Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 11-13)

Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ 2 ] نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم التحليل اللفظي { تَفَسَّحُواْ } : توسّعوا في المجلس وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : إفسح عني أي تنحّ ، يقال : بلدة فسيحة ، ومفازة فسيحة ، ولك فيه فسحة أي سعة . قال القرطبي : وفَسَح يَفْسَح مثل مَنَع يَمْنَع ، أي وسّع في المجلس ، وفَسُح يَفْسُح مثل كَرُم يكْرُم ، أي صار واسعاً ، ومنه مكان فسيح . { ٱنشُزُواْ } : انهضوا وارتفعوا ، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض ، قال في " اللسان " : النّشْز : المرتفع من الأرض ، ونشز الشيء : ارتفع ، وتلّ ناشز : مرتفع ، وفي التنزيل : { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ } قرأها الناس بكسر الشين ، وأهلُ الحجاز يرفعونها ، وهي لغتان ومعناه : إذا قيل انهضوا فانهضوا وقوموا . { دَرَجَٰتٍ } : أي منازل رفيعة ، جمع درجة وهي الرفعة في المنزلة ، مأخوذ من الدّرج الذي يُرقى به إلى السطح . قال في اللسان : والدّرجة : الرفعة في المنزلة ، والدّرجة واحدة الدرجات ، وهي الطبقات من المراتب ، ودرجات الجنة : منازل أرفع من منازل . { نَجْوَاكُمْ } : النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من ( النّجوة ) وهي ما ارتفع من الأرض ، فالمتناجيان يخلوان بسرّهما كخلوّ المرتفع من الأرض عما يتصل به . وقيل : النجوى من المناجاة وهي الخلاص ، وكأنّ المتناجيَيْن يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر . ومعنى الآية : إذا أردتم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرٍ من الأمور فتصدقوا قبلها . { وَأَطْهَرُ } : أي أزكى لأنفسكم وأطيب عند الله . { ءَأَشْفَقْتُمْ } : الإشفاق : الخوف من المكروه ، والمعنى : أخفتم وبخلتم بالصدقة ، وشقّ ذلك عليكم ؟ . قال ابن عباس : " أأشفقْتُم " أي أبخلتم بالصدقة . وهو استفهام معناه التقرير . المعنى الإجمالي يقول الله جلّ ثناؤه ما معناه : يا أيها المؤمنون إذا قيل لكم توسعوا في المجلس لإخوانكم القادمين فتوسّعوا لهم ، وافسحوا لهم ، حتى يأخذ القادم مكانه في المجلس ، فإن ذلك سبب المودة والمحبة بينكم ، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس ، وإذا فسحتم لهم فإنّ الله تعالى يفسح لكم في رحمته ، وينوّر قلوبكم ، ويوسّع عليكم في الدنيا والآخرة . وإذا قيل لكم - أيها المؤمنون - انهضوا إلى الصلاة ، والجهاد ، وعمل الخير فانهضوا ، أو قيل لكم قوموا من مقاعدكم للتوسعة على غيركم فأطيعوا فإنّ الله تعالى يحبّ من عباده الطاعة ، ويرفع درجات المؤمنين ، والعلماء العاملين ، الذين يبتغون بعلمهم وجه الله ، فالعلماء ورثة الأنبياء ، ومن يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين ، وليست الرفعة عند الله تعالى بالسبق إلى صدور المجالس ، وإنما هي بالعلم والإيمان . ثم أمر تعالى عباده المؤمنين إذا أرادوا مناجاته عليه الصلاة والسلام لأمرٍ من الأمور ، أن يتصدقوا قبل هذه المناجاة ، تعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفعاً للفقراء ، وتمييزاً بين المؤمن المخلص ، والمنافق المراوغ ، فإنّ ذلك أزكى للنفوس ، وأطهر للقلوب ، وأكرم عند الله تعالى ، فإذا لم يتيسر للمؤمن الصدقة فلا بأس عليه ولا حرج . ثم أخبر تعالى بأنّ عمل الخير كالصدقة وغيرها لا ينبغي أن يخاف منها الإنسان ، فقال ما معناه : أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال ، فإذا لم تفعلوا ما أُمرتم به ، وتاب الله عليكم ورخّص لكم في الترك ، فأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ولا تفرِّطوا فيهما وفي سائر الطاعات لأن الله خبير بما تعملون . سبب النزول أ - روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم جمعة في الصفّة ، وفي المكان ضيق ، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من ( المهاجرين والأنصار ) فجاء ناس من أهل بدر ، منهم ( ثابت بن قيس بن شمّاس ) وقد سُبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلّموا على القوم فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فلم يفسحوا لهم ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ، ويا فلان ، فأقام نفراً مقدار من قدم ، فشقّ ذلك عليهم ، وعرفت كراهيته في وجوههم ، وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه ، وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَٰلِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ … } . ب - وروي عن ابن عباس وقتادة : " أنّ قوماً من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام ، في غير حاجة إلاّ لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يردّ أحداً فنزلت هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ … } الآية . جـ - وروي عن مقاتل : أنّ الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ، ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت الآية : { إِذَا نَٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ } . وجوه القراءات 1 - قوله تعالى : { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَٰلِسِ } قرأ الجمهور ( تَفَسَّحُواْ ) بتشديد السين ، وقرأ قتادة والحسن ( تفاسحوا ) . 2 - قرأ الجمهور ( فِي المجلس ) بالإفراد على إرادة معنى الجمع ، وقرأ عاصم وقتادة ( المجالس ) بالجمع . 3 - قوله تعالى : { ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ } : قرأ الجمهور بضم الشين فيهما ، وقرأ حمزة والكسائي ( انشِزُوا فانشِزُوا ) بكسر الشين فيهما ، قال الفراء : وهما لغتان مثل يعكفُون ويعرِشُون . 4 - قرأ الجمهور ( فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ) بالإفراد ، وقرئ ( صدقات ) بالجمع لجمع المخاطبين . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ } يفسحْ مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ، وحرّك بالكسر للتخلُّص من التقاء الساكنيْن ، ومثله { يَرْفَعِ ٱللَّهُ } مجزوم لأنه جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشُزوا يرفع الله عز وجلّ المؤمنين جزاء امتثالهم درجات . 2 - قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍ } قال أبو حيان : معطوف على الذين آمنوا عطف صفات . والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفان لذاتٍ واحدة . واختار الطيبي : أن يكون في اللفظ تقدير يناسب المقام نحو أن يقال : يرفع الله الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيماً لهم . 3 - قوله تعالى : { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } أنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعول لـ { ءَأَشْفَقْتُمْ } والله أعلم . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : لما نهى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباغض والتنافر ، أمرهم في هذه الآيات بما يكون سبباً لزيادة المحبة والمودّة ، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدي الحرص على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس بين يديه حرصاً على استماع كلامه ، فأمروا بالتوسعة على إخوانهم في المجلس تطييباً لقلوبهم ، وهذا هو السرّ في مجيء هذه الآيات عقب آيات النهي عن التناجي بالإثم والعدوان . اللطيفة الثانية : ذكر تعالى في أول الآية مكانة المؤمنين ، ثمّ عطف عليها بذكر مكانة العلماء ، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب ( عطف الخاص على العام ) تعظيماً لشأن العلماء كأنهم جنس آخر ، ولذا أعيد اسم لموصول في النظم الكريم في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍ } . اللطيفة الثالثة : الأمر للمؤمنين بالصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فوائد عديدة : أولها : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم مناجاته . ثانيها : نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة . ثالثها : الزجر عن الإفراط في الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . رابعها : التمييز بين المخلص والمنافق ، ومحب الدنيا ومحب الآخرة . اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } : في هذا اللفظ استعارة يسميها علماء البلاغة ( استعارة تمثيلية ) وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان كالإنسان فقد استعار اليدين للنجوى ، وقيل إنها ( استعارة مكنية ) حيث شبّه النجوى بإنسان ، وحذف المشبّه به وهو الإنسان ، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو اليدان على سبيل الاستعارة المكنية ومثله قوله تعالى : { بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبأ : 46 ] وذكر اليدين تخييل . اللطيفة الخامسة : أشاد القرآن بمنزلة العلماء الرفيعة ، ومكانتهم السامية عند الله تعالى ، ويكفيهم هذا الشرف والفخر وقد قال عليه الصلاة والسلام : " من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام ، فبَيْنه وبين النبيّين درجة " وقد ذكر بعض الظرفاء مناظرة رمزية بين ( العقل والعلم ) نذكرها لطرافتها قال بعض الأدباء : @ علمُ العليم وعقلُ العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا ؟ فالعلم قال : أنا أدركتُ غايته والعقل قال : أنا الرحمٰن بي عُرفا فأفصح العلمُ إفصاحاً وقال له : بأيّنا الله في فرقانه اتصفا ؟ فبان للعقل أنَّ ( العلمَ ) سيّدُه فقبّلَ ( العقلُ ) رأسَ العلم وانصرفا @@ الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما المراد بـ ( المجالس ) في الآية الكريمة ؟ اختلف المفسّرون في المراد بالمجلس على ثلاثة أقوال : أحدها : أن المراد به مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهو قول مجاهد . والثاني : أنّ المراد به مجلس الحرب ، ومقاعد القتال ، حيث كانوا لحرصهم على الشهادة يأبون التوسع ، وهو قول ابن عباس ، والحسن . والثالث : أن المراد به مجالس الذكر كلّها ، وهو قول قتادة وهو الأرجح . قال الطبري : " والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ الله تعالى ذكرهُ أمر المؤمنين ، أن يتفسّحوا في المجلس ، ولم يخصّص بذلك مجلس النبي صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال ، وكلا الموضعين يقال له : مجلس ، فذلك على جميع المجالس ، من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس القتال " . وقال القرطبي : " الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب ، أو ذكر ، أو مجلس يوم الجمعة ، فإنّ كل واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه " . الحكم الثاني : هل يباح الجلوس مكان الشخص بدون إذنه ؟ دلّت الآية الكريمة على وجوب التوسع في المجلس للقادم ، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام ، ولكن لا يباح للإنسان أن يأمر غيره بالقيام ليجلس مجلسه لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثمّ يجلس فيه ، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا " . وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به ، والمجلسُ من هذا المباح ، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس ، إلاّ أن الآداب الاجتماعية تقضي على الناس بتقديم أولي ( الفضل والعلم ) وبذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث . ولقد كان هذا الأدب السامي شأن الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يُقدّمون بالهجرة ، وبالعلم ، وبالسنِّ ، وما فعله النبي عليه السلام في جماعة ( ثابت بن قيس ) من أهل بدر ، فإنما كان لتعليم الناس مكارم الأخلاق ، وخاصة مع أهل الفضل والعلم ، من المهاجرين والأنصار . أ - روى ابن العربي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقد طاف به أصحابه ، إذ أقبل علي بن أبي طالب فوقف وسلّم ، ثمّ نظر مجلساً يشبهه ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه أيّهم يوسّع له ، وكان أبو بكر جالساً على يمين النبي صلى الله عليه وسلم فتزحزح له عن محله ، وقال : ها هنا يا أبا الحسن ! فجلس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر ، فقال يا أبا بكر : إنما يعرف الفضل ، لأهل الفضل ، ذوو الفضل " . ب - وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة ، فكلّموه في ذلك فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [ النصر : 1 ] فسكتوا ، فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إيّاه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلاّ ما تعلم ، ثم قال : بهذا قدّمت الفتى . وإذا قام الإنسان من مجلسه لحاجة ثمّ رجع إليه فهو أحقّ بالمجلس لقوله عليه الصلاة والسلام : " من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به " . الحكم الثالث : هل يجوز القيام للقادم إذا كان من أهل الفضل والصلاح ؟ ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القيام للقادم إذا كان مسلماً من أهل الفضل والصلاح على وجه التكريم لأن احترام المسلم واجب ، وتكريمه لدينه وصلاحه ممّا يدعو إليه الإسلام ، لأنه سبيل المحبّة والمودة ، وقد قال عليه السلام : " لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تُكلّم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك " . فالقيام للقادم جائز على وجه التكرمة ، إن لم يكن فاسقاً ، ولم يكن سبيلاً للكبرياء والخيلاء ، وما لم يصبح ديدناً للإنسان عند كل دخول أو خروج ، وفي كل حين وآن فعند ذلك يكره . قال العلامة ابن كثير : " وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال ، فمنهم من رخّص في ذلك محتجاً بحديث ( قوموا إلى سيّدكم ) . ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث : " من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً فليتبَوّأ مقعده من النار " ومنهم من فصّل فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دلّ عليه قصة ( سعد بن معاذ ) فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين : قوموا إلى سيّدكم ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم . أقول : جمهور العلماء على جواز القيام للقادم ، إلا إذا كان فاسقاً ، أو عاصياً ، أو مرتكباً لكبيرة ، أو مشهوراً بالكبر ، وحب الظهور ، وأمّا ما استدل به بعضهم من منع القيام بحديث : " من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً … " الحديث فليس فيه دليل لهم ، لأن الرسول عليه السلام لم يُطْلق اللفظ وإنما قيّده بوصفٍ يدلّ على الكبرياء وحب الظهور " من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً " ولم يقل صلوات الله عليه " من قام له الناس فليتبوأ مقعده من النار " ولا شكّ أنّ هذا الوصف لا ينطبق إلا على المتكبر المغرور ، والفرق دقيق بين اللفظين فلا ينبغي أن يغفل عنه . وأما ما يقوله بعضهم : من أنّ القيام ركن من أركان الصلاة ، فلذلك يحرم ، لأنه يشبه العبادة … الخ فهذا جهل مطبق لا يصدر من فقيه عالم يتصدى لاستنباط الأحكام ! ! كيف والصلاة تشتمل على أركان كثيرة كالقعود ، وقراءة القرآن ، والتشهد ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأقوال - كما هو مذهب الإمام الشافعي - فهل يقول أحد : إن الجلوس بين يدي العالم حرام لأنه ركن من أركان الصلاة ؟ وإن تلاوة القرآن لا تجوز أمام أحد لأنها ركن من أركان الصلاة ؟ وإن الصلاة على النبي عليه السلام حرام في حضرة الناس لأنها ركن من أركان الصلاة ؟ ! ! وقياسُ القيام على الركوع والسجود في الحرمة ، قياسٌ مع الفارق ، وهو قياس باطل ، لأن الركوع والسجود لا يجوز لغير الله كما قال عليه السلام : " لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " وقد ورد في تحريمه النص القاطع ، أمّا القيام ، والقعود ، والاضطجاع ، فليس من هذا القبيل ، وكفانا الله شرّ الجهل ، وحماقة المتطفلين على العلم والعلماء ! ! الحكم الرابع : هل الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة ؟ اختلف العلماء في قوله تعالى : { فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } هل الأمر للوجوب أو الندب ؟ فقال بعضهم : إنَّ الأمر للوجوب ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ومثل هذا لا يُقال إلا في الواجبات التي لا يصح تركها . وقال آخرون : إن الأمر للندب والاستحباب ، وذلك لأنّ الله تعالى قال في الآية : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ومِثلُ هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره ، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض . ومن جهة أخرى : فإنّ الله تعالى قال في الآية التي بعد هذه مباشرة { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَٰتٍ } ؟ وهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب ، ويبقى الأمر للندب . واتفق العلماء على أن الآية منسوخة ، نسختها الآية التي بعدها { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ ، فقيل : بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ ، وقيل : ما بقي إلاّ ساعة من النهار ثم نسخ . وقد روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال : ( إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم ، فكلّما ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً ، ثمّ نُسختْ فلم يعمل بها أحد ) . قال القرطبي : ( وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل ، وما روي عن عليّ رضي الله عنه ضعيف ، لأن الله تعالى قال : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } وهذا يدلّ على أنّ أحداً لم يتصدّق بشيء ، والله أعلم ) . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً : وجوب التوسعة في المجلس للقادم لأنها من مكارم الأخلاق . ثانياً : التوسعة للمؤمن في المجلس سببٌ لرحمة الله عز وجلّ وطريقٌ لرضوانه . ثالثاً : الرفعة عند الله والعزة والكرامة إنما تكون بالعلم والإيمان . رابعاً : وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الإثقال عليه في المناجاة . خامساً : تقديم الصدقة قبل المناجاة مظهر من مظاهر تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم . سادساً : نسخ الأحكام الشرعية لمصلحة البشر تخفيف من الله تعالى على عباده . سابعاً : الصلاة والزكاة أعظم أركان الإسلام ولهذا قرن القرآن الكريم بينهما في كثير من الآيات .