أنواع العذاب ، لأن كلّ رسول يكون رحيماً بأتباعه . ودلّ على هذا المعنى أيضاً قوله تعالى : { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين . اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } فيه إشارة إلى أن الشكر الوافر الكامل ، بالقلب واللسان والجوارح لا يمكن أن يتحقق ، لأن التوفيق لشكر الله تعالى نعمة من الله تستدعي شكراً آخر ، لا إلى نهاية ، ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر ، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه و { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . ومع ذلك فإن الشكر بقدر الطاقة قليل في الناس ، والكفرانَ لنعم الله أكثر ولا حول ولا قوة إلا بالله . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل كانت التماثيل مباحة في شريعة سليمان عليه السلام ؟ يدل ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ } على حل اتخاذ التماثيل ، وعلى أنها كانت مباحة في شريعة سليمان عليه السلام ، فالقرآن الكريم صريح في امتنان الله تعالى على ( سليمان ) بأن سخّر له الجن لتعمل له ما يشاء من ( محاريب ، وتماثيل ، وجفان كالجواب ، وقدور راسيات ) وتخصيصُ هذه الأشياء بالذكر في معرض الإمتنان دليل على جوازها ، وإذنٌ من الله تعالى باتخاذها ، وللعلماء في هذه الآية الكريمة أقوال نجملها فيما يلي : أ - إن التماثيل التي أشار إليها القرآن كانت مباحة في شريعة سليمان ، وقد نسخت في الشريعة الإسلامية ، ومن المعلوم أن شريعة من قبلنا إنما تكون شريعة لنا إذا لم يرد ناسخ ، وقد وجد هذا الناسخ فيكون اتخاذ التماثيل محرماً في شريعتنا قطعاً . ب - إن التماثيل التي كانت في عهد نبي الله سليمان عليه السلام ، لم تكن تماثيل لذي روح من إنسان أو طير أو حيوان ، وإنما كانت تماثيل لما لا روح له كالأشجار والبحار والمناظر الطبيعية ، فتكون شريعته عليه السلام موافقة لشريعتنا كما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى . الحكم الثاني : ما هو حكم التماثيل والصور في الشريعة الإسلامية ؟ نعى القرآن الكريم على التماثيل وشنّع على من كان يعكف عليها { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 52 ] وندّد بمن يتخذ الأصنام والأوثان آلٰهة { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] ؟ . وفي القرآن الكريم من قصص إبراهيم عليه السلام في تحطيم الأصنام ما هو معروف ، وقد ورد أنّ رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم حطّم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة ، والتي كانت على الصفا والمروة . والدين الإسلامي دين التوحيد ، وعدوّ الشرك ، وليس في الإسلام ذنب أعظم من الشرك ، ولذلك فقد كانت حملته شديدة على الوثنية وعبادة الأصنام ، وحرّمت الشريعة الإسلامية ( التماثيل ) لأنها تؤدي إلى ذلك المنكر الفاحش . والسنَّةُ المطهّرة جاءت بالنعي على التصوير والمصورين ، والنهي عن اتخاذ الصور والتنفير منها ، ولذلك فإنّ من المقطوع به أن الإسلام حرّم التماثيل والتصاوير تحريماً قاطعاً جازماً . وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على التحريم ، حتى كادت تبلغ حد التواتر ، وسنعرض إلى ذكر بعض هذه النصوص فنقول ومن الله نستمد العون . الأدلة القاطعة على تحريم التصوير النص الأول : روى البخاري ومسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله " . النص الثاني : روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم " . النص الثالث : روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي زُرعة قال : دخلتُ مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم ، فرأى فيها تصاوير وهي تُبنى ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عزّ وجلّ : " ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرّة ، أو فليخلقوا حبة ، أو فليخلقوا شعيرة " . النص الرابع : روى البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إني أصوّر هذه الصور فأفْتني فيها ، فقال له : ادن مني فدنا ، ثم قال : ادن مني فدنا ، حتى وضع يده على رأسه وقال : أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعته يقول : " كلّ مصوّر في النار ، يُجعل له بكل صورة صوّرها نفس فيعذبه في جهنم " . قال ابن عباس : فإن كنت لا بدّ فاعلاً فصوّر الشجر ، وما لا روح فيه . وفي رواية أخرى عنه : سمعته يقول : " من صوّر صورة فإنّ الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً " ثم قال له ابن عباس : ( إن أبيت إلاّ أن تصنع ، فعليك بهذه الشجر ، كل شيء ليس فيه روح ) . النص الخامس : روى الشيخان وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير ، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل ، قالت : فعرفت في وجهه الكراهية ، فقلت يا رسول الله : أتوب إلى الله ورسوله ماذا أذنبت ؟ فقال : ما بال هذه النمرقة ؟ قلت : اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسّدها ، فقال : إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، فيقال لهم : أحيوا ما خلقتم ، وقال : إنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة . النص السادس : روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي عليّ رضي الله عنه : " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته " . النص السابع : ( روى الستة عن عائشة رضي الله عنها قالت : " خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأخذت نمطاً فسترته على الباب ، فلما قدم ورأى النمط عرفت الكراهة في وجهه ، فجذبه حتى هتكه وقال : " إنّ الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين ! ! " قالت عائشة : فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفاً ، فلم يعب ذلك عليّ ) . النص الثامن : روى الشيخان والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعضُ نسائه كنيسةً يقال لها ( مارية ) وكانت أم سلمة ، وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة ، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها ، فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه فقال : " أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ ، بنوا على قبره مسجداً ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور ، أولئك شرارُ خلق الله " . أقول : هذه النصوص وأمثَالها كثير ، تدل دلالة قاطعة على حرمة التصوير ، وكلُ من درس الإسلام علِمَ عِلْمَ اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم التصوير ، واقتناء الصور وبيعها ، وكان يحطّم ما يجده منها ، وقد ورد تشديد الوعيد على المصوّرين ، واتفق أئمة المذاهب على تحريم التصوير لم يخالف في ذلك أحد ، ولبعض العلماء استثناء شيء منها ، سنذكره فيما بعد ، كما نذكر علة التحريم ، ونعرّج بعد ذلك على حكم التصوير الشمسي ( الفوتوغرافي ) وننقل آراء العلماء فيه على ضوء النصوص الكريمة . العلة في تحريم التصوير يظهر لنا من النصوص النبوية السابقة ، أنّ العلة في تحريم التماثيل والصور ، هي ( المضاهاة ) والمشابهة لخلق الله تعالى ، يدل على ذلك : أ - حديث : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله " . ب - وحديث : " إن أصحاب هذه الصور يُعذّبون … يقال لهم : أحيوا ما خلقتم " . جـ - وحديث : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي … فليخلقوا حبة ، أو فليخلقوا شعيرة " . فالعلة هي إذاً : التشبه بخلق الله ، والمضاهاة لصنعه جل وعلا . كما أن الحكمة أيضاً في تحريم التصوير هي : البعد عن مظاهر الوثنية ، وحماية العقيدة من الشرك ، وعبادة الأصنام ، فما دخلت الوثنيّة إلى الأمم الغابرة إلاّ عن طريق ( الصور والتماثيل ) كما دل عليه حديث أم سلمة وأم حبيبة السابق وفيه قوله عليه الصلاة والسلام : " أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجداً ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار خلقِ الله يوم القيامة " . وقد روي أن الأصنام التي عبدها قوم نوح ( وَدّ ، وسُوَاعٌ ، ويغُوثُ ، ويعُوقُ ، ونسْرُ ) التي ذكرت في القرآن الكريم ، كانت أسماءً لأناسٍ صالحين من قوم نوح ، فلما ماتوا اتخذ قومُهم لهم صوراً ، تذكيراً بهم وبأعمالهم ، ثمّ انتهى الحال آخر الأمر إلى عبادتهم . ذكر الثعلبي عن ابن عباس : في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [ نوح : 23 ] أنه قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم ، أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً ، وسموها بأسمائهم تذكروهم بها ، ففعلوا ، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ، ونُسخ العلم عبدت من دون الله " . قال أبو بكر ابن العربي : " والذي أوجب النهي في شريعتنا - والله أعلم - ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان والأصنام ، فكانوا يصوّرون ويعبدون ، فقطعَ اللَّهُ الذريعة ، وحَمَى الباب " . قال ابن العربي : " وقد شاهدت بثغر الإسكندرية ، إذا مات ميّت صوّروه من خشب في أحسن صورة ، وأجلسوه في موضعه من بيته وكسوه بزيّه إن كان رجلاً ، وحليتها إن كانت امرأة ، وأغلقوا عليه الباب ، فإذا أصاب واحداً منهم كرب أو تجدّد له مكروه ، فتح الباب عليه وجلس عنده يبكي ويناجيه ، حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه ، ثمّ يغلق الباب عليه وينصرف ، وإن تمادى بهم الزمان تَعّبدوها من جملة الأصنام " . أنواع الصور قسم العلماء الصّور إلى قسمين : أ - الصور التي لها ظل وهي المصنوعة من جبس ، أو نحاسٍ ، أو حجر أو غير ذلك وهذه تسمى ( التماثيل ) . ب - الصور التي ليس لها ظل ، وهي المرسومة على الورق ، أو المنقوشة على الجدار ، أو المصوَّرة على البساط والوسادة ونحوها وتسمى ( الصور ) . فالتمثال : ما كان له ظل ، والصورة : ما لم يكن لها ظل ، فكل تمثال صورة ، وليس كل صورة تمثالاً . قال في " لسان العرب " : " والتمثال : الصورة ، والجمع التماثيل ، وظلّ كل شيء تمثاله ، والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبّهاً بخلقٍ من خلق الله ، وأصله : من مثّلت الشيء بالشيء إذا قدّرته على قدره ، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهاً به ، واسم ذلك الممثّل تمثال " . وقال القرطبي : قوله تعالى : { وَتَمَٰثِيلَ } جمع تمثال ، وهو كلّ ما صُوّر على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان ، وقيل : كانت من زجاج ، ونحاس ، ورخام ، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء ، وكانت تصوّر في المساجد ليراها الناس ، فيزدادوا عبادة واجتهاداً . فإن قيل : كيف استجاز الصور المنهيّ عنها ؟ قلنا : كان ذلك جائزاً في شرعه ، ونسخ ذلك بشرعنا . ما يحرم من الصور والتماثيل يحرم من الصور والتماثيل ما يأتي : أولاً : التماثيل المجسّمة إذا كانت لذي روح من إنسان أو حيوان يحرم بالإجماع للحديث الشريف : " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ، ولا صورة ، ولا تماثيل ، ولا جنب " . ثانياً : الصورة المصوّرة باليد لذي روح : حرام بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم " ولحديث : " من صوّر صورة أُمر أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ " . ثالثاً : الصورة إذا كانت كاملة الخلق بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح حرام كذلك بالاتفاق لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق : " أُمِرَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " . ولحديث عائشة : ( دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرامٍ فيه صورة ، فتلوّن وجهه ثم تناول الستر فهتكه ، ثم قال : " إنّ من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُشبّهون خلق الله " قالت عائشة : فقطعته فجعلت منه وسادتين ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتفق بهما ) . فهتْكُه عليه السلام للستر يدلُّ على التحريم ، وتقطيع عائشة له وجعله وسادتين بحيث انفصلت أجزاء الصورة ولم تعد صورة كاملة يدل على الجواز ، فمن هنا استنبط العلماء أن الصورة إذا لم تكن كاملة الأجزاء فلا حرمة فيها . رابعاً : الصورة إذا كانت بارزة تشعر بالتعظيم ، ومعلّقة بحيث يراها الداخل حرام أيضاً بلا خلاف لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان له ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حوّلي عني هذا ، فإني كلّما رأيته ذكرتُ الدنيا ) . ولحديث أبي طلحة عن عائشة قالت : ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأخذت نَمَطاً فسترته على الباب ، فلما قدم ورأى النّمَط عرفت الكراهية في وجهه ، فجذبه حتى هتكه وقال : إنّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين ، قالت : فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفاً ، فلم يعب ذلك عليَّ ) . ما يباح من الصور والتماثيل ويباح من الصور والتماثيل ما يأتي : أ - كل صورة أو تمثال لما ليس بذي روح كتصوير الجمادات ، والأنهار ، والأشجار ، والمناظر الطبيعية التي ليست بذات روح فلا حرمة في تصويرها لحديث ابن عباس السابق حين سأله الرجل إني أصوّر هذه الصور فأفتني فيها ؟ … فأخبره بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له ابن عباس : ( إن كنت لا بدَ فاعلاً فصوّر الشجر ، وما لا روح له ) . ب - كل صورة ليست متصلة الهيئة كصورة اليد وحدها مثلاً ، أو العين ، أو القدم ، فإنها لا تحرم لأنها ليست كاملة الخلق ، لحديث عائشة : ( فقطعتها فجعلت منها وسادتين فلم يعب صلى الله عليه وسلم ذلك علي ) وقد تقدم . جـ - ويستثنى من التحريم ( لعب البنات ) لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين ، وزُفّت إليه وهي بنت تسع ولُعَبُها معها ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة . وروي عنها أنها قالت : " كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صواحب يلعبن معي ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسرّبُهنّ إليّ فيلعبن معي . قال العلماء : وإنما أبيحت لعب البنات للضرورة إلى ذلك ، وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهنّ ، ثم إنه لا بقاء لذلك ، ومثله ما يصنع من الحلاوة أو العجين لا بقاء له ، فرُخّص في ذلك والله أعلم . أقوال العلماء في التصوير قال القاضي ابن العربي : مقتضى الأحاديث يدل على أن الصور ممنوعة ، ثم جاء : " إلاّ ما كان رقماً في ثوب " فخُص من جملة الصور ، ثمّ ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب المصوّر ، " أخّريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا " ، ثمّ بهتكه الثوب المصوّر على عائشة منع منه ، ثمّ بقطعها له وسادتين