Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 75-87)

Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ 1 ] حرمة مس المصحف التحليل اللفظي { بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } : المواقع جمع موقع وهو المسقط الذي يسقط فيه الشيء ، قال في " اللسان " : والموقع والموقوعة : موضعُ الوقوع ، ويقال : وقع الشيء موقعه ، ومواقع الغيث : مساقطه . والمراد بمواقع النجوم : مواضعها ومنازلها من بروجها ، فلكل نجم مدار يدور فيه ، وموضع لا يتعدّاه { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] . { مَّكْنُونٍ } : المكنون : المستور قال تعالى : { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } [ الواقعة : 23 ] والمراد أنه مصون مستور عن غير الملائكة المقربين لا يطّلع عليه من سواهم ، أو مصون محفوظ عن التبديل والتغيير بحفظ الله تعالى له : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ . وقال مجاهد وقتادة : هو المصحف الذي في أيدينا . { ٱلْمُطَهَّرُونَ } : الملائكة الأطهار ، أو المطهّرون من الأحداث ، من الجنابة والبول والغائط وأشباهها مما يمنع من الصلاة ، والمراد على الثاني أنه لا يمسّ القرآن إلا طاهر من الجنابة والحدث . { مُّدْهِنُونَ } : متهاونون مكذّبون ، قال القرطبي : والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه ، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره ولهذا يقال للرجل المتهاون أو المتلاين في أمر الدين " مداهن " أي أنه يلين جانبه . قال في " اللسان " : والمداهنة والإدهان : المصانعة واللين ، وقيل : المداهنة إظهار خلاف ما يضمر . { بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } : أي بلغت النفس أو الروح الحلقوم ، ولم يتقدم لها ذكر لدلالة الكلام عليه ولأن المعنى معروف ، وأنشدوا في ذلك : @ أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر @@ { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] : أي محاسبين أو مجزيّين بأعمالكم ، مأخوذ من دان بمعنى جازى ومنه الحديث الشريف : " اعمل ما شئت كما تدين تُدان " أي كما تفعل تُجزى . وقال ابن قتيبة : غير مدينين أي غير مملوكين ولا مقهورين من قولهم : دنت له بالطاعة . وقال الفراء : دنته أي ملكته وأنشد للحطيئة : @ لقد دُيّنتِ أمرَ بنيكِ حتّى تركتهِم أدقّ من الطحين @@ { تَرْجِعُونَهَآ } : ترجعون الروح إلى الجسد ، والمعنى : إن جحدتم الإلٰه الذي يحاسبكم ويجازيكم فهلاَّ تردّون هذه الروح إلى الجسد ؟ فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر بيد الله تعالى . وجه الارتباط بالآيات السابقة ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الأدلة والبراهين على ( الوحدانية ) وعلى البعث والنشور ، ثمّ أعقب ذلك بذكر الأدلة على ( النبوّة ) ومصدر الرسالة ، وصِدقِ هذا القرآن الذي نزل على خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فكان معجزة خالدة له على مدى الزمان . وقد بيَّن تعالى أنَّ هذا القرآن ليس - كما يزعم المشركون - من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم وإنما هو تنزيل الحكيم العليم ، وقد أقسم على ذلك بهذا القسم العظيم ، وهذا هو وجه الارتباط بين الآيات السابقة وبين هذه الآيات الكريمة . المعنى الإجمالي يقول جلّ ثناؤه ما معناه : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } لا أقسم بهذه الأفلاك ، لا أقسم بمواضعها ومنازلها ، بمداراتها التي تدور فيها ، فإنّ الأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم ، والقسم بها - لو علمتم - شيء عظيم ، لما فيه من الدلائل الباهرة على قدرة خالقها جلّ وعلا ، ومع ذلك أقسم بأنّ هذا القرآن كتاب كريم ، ليس بسحر ولا كهانة ، وليس بمفترى ، بل هو تنزيل الحكيم العليم ، في كتابٍ مصونٍ عند الله تعالى ، محفوظٍ عن الباطل ، محفوظ عن التبديل والتغيير . وهذا الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين ، فالشياطين لا تمسّ هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه ، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار ، ولا ينبغي أن يمسّه إلاّ من كان مثلهم طاهراً ، لأنه كلام ربّ العزّة جلّ وعلا ، ومن تعظيم كلام الله ألاّ يمسّه إلا من كان طاهراً مطهّراً . أفبهذا القرآن - أيها الناس - تكذّبون وتكفرون ؟ وتجعلون شكر النعم أنكم تنكرون فضل الله المنعم المتفضّل عليكم ؟ فماذا أنتم فاعلون حين تبلغ الروح الحلقوم ، وتقفون في مفرق الطريق المجهول ؟ هل تملكون العودة إلى الدنيا أو دفع الموت عنكم ؟ أو تستطيعون أن تردّوا إلى أحد روحه بعد أن تنفصل عن جسده ؟ فلو كنتم غير محاسبين ، أو كان الأمر كما تقولون : لا حساب ولا جزاء ، ولا بعث ولا نشور ، فأنتم حينئذٍ طلقاء غير مدينين ولا محاسبين ، فدونكم إذن فلترجعوها - وقد بلغت الحلقوم - لتردّوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء ، وأنتم حولها تنظرون ، وملائكتنا أقرب إليها منكم ولكن لا تبصرون ، وهي ماضية إلى ( الدينونة الكبرى ) وأنتم ساكنون عاجزون ، وهناك تلقون الجزاء الأوفى من أحكم الحاكمين . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : السرّ في القسم بمواقع النجوم هو الإشارة إلى عظيم قدرة الله ، وكمال حكمته ، وبديع صنعه ، بما لا يحيط به نطاق البيان ، فإنّ عظمة الصنعة تدل على عظمة الصانع فالسماء بما حوته من شموس وأقمار ، أثر من آثار قدرة الله ، التي تدل على وجود الخالق ، المبدع ، الحكيم ، وهي آية على الوحدانية كما قال أبو العتاهية : @ وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ تدل على أنّه واحدُ @@ اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } جاءت هذه الجملة الاعتراضية ( لو تعلمون ) بين الصفة والموصوف ، وفائدة هذا الاعتراض هي التهويل من شأن القسم ، والتنبيه إلى عظمة الكون كما قال تعالى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] . والمقسم عليه هو ( القرآن العظيم ) وأصل الكلام : ( وإنه لقسم عظيم ، إنه لقرآن كريم ) فاعترض بين الصفة والموصوف لهذا السرّ الدقيق . اللطيفة الثالثة : فإن قيل : أين جواب ( لَوْ ) في الجملة الاعتراضية ؟ نقول : لا جواب لها لأنه أريد به نفي علمهم وكأنه قال : وإنه لقسم ولكن لا تعلمون ، أو إنه محذوف ثقة بظهوره أي لو تعلمون حق العلم لعظّمتموه ، أو لعملتم بموجبه ، والفعل المضارع ( تعلمون ) ليس له مفعول على حدّ قولهم : فلانٌ يعطي ويمنع ، وهو أبلغ وأدخل في الحسن ممّا لو كان له مفعول فتدبره . اللطيفة الرابعة : قال الإمام الفخر : رحمه الله في قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } : " القرآن مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ، كما في قوله تعالى { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 11 ] أي مخلوق الله ، ووصفُه بالكريم فيه لطيفة ، وهي أنَّ الكلام إذا قرئ كثيراً يهون في الأعين ، والآذان ، ولهذا ترى من قال شيئاً في مجلس الملوك ، لا يذكره ثانياً ، ولو قيل فيه يقال لقائله لم تكرّر هذا ؟ اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } إطلاق الحديث على القرآن الكريم ، كثيرٌ بمعنى كونه ( اسماً ) لا ( وصفاً ) فإنّ الحديث اسمٌ لما يُتحدث به ، وهو وصفٌ يوصف به ما يتجدّد ، فيقال : أمر حادث ، ورسم حديث أي جديد ، ويقال : أعجبني حديث فلان بمعنى كلامه ، والقرآن قديم له لذة الكلام الجديد ، فصحّ أن يسمّى ( حديثاً ) . والإدْهان : تليين الكلام لاستمالة السامع ، من غير اعتقاد صحة الكلام ، كما يقول العدوّ لعدوّه : أنا أدعو لك ، وأثني عليك ، مداهنة منه وهو كاذب ، فصار استعمال المدهن في المكذّب من هذا القبيل . قال الزجّاج : معناه : أفبهذا القرآن أنتم تكذبون ؟ . اللطيفة السادسة : المناسبة بين المقسم به وهو ( النجوم ) ، وبين المقسم عليه وهو ( القرآن ) أنّ النجوم جعلها الله ليهتدي بها في ظلمات البرّ والبحر ، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الجهل والغواية ، وتلك ظلمات حسيّة ، وهذه ظلمات معنوية ، فالقسم هنا قد جمع فيه بين الهدايتين ( الحسيّة ) للنجوم ، و ( المعنوية ) للقرآن فتدبّر هذا السرّ الدقيق . اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } ظاهر الكلام النفي ، ومعناه النهي كقوله تعالى : { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] يراد منه النهي ، وكقوله تعالى : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] خبر بمعنى الأمر ، والمراد بالآية أنهم المطهّرون من الأحداث . قال ابن كثير : قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } قال بعضهم : أي من الجنابة والحدث ، قالوا : ولفظ الآية خبر ، ومعناه الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن هٰهنا المصحفُ ، كما روى مسلم في " صحيحه " عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسافَرَ بالقرآن إلى أرض العدو " مخافة أن يناله العدوّ ، واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ أنّ في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : " ألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر " . اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } هو على حذف مضاف أي وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم بالقرآن ، أي تضعون الكفر مكان الشكر ، فهو على حد قول القائل : @ " تحيةُ بينهم ضربٌ وجيع " @@ قال ابن عباس : في تفسير الآية : وتجعلون شكركم التكذيب . قال الألوسي : " إنّ في الكلام مضافاً مقدّراً أي شكر رزقكم ، أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر " . وقال الثعلبي المعنى : وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذِّبون . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور ( فَلاَ أُقْسِمُ ) بمدّ ( لا ) على أنها نافية ، وقرأ الحسن ( فلأقسم ) بغير ألفٍ بين اللام والهمزة فتكون اللام ( لام القسم ) وهذا مبني على رأي بعض النحاة الذين يجوّزون القسم على فعل الحال فيقال : والله لَيَخرجُ زيد ، وعليه قول الشاعر : " ليَعلمُ ربيّ أنّ بيتي واسع " . 2 - قرأ الجمهور ( بِمَوَاقِعِ ) على الجمع ، وقرأ حمزة والكسائي ( بموقع ) على الإفراد لأنه اسم جنس . 3 - قرأ الجمهور ( المُطَهّرون ) اسم مفعول من ( طهّر ) مشدّداً ، وقرأ نافع ( المُطْهَرون ) مخففاً من أطهر ، وقرأ سلمان الفارسي ( المُطَّهَّرون ) بشدّ الطاء والهاء أصله ( المتطهرون ) فأدغمت التاء في الطاء . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } لا زائدة والمعنى فأقسم ، وهذا مذهب سعيد بن جبير ، وقيل إنها ( لام القسم ) ومعناه فلأقسم وقد ردّه في " الكشاف " . قال الزمخشري : " ولا يصح أن تكون اللام ( لام القسم ) لأمرين : أحدهما : أنّ حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح . والثاني : أنّ لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال . 2 - قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } جملة ( لا يمسّه ) صفة لـ ( قرآنٌ كريمٌ ) وقيل : صفة لـ ( كتابٍ مكنون ) وعلى كلا القولين تكون ( لا ) نافية ، وقيل إنها ناهية ، بمعنى ( لا يمسَسْهُ ) مثل قوله عليه السلام : " المسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُهُ … " الحديث . قال ابن عطية : " والقول بأن ( لا يمسَّه ) نهي قول فيه ضعف ، وذلك أنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة ، وقوله بعد ذلك { تَنزِيلٌ } صفة ، فإذا جعلناه نهياً جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل في الآية قسم حقيقي ؟ وما هي طريقة هذا القسم ؟ اختلف المفسرون في قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } وكيف نجمع بين هذا اللفظ الذي صورته " نفي القسم " وبين قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } الذي هو صريح في إثبات القسم ؟ على عدة أقوال : أ - قال بعضهم : وهم الجمهور إنّ ( لا ) زائدة زيدت للتأكيد ، مثلها في قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم ، وقول الشاعر : @ تذكَّرتُ ليلى فاعترتْني صَبَابةٌ وكاد نياطُ القلب لا يتقطَّع @@ أي كاد يتقطع . ب - وقال آخرون : إنّ ( لا ) هنا هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت الألف نظير الألف في قول الشاعر : " أعوذ بالله من العقراب " ويكون معنى الآية : " لأَقْسِمَ " . وهذا الرأي ضعيف لأن النحاة يقولون : إذا كان الفعل مستقبلاً في حيّز القسم وجب اتصال نون التوكيد به وحذفها ضعيف جداً تقول مثلاً " لأفعلنّ " ومثله قوله تعالى : { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [ الأنبياء : 57 ] ولا تقول : لأفعلُ . جـ - وقال آخرون : هي ( للنفي ) وهو نفي لمحذوف هو ما كان يقوله الكفار : إن القرآن سحر ، أو شعر ، أو كهانة ، ويكون حاصل المعنى : لا صحة لما يقولون ، أُقْسمُ بمواقع النجوم ، ويكون الأمر فيه نفياً لكلام سابق ، وابتداءً بكلام مستأنف . وهذا الرأي ضعيف أيضاً لأن النحاة يقولون : إنّ اسم ( لا ) وخبرها لا يصح حذفهما إلاّ إذا كانا في جواب سؤال ، ثم إنه في مثل هذه الحالة يتعين العطف بالواو كما يقال : هل شفي فلانٌ من مرضه ؟ فيقال : لا وشفاه الله … الخ . د - واختار الفخر الرازي رأياً آخر خلاصته : أنّ ( لا ) نافية باقية على معناها ، وأنّ في الكلام " مجازاً تركيبياً " وخلاصة المعنى أن نقول : لا حاجة إلى القسم لأنّ الأمر أظهر وأوضح من أن يقسم عليه ، وهذا الرأي جميل لأنه لا يراد به نفي القسم حقيقة بل الإشارة إلى أنه من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم . الحكم الثاني : ما المراد بالكتاب المكنون في الآية الكريمة ؟ اختلف المفسرون في المراد بالكتاب المكنون . فقيل : هو ( اللوح المحفوظ ) ومعنى أنه مكنون أي أنه مستور عن الأعين ، لا يطّلع عليه إلا بعض الملائكة ، كجبريل وميكائيل عليهما السلام . وقيل إن الكتاب : لا يراد به اللوح المحفوظ ، وإنما يراد به القرآن الكريم " المصحف " فهذا القرآن العظيم كما أنه محفوظ في الصدور ، كذلك هو مسجل في السطور كما قال تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } [ عبس : 13 ] وعلى هذا التفسير يكون معنى { مَّكْنُونٍ } أي أنه محفوظ من التبديل والتغيير ، ويكون على حدّ قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . الحكم الثالث : ما المراد من قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } ؟ اختلف المفسرون في الضمير في هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ } هل هو راجع إلى القرآن العظيم ؟ أم إلى الكتاب الذي هو على رأي بعضهم ( اللوح المحفوظ ) فإذا أعيد الضمير على القرآن الكريم يكون المراد من قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ } أي لا يمسّ هذا القرآن إلاّ طاهر من الحدثين : الأصغر والأكبر . ويكون النفي على معنى أنه لا ينبغي أن يمسه كما في قوله تعالى : { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] . ويرى البعض أنّ ( لا ) ناهية وليست نافية ، والضمة التي فيه للإتباع لا للإعراب ، والذين قالوا إن المراد باللفظ هو اللوح المحفوظ فسروا المطهّرين بالملائكة واستدلوا بقوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ] فقالوا هذه الآية تشبه تلك فالمراد بها إذاً الملائكة . الحكم الرابع : ما هو حكم مسّ المصحف الشريف ؟ القرآن الكريم كتاب الله المقدس يجب تعظيمه واحترامه ، ومن تعظيمه وإجلاله ألاّ يمسه إلاّ طاهر ، ومسألة عدم جواز مسّ المصحف للمحدث أمر يكاد يجمع عليه الفقهاء ، ومن أجازه من الفقهاء فإنما أجازه لضرورة ( التعلم والتعليم ) فالمحدث والجنب ، والحائض ، والنفساء ، كلّ هؤلاء يحرم عليهم مس المصحف لعدم الطهارة . رأي ابن تيمية رحمه الله : استدل ابن تيمية على الحكم الشرعي من وجه لطيف فقال : إنّ الآية تدل على الحكم من باب " الإشارة " فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أنَّ الصحف المطهَّرة في السماء لا يمسّها إلا المطهّرون فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألاّ يمسّها إلا طاهر " انتهى . أقول : هذا هو الحق الذي ينبغي التعويل عليه ، وهو ما اتفق عليه الفقهاء من حرمة مسّ المصحف الشريف بدون طهارة . تنبيه هام قلنا إن مسَّ المصحف لغير المتطهر حرام ، وهذا الحكم لا اعتراض عليه ، إنما الاختلاف بين الفقهاء هل هو مستنبط من الآية الكريمة ؟ أم مأخوذ من دليل آخر ؟ فيرى بعض الفقهاء أن الحكم الشرعي بحرمة مسّ القرآن مأخوذ من نفس هذه الآية الكريمة ، لأنه ( خبر ) يقصد به ( النهي ) فكأنه تعالى يقول : " لا تمسّوه إلاّ إذا كنتم على طهارة " . وقال آخرون الحكم ثبت من السنة لا من الآية الكريمة وقد ذكروا بعض الوجوه التي يُرجَّح بها هذا الرأي منها : أ - " إنّ الآيات هٰهنا مكية ، ومعلوم أن القرآن في مكة كانت عنايته موجهة إلى أصول الدين لا إلى فروعه . ب - قالوا الآية خبر وتأويلكم لها يخرجها عن ( الخبر ) إلى ( الإنشاء ) الذي يراد به النهي ، والأصلُ أن يحمل اللفظ على الحقيقة . جـ - قالوا إنّ لفظ " المطهّرون " يشير إلى ما قلنا وهو الذي تكون طهارته ذاتية وهم ( الملائكة ) وأما المتطهرون فهم الذين تكون طهارتهم بعملهم نظراً لقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] فلو أراد الله سبحانه الإخبار عن وجوب الطهارة لقال : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } ! ! . والخلاصة : فإن السنة والآثار تنصّ على وجوب الطهارة لمسّ القرآن فقد ثبت فيما رواه ابن حبان وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى أهل اليمن وجاء فيه : " وألاّ يمسّ القرآن إلا طاهرٌ " . وبهذا قال الجمهور من الفقهاء منهم : ( مالك وأبو حنيفة والشافعي ) رحمهم الله وقد كان كثير من الصحابة يأمرون أولادهم بالوضوء لمس المصحف ، وقصة عمر معروفة وفي هذا القدر كفاية وغُنيةٌ عن التطويل . الحكم الخامس : ما هي الحكمة من القسم ؟ جرت العادة عند العرب أن يستعملوا القسم عند إرادة توكيد الكلام ، والقرآنُ الكريم نزل بلغة العرب ، وقد كانت آياته الكريمة تحوي أنواعاً من القسم وضروباً من التفنّن البديع في توكيد الكلام ، وليس المراد من القسم إثبات الدعوى ، فالدعاوى لها ما يثبتها من الأدلة القطعية التي ثبتت عن طريق الحجة والبرهان . ثمّ إنّ المخاطب أحد رجلين : إمَّا مؤمن بالقرآن ، أو مكذب به ، فالمؤمن لا يحتاج إلى قسم فهو مصدِّقٌ بما أخبر عنه الله تعالى بدون يمين ، والمكذّب الذي لم تغنه الآيات والنّذُر لن يصدّق بمجرد القسم بعد أن لم يؤثر فيه الدليل ، فثبت أنّ المراد بالقسم إنما هو توكيد الكلام ليس إلاّ ولفتُ النظر إلى أهمية الموضوع ، وأهمية الأمر ، فحين يقسم الله تعالى بشيء من الأشياء تتوجه النفس إلى سرّ هذا القسم بهذا المخلوق متسائلة ما سرّه ؟ وما معناه ؟ ولم أقسم به دون غيره ؟ وحينئذٍ تبحث عن الحكمة والسرِّ في ذلك القسم ! ! الحكم السادس : ما هي أنواع القسم المذكورة في القرآن الكريم ؟ ورد القسم في القرآن الكريم على أنواع عديدة ، وضروب شتى ، إمَّا من ناحية القسم نفسه ، أو من ناحية المقسم عليه . 1 - فجاء القسم بالذات العلية مثل قوله تعالى : { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] . 2 - وجاء القسم بأشياء من خلقه سبحانه مثل : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } [ التين : 1 ] { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1 - 2 ] . 3 - وجاء القسم بالقرآن الكريم مثل : { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ صۤ : 1 ] { حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الزخرف : 1 - 2 ] { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ قۤ : 1 ] . 4 - وجاء أيضاً على الشكل الذي معنا في الآيات الكريمة بلا النافية وفعل القسم مثل قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] وقوله : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] وقوله : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [ البلد : 1 ] هذا من ناحية القسم . أما من ناحية المقسم عليه فإمّا أن يكون . 