Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 62, Ayat: 9-11)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 1 ] صلاة الجمعة وأحكامها التحليل اللفظي { نُودِيَ } : النداء : الدعاء بأرفع الصوت تقول : ناديته نداءً ومناداة ، وفي الحديث " فإنه أندى صوتاً منك " أي أحسن وأعذب ، وقيل : أرفع وأعلى ، والمرادُ بالنداء هنا : الأذانُ والإعلام لصلاة الجمعة . { ٱلْجُمُعَةِ } : هو اليوم المعروف ، وهو يوم عيد المسلمين الأسبوعي قال الفراء : يقال ( الجُمْعة ) بسكون الميم ، و ( الجُمُعة ) بضم الميم ، و ( الجُمَعة ) بفتح الميم فيكون صفة اليوم ، أي تجمع الناس ، كما يقال : ضُحَكة للذي يضحك الناس ، ففيها ثلاث لغات . والأفصح الأشهر ( الجمُعة ) بضم الميم ، قال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤها جُمُعة . وقد صار يوم الجمعة عَلَماً على اليوم المعروف من أيام الأسبوع ، وسميت جمعة لاجتماع الناس فيها للصلاة ، وكان العرب تسمي يوم الجمعة ( عَروبة ) وأول من سمّاها جمعة ( كعب بن لؤي ) . قال السهيلي : ومعنى العروبة : الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم . { فَٱسْعَوْاْ } : السعي : العَدْوُ في المشي والإسراع فيه ، والمراد منه في الآية : امشوا إلى الصلاة بدون إفراط في السّرعة لقوله عليه السلام : " إذا أُقيمت الصلاةُ فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن ، وأتُوها وأنتم تَمْشُون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا " . قال الفراء : المضيّ ، والسعي ، والذهاب ، بمعنى واحد واحتج بقولهم : هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله ، معناه يمضي بجد واجتهاد ، وليس معناه : العدو والركض . واحتج أبو عبيدة : بقول الشاعر : @ أسعى على جُلّ بني مالك كلّ امرئ في شأنه ساعي @@ وكان ابن مسعود : يقرؤها : ( فامضوا إلى ذكر الله ) ويقول : " لو كانت من السعي لسعيتُ حتى يسقط ردائي " . قال القرطبي : وقراءةُ ابن مسعود تفسير منه ، لا قراءة قرآن منزل ، وجائزٌ قراءة القرآن بالتفسير ، في معرض التفسير . { ذِكْرِ ٱللَّهِ } : المراد بذكر الله صلاةُ الجمعة ، بدليل قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَٰوةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } وقيل : المراد به الخطبة . والصحيح الراجح : أن المراد به ( الصلاة ، والخطبة ) جميعاً لاشتمالهما على ذكر الله . { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } : أي اتركوا البيع ، والمعاملة ، وسائر أمور التجارة والأعمال . قال الألوسي : أي اتركوا المعاملة ، فيعمّ البيع ، والشراء ، والإجارة وغيرها من المعاملات . وقال القرطبي : وخصّ البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق . { قُضِيَتِ ٱلصَّلَٰوةُ } : أي أديتم الصلاة وفرغتم منها ، يقال : قضى الرجل عمله أي أدّاه ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] أي أديتموها ، وقضى دينه أي وفَّاه ، وليس من قضاء الفائتة في الصلاة ، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على أن لفظ ( القضاء ) يطلق على ( الأداء ) وهو استدلال لطيف . { فَٱنتَشِرُواْ } : أي تفرقوا في الأرض لإقامة مصالحكم ، والانتشار معناه التفرق ، ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } [ الأحزاب : 53 ] . { وَٱبْتَغُواْ } : أي اطلبوا من الابتغاء بمعنى الطلب ، قال تعالى : { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } [ القصص : 77 ] . { فَضْلِ ٱللَّهِ } : المراد به الرزق والتجارة ، والكسبُ الحلال . وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، وإنما هو عيادة المرضى ، وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله . { ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } : بمعنى انصرفوا إليها ، وتفرّقوا عنك ، والانفضاض معناه : التفرق والانصراف ، قال ذو الرُمّة : @ تكاد تنقضّ منهنّ الحيازيم @@ وأعاد الضمير إلى التجارة ، لأنها كانت أهمّ إليهم ، وقال الزجّاج : المعنى : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه مثل قوله تعالى : { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [ المؤمنون : 33 ] ، وكما قال الشاعر : @ نحنُ بما عندنا وأنت بما عندكَ راضٍ والرأيُ مختلف @@ { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } : أي على المنبر تخطب ، قال بعض العلماء : وفيه دلالة على مشروعية القيام في الخطبة . { خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ } : لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده ، ومن يكفر به ويجحده ، فهو يعطي من سأل سواءً كان مؤمناً أم كافراً . قال الطبري : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ } : يقول : والله خير رازق ، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم ، وإيّاه فاسألوا أن يوسّع عليكم من فضله دون غيره . المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه : " يا أيها المؤمنون يا من صدّقتم بالله ورسوله ، إذا سمعتم المؤذّن ، ينادي لصلاة الجمعة ويؤذّن لها ، فاتركوا أعمالكم وأشغالكم ، ودَعُوا البيع والشراء وامضوا سراعاً إلى ذكر الله وعبادته ، وإلى أداء صلاة الجمعة مع إخوانكم المسلمين ، فإنّ ذلك خير لكم وأفضل ، وأرجى لكم عند الله ، وأعود عليكم بالخيرات والبركات ، إن كنتم من أهل العلم والفهم السليم ، فإذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها ، فانبثّوا في الأرض لقضاء مصالحكم ، واطلبوا من فضل الله ، فإن الرزق بيده ، وهو المنعم المتفضّل ، الذي لا يخيّب أمل السائل ، ولا يضيع عمل العامل ، ولا يمنع أحداً من فضله وإحسانه ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . ثم أخبر تعالى أنّ هناك فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية ، على الآخرة الباقية ، فإذا سمعوا بتجارة رابحة ، أو صفقة قادمة ، أو شيء من لهو الدنيا ، وزينتها وبهرجها ، تفرّقوا عن رسول الله عليه السلام ، وانصرفوا إلى متاع الحياة ، وتركوا الرسول قائماً يخطب ، ولو عقلوا لعلموا أنّ ما عند الله خير وأبقى ، وأن ثوابه خير من اللهو والتجارة ، وأن الله - جلّ وعلا - هو خير الرازقين ، يرزق من يشاء بغير حساب ، وما عند الله خير للأبرار . وصدق الله حيث يقول : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 96 ] . سبب النزول أ - أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً ، إذ قدمت عير إلى المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلاً أنا فيهم ، وأبو بكر وعمر ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } إلى آخر السورة . ب - وروى ابن كثير عن أبي يعلى بسنده إلى جابر بن عبد الله أنه قال : " بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ إلى المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً " ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً … } . جـ - وروى أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " في سبب هذا الانصراف أنَّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر ، فقدم ( دحية ) بعيرٍ تحمل ميرةً وكان من عُرْفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درى بها . فدخلت بها فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه ، وتركوه صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً ، قال جابر : أنا أحدهم ، فنزلت { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً } . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور { من يوم الجُمُعة } بضم الجيم والميم ، وقرأ الزهري والأعمش بضم الجيم وسكون الميم { الجُمْعة } وهي لغة تميم ، وقرأ أبو العالية والنخعي { الجُمَعة } بضم الجيم مع فتح الميم ، وهي ثلاث لغات . قال الزجاج : من قرأ بتسكين الميم فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين ، وأمّا فتح الميم فمعناها : الذي يجمع الناس ، كما تقول : رجلٌ لُعَنَة : يُكثر لعنة الناس ، وضُحَكَة : يكثر الضحك . 2 - قرأ الجمهور { انفضّوا إليها } بضمير المؤنث عائداً إلى التجارة ، وقرأ ابن أبي عَبْلة بضمير المذكّر { انفضّوا إليه } عائداً إلى اللهو . قال الأخفش : وكلاهما جائز عند العرب ، وقرئ { انفضُّوا إليهما } بضمير التثنية عائداً إلى التجارة واللهو . 3 - قرأ الجمهور { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } وروي عن ابن مسعود وعمر أنهما كانا يقرآنها { فامضوا إلى ذكر الله } وقراءتهما محمولة على أنها وجه من وجوه التفسير ، لا أنها قراءة من القراءات وقد مرّ معك كلام القرطبي فتدبره . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَٰوةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } ( إذا ) شرطية و ( نودي ) مبني للمجهول ، و ( مِنْ ) بمعنى ( في ) أي في يوم الجمعة كقوله تعالى : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } [ فاطر : 40 ] أي في الأرض . وجوّز أبو البقاء كون ( مِنْ ) للتبعيض . وفي " الكشاف " : هي بيان لـ ( إذا ) وتفسير له ، وقد اعترض عليه في هذا ، والصحيح أنها بمعنى ( في ) . 2 - قوله تعالى : { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً … } . ( اذكروا ) فعل أمر مبني على حذف النون لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة ، والواو فاعل ، ولفظ الجلالة منصوب على التعظيم تأدباً ، و ( كثيراً ) صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره : ( ذكراً كثيراً ) ، وقد صرّح به في سورة الأحزاب في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الأحزاب : 41 - 42 ] . 