تغيّرت الصورة وخرجت عن هيئتها ، فإنّ جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز ، لقولها في النّمرقة المصورة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوَسّدها ، فمنع منه وتوعّد عليه ، وتبيّن بحديّث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ، ثم نسخه المنع منه ، فهكذا استقرّ الأمر فيه . وقال أبو حيان : " والتصوير حرام في شريعتنا ، وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين ، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها ، وفي حديث ( سهل بن حنيف ) : لعن الله المصورين ، ولم يستثن عليه السلام ، وحكي أن قوماً أجازوه ، قال ابن عطية : وما أحفظ من أئمة العلم من يجوّزه " . وقال الألوسي : " الحقُّ أنَّ حرمة تصوير الحيوان كاملاً لم تكن في شريعة سليمان عليه السلام ، وإنما هي في شرعنا ، ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل ، أو لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد ، أو جدارٍ مثلاً ، وقد ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصوّرين ما ورد ، فلا يُلْتفت إلى غيره ، ولا يصح الاحتجاج بالآية " . وقال القرطبي : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن ، وقال : " إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم " وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرج عُنق من النار يوم القيامة ، له عينان تبصران ، وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق يقول : إني وكّلت بثلاث : بكلّ جبَّارٍ عنيد ، وبكلّ من دعا مع الله إلٰهاً آخر ، وبالمصورين " . وفي البخاري " أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون " يدل على المنع من تصوير أيّ شيء كان . وقال الإمام النووي : إنَّ جواز اتخاذ الصور إنما هو إذا كانت لا ظل لها ، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس ، أو يمتهن بالاستعمال كالوسائد . وقال العلامة ابن حجر في شرحه للبخاري : " حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حَرُمَ بالإجماع ، وإن كانت رقماً في ثوب فأربعة أقول : الأول : يجوز مطلقاً عملاً بحديث إلا رقماً في ثوب . الثاني : المنع مطلقاً عملاً بالعموم . الثالث : إن كانت الصورة باقية بالهيئة ، قائمة الشكل حرم ، وإن كانت مقطوعة الرأس ، أو تفرقت الأجزاء جاز ، قال : وهذا هو الأصح . الرابع : إن كانت مما يمتهن جاز وإلاّ لم يجز ، واستثني من ذلك لعب البنات . ا هـ . حكم التصوير الفوتوغرافي يرى بعض المتأخرين من الفقهاء أن التصوير الشمسي ( الفوتوغرافي ) لا يدخل في ( دائرة التحريم ) الذي يشمله التصوير باليد المحرّم ، وأنه لا تتناوله النصوص النبوية الكريمة التي وردت في تحريم التصوير ، إذ ليس فيه ( مضاهاة ) أو مشابهة لخلق الله ، وأن حكمه حكم الرقم في الثوب المستثنى بالنص . يقول فضيلة الشيخ السايس ما نصه : " ولعلك تريد أن تعرف حكم ما يسمى بالتصوير الشمسي فنقول : يمكنك أن تقول إنّ حكمها حكم الرقم في الثوب ، وقد علمت استثناءه نصاً ، ولك أن تقول : إنّ هذا ليس تصويراً ، بل حبساً للصورة ، وما مَثَلُه إلا كمثل الصورة في المرآة ، لا يمكنك أن تقول إن ما في المرآة صورة ، وإن أحداً صوّرها . والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة ، غايةُ الأمر أن المرآة ( الفوتوغرافية ) تثبت الظل الذي يقع عليها ، والمرآة ليست كذلك ، ثم توضع الصورة أو الخيال الثابت ( العفريته ) في حمض خاص فيخرج منها عدة صور ، وليس هذا بالحقيقة تصويراً ، فإنه إظهار واستدامة لصور موجودة ، وحبس لها عن الزوال ، فإنهم يقولون : إن صور جميع الأشياء موجودة