1 - أصول الإيمان كوحدانية الله سبحانه مثل قوله تعالى : { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا … إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ } [ الصافات : 1 - 4 ] . 2 - أو يكون المراد إثبات أن القرآن حق مثل الآية التي معنا { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ … إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } . 3 - أو يكون المراد إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى : { يسۤ * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ يسۤ : 1 - 3 ] . 4 - أو يكون المراد نفي صفة ذميمة أتهم بها المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم مثل قوله : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [ القلم : 1 - 2 ] . الحكم السابع : هل يجوز القسم بغير الله سبحانه ؟ أجمع العلماء على حرمة القسم بغير الله سبحانه ، أو صفةٍ من صفاته تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر " هذا بالنسبة للخلق ، أما بالنسبة للخالق فله أن يقسم بما شاء من خلقه ، لأن في القسم بالشيء تنبيهاً إلى عظمته وأهميته ، والله سبحانه وتعالى قد أقسم بكثير من الآيات كما مر معنا تنبيهاً إلى شرفها وما حوت من إبداع وإتقان ليكون ذلك دليلاً على عظمة خالقها جل وعلا . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر " . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً : القسم بالنجوم والأفلاك تنبيه على عظمة الخالق ، المدبّر ، الحكيم الذي أبدع هذا الكون . ثانياً : القرآن كلام الله ليس بشعر ، ولا بسحر ، ولا كهانة ، بل تنزيل الحكيم العليم . ثالثاً : الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين ، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار ، فلا ينبغي أن يمسّه إلا طاهر . رابعاً : القرآن مصون عن التبديل والتغيير ، محفوظ عن الباطل ، لأنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظه . خامساً : ينبغي أن تقابل النعمة بالشكر والثناء لا بالجحود ، والإنكار ، والتكذيب . سادساً : لو كان الإنسان غير مجازى بعمله لاستطاع أن يدفع عن نفسه شبح الموت . سابعاً : لا بدّ من دار الجزاء وراء هذه الدنيا ليلقى فيها الإنسان نتيجة عمله . خاتمة البحث : حكمة التشريع القرآن الكريم كتاب الله المجيد ، ودستوره إلى عباده ، ووحيه المنزل على خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وهو آخر الكتب السماوية نزولاً ، وأشرفها مكانة ومنزلة ، أودع فيه منزلُهُ هداية البشرية ، وسعادة الإنسانية ، وجعله نوراً وضياء للعالمين . ومن حقّ هذا القرآن المجيد أن يُعظم ، ومن واجب المسلمين أن يطبّقوه في حياتهم ، وأن يحلّوه محل الصدارة من أنفسهم ، تلاوة ، وعملاً وتطبيقاً ؛ ليسعدوا كما سعد آباؤهم من قبل . ومن تعظيم القرآن الكريم ألا يمسّه الإنسان إلاّ على طهارة ، لأنه كلام الله ، وكلام الله عظيم بعظمة الله ، فلا يصح للمؤمن أن يتساهل في أمره ، وأن يمسّه بدون وضوء ، فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لعمرو بن حزم " وألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر " وكفى بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر القرآن تعظيماً ، وكفى ببيانه بياناً ! ! وإذا كان القرآن الكريم قد عظّم الله شأنه ، فأنزله في أفضل الشهور ( شهر رمضان ) وفي أفضل الليالي ( ليلة القدر ) واختار الواسطة له الروح الأمين ( جبريل ) عليه السلام ، وأخبر أنه { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ] أفلا يكون من واجب المسلمين أن يعظّموا هذا الكتاب المبين غاية التعظيم ، ويجلّوه غاية الإجلال ؟ ! وإذا كان الملائكة الأطهار ، والسفرة الأبرار هم الذين تشرفوا بمسّ هذه الصحف المطهّرة ، فأولى بأهل الأرض ألا يمسّوه إلا على طهارة ، تشبهاً بالملائكة الأطهار ، وتفخيماً لشأن هذا الكتاب العظيم الذي حفظه الله وصانه من التحريف والتبديل وصدق الله : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 41 - 42 ] .