غير أنها قابلة للانتقال بفعل الشمس والضوء ، ما لم يمنع من انتقالها مانع ، والحمض هو ذلك المانع ، وما دام في الشريعة فسحة بإباحة هذه الصور ، كاستثناء الرقم في الثوب فلا معنى لتحريمها خصوصاً وقد ظهر أن الناس قد يكونون في أشد الحاجة إليها " ا هـ . أقول : إن التصوير الشمسي ( الفوتوغرافي ) لا يخرج عن كونه نوعاً من أنواع التصوير ، فما يخرج بالآلة يسمّى ( صورة ) ، والشخص الذي يحترف هذه الحرفة يسمى في اللغة والعرف ( مصوّراً ) فهو وإن كان لا يشمله النص الصريح ، لأنه ليس تصويراً باليد ، وليس فيه مضاهاة لخلق الله ، إلاّ أنه لا يخرج عن كونه ضرباً من ضروب التصوير ، فينبغي أن يقتصر في الإباحة على ( حدّ الضرورة ) ، وما يتحقق به من المصلحة ، قد يكون إلى جانبها مفسدة عظيمة ، كما هو حال معظم المجلات اليوم ، التي تنفث سمومها في شبابنا وقد تخصّصت للفتنة والإغراء ، حيث تُصَوَّر فيها المرأةُ بشكل يندى له الجبين ، بأوضاع وأشكال تفسد الدين والأخلاق . فالصور العارية ، والمناظر المخزية ، والأشكال المثيرة للفتنة ، التي تظهر بها المجلات الخليعة ، وتملأ معظم صفحاتها بهذه الأنواع من المجون ، مما لا يشك عاقل في حرمته ، مع أنه ليس تصويراً باليد ، ولكنه في الضرر والحرمة أشد من التصوير باليد . ثمّ إن العلة في التحريم ليست هي ( المضاهاة ) والمشابهة لخلق الله فحسب ، بل هناك نقطة جوهرية ينبغي التنبه لها وهي أن ( الوثنية ) ما دخلت إلى الأمم السابقة إلاّ عن طريق ( الصور ) ، حيث كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح ، صوّروه تخليداً لذكراه ، واقتداءً به ، ثمّ جاء مَنْ بعدَهم فعبدوا تلك الصورة من دون الله ، فما يفعله بعض الناس من تعليق الصور الكبيرة المزخرفة في صدر البيت ، ولو كانت للذكرى ، وليست تصويراً باليد ، مما لا تجيزه الشريعة الغراء ، لأنه قد يجر في المستقبل إلى تعظيمها وعبادتها ، كما فعل أهل الكتاب بأنبيائهم وصلحائهم . فإطلاق الإباحة في التصوير الفوتوغرافي ، وأنه ليس بتصوير وإنما هو حبس للظلّ ، مما لا ينبغي أن يقال ، بل يقتصر فيه على حد الضرورة ، كإثبات الشخصية ، وكلِّ ما فيه مصلحة دنيوية مما يحتاج الناس إليه والله تعالى أعلم . الشبه الواردة على تحريم التصوير يذهب بعض أدعياء العلم ، ممن تأثروا بالثقافة الغربية ، إلى إثارة بعض الشبه على تحريم التصوير ، بقصد التزلف إلى الحضارة الغربية ، والاندماج فيما خيّل لهم أنه فنّ راق ، وذوق سليم ، أو بقصد التقرب إلى المترفين ومسايرتهم على أهوائهم ، لينالوا بعض المناصب . الشبهة الأولى : يزعمون أنّ ما ورد من نصوص في تحريم التصوير ، إنما هو إجراء مؤقت اقتضته ظروف الدعوة الإسلامية ، لمجابهة الشرك والوثنية ، وأنّ الغاية هي قطع الطريق على الوثنية ، فلمّا زال الخوف من عبادة الأوثان والأصنام زالت الحاجة إلى تحريم التصوير . وللرد على هذه الشبهة سنكتفي بنقل كلام فضيلة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في دحض هذه الشبهة ، حيث جاء في تعليقه على الحديث ( 7166 ) من " المسند " ما نصه : " وكان من حجة أولئك … أن تأولوا النصوص بعلة لم يذكرها الشارع ، ولم يجعلها مناط التحريم - في ما بلغنا - أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد بالوثنية . أمّا الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل ، فقد ذهبت علة التحريم ، ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان . وقد نسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة ، بالتقريب إلى القبور وأصحابها ، واللجوء إليها عند الكروب والشدائد ، وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر بها أصحابها . وكان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة : أن ملئت بلادنا بمضاهر الوثنية الكاملة ، فنصبت التماثيل وملئت بها البلاد ، تكريماً لذكرى من نسبت إليه وتعظيماً ، ثمّ يقولون لنا : إنها لم يقصد بها التعظيم ، ثم صنعت الدولة - وهي تزعم أنها إسلامية في أمة إسلامية - معهداً للفنون الجميلة … معهداً للفجور الكامل الواضح ، يدخله الشبان الماجنون ، من الذكور والإناث ، يقفن عرايا ، ويجلسن عرايا ويضطجعن عرايا ، وعلى كل وضع من الأوضاع الفاجرة ، لا يسترون شيئاً ، ثمّ يقولون لنا : هذا فن … ! ؟ " . الشبهة الثانية : يقولون : إن الأحاديث الدالة على التحريم ، هي أحاديث آحاد ولا تفيد القطع ، وإنه لا يمكن أن ننسب إلى الإسلام تحريم ( فنّ ) من الفنون ما لم يكن هناك نصٌ قطعيٌ بالحرمة . وللرد على هذه الشبهة نقول : " هذا جهل فاضح بأحكام الشريعة الغراء ، فإن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول ، أو فعل ، أو عمل ، يجب الأخذ به سواء كان النقل بطريق التواتر ، أو بطريق الآحاد ، هذا متفق عليه بين العلماء ، ومن المعلوم بالضرورة أن أكثر الأحكام الفقهية الشرعية إنما ثبتت بخبر الآحاد ، فلو كانت أخبار الآحاد لا تفيد القطع - كما زعموا - لضاعت أكثر أحكام الشريعة ، وهذا كلام لا يصدر عن فقيه عالم ، إنما يصدر عن جاهل بأصول الشريعة الغراء ، وطرق استنباط الأحكام . ومن المفارقات العجيبة أنّ الذين يحتجون بأمثال هذه الحجج الواهية ، يأخذون بأحاديث - لإثبات رأيهم - لا تصلح للاحتجاج لنكارتها ، وضعف سندها ، وجهل رواتها ، ولكنها لما كانت موافقة لأهوائهم يتمسكون بها ، ويجادلون بشـأنها ، شأن أهل الأهواء . وقد ردّ الأصوليون : وفي مقدمتهم الإمام الشافعي رحمه الله على هذه الشبهة رداً شافياً ، وبيَّنوا أن خبر الآحاد يلزم العمل به إذا ثبت ، ولم يزل العلماء المسلمون يعملون بأخبار الآحاد ويحتجون بها ، لأن في إبطالها إبطالاً لأكثر أحكام الشريعة . ومن جهة ثانية : فإنّ النصوص الواردة في تحريم التصوير بلغت حدّ التواتر ، وتناقلها المسلمون جيلاً عن جيل ، فلا مجال للمتشككين أن يدخلوا من هذا الباب ، ونزيدك علماً بأن الشعوب الإسلامية لم يوجد فيها تصوير أو نحت بقدر كبير ، وأنّ الفنّانين المسلمين انصرفوا عن التصوير ، وصنع التماثيل ، إلى استخدام النقش الهندسي ، والتزيين العربي ، والتشكيل النباتي وغيرها … وكلّ ذلك بسبب ما يعلمون من تحريم الإسلام للتصوير ، فلو لم يكن في اعتقادهم محرماً لما تركوه وانصرفوا إلى غيره ، ويكفي هذا للرد على أولئك الزاعمين . الشبهة الثالثة : يستشهدون على إباحة التصوير بآيات من القرآن الكريم ، لا يصح الاحتجاج بها لأنها ليست من شريعتنا ، وإنما هي من الشرائع السابقة المنسوخة بشريعة الإسلام ، منها الآية الكريمة التي هي موضوع بحثنا وهي قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] . فإن هذه الآية الكريمة ليس فيها ما يدل على حل التصوير ، لأنها إخبار عمّا كان يعمله الجن لسليمان عليه السلام ، وليس فيها ما يدل على أن التماثيل كانت لذي روح ، ومع ذلك فإنها شريعة سابقة ، وقد نصّ العلماء على أنّ ( شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم يرد ناسخ ) ، وقد ورد الناسخ في الشريعة الإسلامية فلا حجة فيها . وهذه القاعدة : متفق عليها علماء المسلمين ، فالسجود بقصد التحية لغير الله تعالى كان جائزاً في شريعة يوسف عليه السلام ، وقد حرّمه شرعنا فلا يصح الاحتجاج بما ذكره الله من سجود أخوة يوسف له على إباحة السجود لغير الله ، وشريعتنا ناسخة لما قبلها من الشرائع وقد حرمت التماثيل فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية الكريمة والله أعلم . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً : الفضل العظيم الذي خصّ الله تعالى به نبيه داود عليه السلام . ثانياً : تسبيح الجبال والطير مع النبي ( داود ) كان معجزة له عليه السلام . ثالثاً : الصناعات والحِرَف لا تحط من قدر الأنبياء ، فداودُ عليه السلام علّمه الله صنعة الدروع . رابعاً : سخّر الله لسليمان الريح تجري بأمره ، كما سخر لأبيه الجبال والطير تكريماً له عليه السلام . خامساً : الجن كانت تعمل لسليمان عليه السلام ما يعجز عنه البشر من الأعمال بأمر الله تعالى . سادساً : صنعُ التماثيل كان مباحاً في شريعة النبي سليمان عليه السلام ثم نسخ في الشريعة الإسلامية . سابعاً : منصب " النبوّة " أعلى من منصب " المُلْك " وقد جمع الله لسليمان بين النبوة والملك . ثامناً : فضل الله عظيم على عباده وخاصة منهم الأنبياء فعليهم أن يشكروا الله على نعمه . تاسعاً : الجن لا تعلم الغيب ولو كانت تعلمه لعرفت موت سليمان عليه السلام وما بقيت في الأعمال الشاقة . خاتمة البحث : حكمة التشريع جاءت الشريعة الإسلامية الغراء ، والناس في وثنيّة غارقة ، قد تدهورت أحوالهم ، وانحطت أوضاعهم ، حتى وصلوا إلى درجة عبادة ( الأوثان والأصنام ) ، وقد كان حول الكعبة المعظمة ثلاثمائة وستون صنماً - بعدد أيام السنة - كلُّها آلهة تُعْبد من دون الله ، فلما فتح عليه الصلاة والسلام مكة حطَّمها بنفسه فلم يبق لها أثراً وهو يردّد قوله تعالى : { جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } [ الإسراء : 81 ] . وقد دخلت هذه الوثنية إلى العرب ، عن طريق أهل الكتاب ، وبسبب التماثيل والتصاوير ، وانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم ، حتى غدت الجزيرة العربية مهداً للوثنيّة ، ومركزاً لعبّاد الأوثان والأصنام ، فلمّا جاء الإسلام حرّم الصور والتماثيل ، وكل ما يدعو إلى ( الوثنية ) من قريب أو بعيد ، وحمل حملة شعواء على المصورين ، فمنع من تصوير كل ذي روح ، حماية للعقيدة ، وصيانة للأمة ، وتطهيراً للمجتمع من لوثة الشرك وعبادة الأوثان ، وبذلك اقتلع الإسلام الوثنية من جذورها ، وقضى على الشرك في مهده ، وطهّر الجزيرة من كل مظاهر الوثنية والإشراك . وقد يقول قائل : إن الوثنية قد انقضى زمانها بالتقدم الفكري عند الإنسان ، فلم يعد هناك من يعبد الأصنام والأوثان ، فَلِمَ إذن تبقى حرمة التصوير ؟ ! والجواب : أنَّ العقل البشري معرّض للانتكاس في كل حين وزمان ، ولا يستبعد أبداً أن يؤدي نصب التماثيل في الشوارع العامة ، وانتشار الصور في المحلات والبيوت ، إلى تعظيمها وعبادتها في المستقبل ، كما فعل من سبقنا من الأمم حيث كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح صوّروه ونصبوا هذه الصور في أماكن بارزة ليتذكروا سيرته وأعماله ، ثمّ جاء من بعدهم فعظَّموها ثمّ جاء من بعدهم فعبدوها من دون الله . وإذا كنا نجد في هذا العصر بالذات من المتناقضات ما يطير له عقل الإنسان فرقاً ، حيث طغت الرذائل على الفضائل ، وتبدّلت المفاهيم والقيم الأخلاقية ، وأصبحت مظاهر ( الهمجية ) من التكشف والعري ، والخلاعة والمجون ، تعتبر في هذا العصر من مظاهر ( الرقي والتقدمية ) ، فأي إنسان لا يخاف على مستقبل البشرية وهو يرى هذه العجائب والغرائب ، تتمثل لعينيه والصور المضحكة المبكية ! ! ثمّ إننا لا نزال نرى في هذا العصر الذي يسمونه - عصر النور - من لا يزال يعبد البقر ويتبرّك بأرواثها ، فكيف نطمئن على العقلية البشرية من التردي نحو الهاوية ؟ ! إن الذي يعبد البقر لا يستبعد عليه أن يعبد الصور ؟ ! لذلك فإن التحريم شريعة الله وسيظل هذا التشريع فوق عقول البشر لأنه شرع الله ودينه الخالد .