3 - قوله تعالى : { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } ، قائماً منصوب على الحال ، وصاحب الحال هو النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه بـ ( تركوك ) أي تركوك أيها النبيّ حال كونك قائماً . 4 - قوله تعالى : { قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِ … } ( ما ) اسم موصول مبتدأ ، و ( خير ) خبره ، والجملة ( ما عند الله خير ) مقول القول . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية يوم ( العَروبة ) . وأوّل من سمّاه جمعة ( كعب بن لؤي ) وروي في سبب تسميته أن أهل المدينة اجتمعوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت الأنصار : لليهود يومٌ يجتمعون فيه بكل سبعة أيام ، وللنصارى مثلُ ذلك ، فهلمّ فلنجعلْ لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ، ونشكره ، فقالوا : يومُ السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العَروبة ، فاجتمعوا إلى ( أسعد بن زُرارة ) فصلَّى بهم يومئذٍ ركعتين ، وذكّرهم ، فسميت الجمعة حين اجتمعوا إليه ، فذبح لهم شاة فتغدّوا وتعشّوا منها ، فهي أول جمعة كانت في الإسلام . اللطيفة الثانية : في التعبير بقوله تعالى : { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ … } لطيفة وهي أنه ينبغي للمؤمن أن يقوم إلى صلاة الجمعة بجدٍّ ونشاط ، وعزيمة وهمَّة ، لأن لفظ ( السعي ) يفيد القصد والجدّ والعزة ، وليس المراد منه العَدْو في المشي فإنّ ذلك منهي عنه . قال الحسن : " والله ما هو سعي على الأقدام ، ولكنّه سعي بالقلوب وسعي بالنيّة ، وسعي بالرغبة ، ولقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إلاّ وعليهم السكينة والوقار " . اللطيفة الثالثة : أُطلق لفظ البيع ( وذروا البيع ) وقصد به جميع أنواع المعاملة من بيع ، وشراء ، وإجارة ، وغيرها من المعاملات فهو على سبيل المجاز المرسل . قال أبو حيان : " وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرَّمات ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، إذ يكثر الوافدون من القرى إلى الأمصار ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار ، فأُمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ، ونُهوا عن تجارة الدنيا حتى الفراغ من الصلاة " . اللطيفة الرابعة : كان السلف الصالح يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وحركاته وسكناته ، حتى ولوْ لم يدركوا السرّ فيه ، وذلك من فرط حبِّهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روي عن بعضهم أنه كان إذا صلَّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ، ثم رجع إلى المسجد فصلَّى ما شاء الله تعالى أن يصلي ، فقيل له : لأيّ شيء تصنع هذا ؟ قال : إني رأيت سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا يصنع ، وتلا هذه الآية : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَٰوةُ } . اللطيفة الخامسة : كان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : " اللهمّ إني أجبتُ دعوتك ، وصلَّيتُ فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين " . اللطيفة السادسة : في قوله تعالى : { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } لطيفة وهي أن الله عز وجل أمر بالسعي في طلب الرزق ، والاشتغال بالتجارة ، ولمّا كان هذا قد يسوق الإنسان إلى الغفلة ، وربما دفعته الرغبة في جمع المال ، إلى الكذب ، والغش ، والاحتيال ، أُمِر المسلمُ أن يذكر الله تعالى ، ليعلم أن الدنيا ومتاعها فانية وأن الآخرة وما فيها باقية ، وأنّ ما عند الله خير وأبقى ، فلا تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة كما قال تعالى في وصف المؤمنين : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ النور : 37 ] وهذا هو السرّ في الأمر بذكر الله كثيراً فتدبره . اللطيفة السابعة : الأصل في ( إذا ) أنها للاستقبال ، والآية الكريمة نزلت بعد تلك الحادثة وبعد انفضاض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا فقد خرجت عن الاستقبال واستعملت في الماضي ، على حدِّ قول القائل : @ ونَدْمانٍ يزيدُ الكأس طيباً سَقَيْتُ ( إذا ) تَغَوّرتِ النَجومُ @@ ما ورد في فضائل يوم الجمعة أ - يومُ الجمعة أفضل الأيام وأشرفها على الاطلاق فقد روى مسلم في " صحيحه " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خُلِقَ آدم ، وفيه أُدخل الجنة ، وفيه أُخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة " . ب - وروى مالك في " الموطأ " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة ، فيه خُلق آدم ، وفيه أهبط من الجنة ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة ، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة ، إلاَّ الإنس والجن ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي ، يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه إياه " . جـ - وروى أبو داود في " سننه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة ، فيه خُلق آدم ، وفيه قُبض ، وفيه النفخةُ ، وفيه الصعقةُ ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه ، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ ، قالوا يا رسول الله : كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ ؟ يعني ( بليتَ ) فقال صلى الله عليه وسلم : إنّ الله عز وجلّ حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " . الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما هو الأذان الذي يجب السعي عنده ؟ دلَّ قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَٰوةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } على وجوب السعي إلى المسجد ، وترك البيع والشراء ، وقد اختلف العلماء في الأذان الذي يجب السعي عنده . 1 - قال بعض العلماء : المراد به الأذان الأول الذي هو على ( المنارة ) . 2 - وقال آخرون : المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب إذا صعد الإمام المنبر . حجة الفريق الأول : أ - أن المراد من النداء هو الإعلام ، والسعيُ إنما يجب عند الإعلام ، وهو ( الأذان الأول ) على المنارة ، الذي زاده عثمان رضي الله عنه ، وذلك حين رأى كثرة الناس ، وتَباعُدَ مساكنهم عن المسجد ، فأمر بالتأذين الأول على دارٍ له بالسوق ، يقال لها ( الزّوراء ) وقد ثبت الأمر على ذلك من عهده إلى عصرنا هذا . ب - واستدلوا بما رواه البخاري في " صحيحه " عن ( السائب بن يزيد ) رضي الله عنه أنه قال : ( كان النداء يوم الجمعة أوَّلُه إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، فلما كان زمن عثمان رضي الله عنه وكثر الناس ، زاد النداء الثالث على الزّوراء فثبت الأمر على ذلك ) . جـ - وقالوا : السعيُ عند الأذان الثاني ، وقت صعود الخطيب المنبر ، يفوّت على الناس سماع الخطبة التي من أجلها خفّف الله تعالى الصلاة فجعلها ركعتين ، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لقرب مساكنهم من المسجد ، ولحرصهم الشديد على أن يجيئوا من أول الوقت محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يُسْمعهم فيحضرون سراعاً ، ويدركون الخطبة من أولها لقرب المساكن من المسجد . وهذا القول هو الظاهر المعتمد في مذهب الحنفية ، وقد نصّ عليه صاحب " الكنز " من أئمة فقهاء الحنفية فقال : " ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَٰوةِ } الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به ، وهذا القول هو الصحيح في المذهب . وقيل : العبرة للأذان الثاني ، الذي يكون بين يدي الخطيب على المنبر ، لأنه لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم إلاّ هو - وهو ضعيف - لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السُنّة القبلية ، ومن الاستماع ، بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى . حجة الفريق الثاني : أ - الأذان الذي يجب فيه السعيُ وتركُ البيع ، هو ( الأذان الثاني ) الذي يكون بين يدي الخطيب ، لأنه هو الأذان الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وهو عليه السلام أحرص الناس على أن يؤدي المؤمنون الواجب عليهم في وقته ، فلو كان السعي واجباً قبل ذلك لبيّنه لهم ، ولجعل بين الأذان والخطبة زمناً يتسع لحضور الناس . ب - ما روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَٰوةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } قالا : " إذا خرج الإمام وأذّن المؤذن فقد نودي للصلاة " . قالوا : وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره . جـ - وقالوا أيضاً : إن المصلي يندب له أن يجيء مبكّراً لفوائد جمّة كما دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة ، ولكنّ تحريم البيع والشراء والحكمَ بالإثم شيءٌ ، وإدراكَ الأمر المندوب شيءٌ آخر . ثم إن السنة القبلية - على فرض أنها بقيت مطلوبة في الجمعة - فإنه لا يمكننا أن نوجب السعي قبل وقته لتحصيل سنّة لم تثبت ، فيبقى النداء الذي يحرم عنده البيع هو ( النداء الثاني ) الذي يكون عند صعود الخطيب المنبر ، وهو الذي كان في زمنه عليه السلام . وهذا المذهب هو رأي جمهور العلماء ، وقولٌ عند فقهاء الحنفية ، ولعله يكون الأرجح والله تعالى أعلم . الحكم الثاني : هل يفسخ البيع عند الأذان ؟ دلَّ قوله تعالى : { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } على حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان ، وقد اختلف العلماء في عقد البيع هل هو صحيح أم فاسد ؟ فقال بعضهم إنه فاسد لورود النهي { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } . وقال الأكثرون إنه حرام ولكنه غير فاسد وهو يشبه الصلاة في الأرض المغصوبة تصحُّ مع الكراهة . قال القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " : " وفي وقت التحريم قولان : الأول : أنه من بعد الزوال إلى الفراغ من الصلاة . قاله الضحّاك ، والحسن ، وعطاء . الثاني : من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة ، قاله الشافعي . قال : ومذهب مالك : أن يترك البيع إذا نودي للصلاة ، ويفسخ عنده ما وقع من البيع في ذلك الوقت ، ولا يفسخ العتق ، والنكاح ، والطلاق وغيره ، إذا ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع ، قالوا : وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ . قال ابن العربي : والصحيحُ فسخ الجميع ، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به ، فكلُّ أمرٍ يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً . مفسوخ رَدْعاً . ورأى بعضُ العلماء البيع في الوقت المذكور جائزاً ، وتأَوَّل النّهيَ عنه ندباً ، واستدل بقوله تعالى : { ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، وهذا مذهب الشافعي فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ . وقال الزمخشري في تفسيره : إن عامة العلماء على أنّ ذلك لا يؤدي إلى فساد البيع ، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة ، والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس أنه فاسد . قال القرطبي : والصحيح فسادُه ، وفسخُه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردّ " أي مردود ، والله أعلم . الحكم الثالث : هل الخُطْبة شرط لصحة الجمعة ؟ دلّ قوله تعالى : { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } على أن الخطبة شرط لصحة صلاة الجمعة ، لأن ذكر الله سواء قلنا إنه : ( الموعظة ) أو إنه ( الموعظة والصلاة معاً ) يدخل فيه خطبة الجمعة ، فلا بدّ أن تكون شرطاً لصحة الصلاة . ولأن صلاة الجمعة إنما خفّفت من أجل الخطبة وسماع الموعظة ، وعليه تكون الخطبة واجبة ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء . غير أن فقهاء الحنفية قالوا : لا يشترط في الخطبة أن تكون مشتملة على ما يسمّى ( خطبة ) عرفاً ، لأن الله تعالى ذكر الذّكر من غير تفصيل بين كونه طويلاً ، أو قصيراً ، يسمّى خطبة أو لا يسمى خطبة ، فكان الشرط هو الذكر مطلقاً ، ويكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم الذكر ، غير أن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم هو الذكر المسمّى بـ ( الخطبة ) والمواظبة عليه فكان ذلك واجباً أو سنّة ، لا أنه الشرطُ الذي لا يجزئ غيره . وفقهاء الشافعية والحنابلة : يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة منها : حمدُ الله ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقراءة آية من كتاب الله تعالى ، والوصيةُ بتقوى الله تعالى . وزاد الشافعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات . وفقهاء المالكية : شرطوا في الخطبة شرطاً واحداً وهي أن تكون مشتملة على تحذير أو تبشير ممّا يسمّى في العرف موعظة وخطبة . قال في " الروضة الندية " : " ثمّ اعلم أنَّ الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله عليه وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم ، فهذا في الحقيقة روحُ الخطبة الذي لأجله شرعت ، وأمّا اشتراط الحمد لله ، أو الصلاة على رسوله ، أو قراءة شيء من القرآن ، فجميعُه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة ، واتفاقُ مثل ذلك في خطبته صلى الله عليه وسلم لا يدل على أنه مقصود متحتم ، وشرط لازم . ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان عُرْف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ، ويقول مقالاً ، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم - وما أحسن هذا وأولاه - ولكن ليس هو المقصود ، بل المقصود ما بعده ، ولو قال : إنّ من قام في محفل من المحافل خطيباً ، ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد ، والصلاة ، لما كان هذا مقبولاً بل كل طبع سليم يمجّه ويردّه ، إذا تقرّر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث ، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلاّ أنه إذا قدّم الثناء على الله وعلى رسوله ، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتمّ وأحسن " . الحكم الرابع : ما هو العدد الذي تنعقد به الجمعة ؟ لا خلاف بين الفقهاء أن الجماعة شرط من شروط صحة الجمعة ، لقوله عليه السلام : " الجمعة حقٌّ واجبٌ على كل مسلم في جماعة ، إلا أربعة : مملوك ، أو امرأة ، أو صبي ، أو مريض " . ولأن التسمية تقتضي ذلك ، فلا يقال لمن صلَّى وحده إنه صلى الجمعة . فلا بدّ من الجماعة ، وقد اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة إلى خمسة عشر قولاً ذكرها الحافظ في " الفتح " . والآية الكريمة لم تنصّ على عددٍ معيّن ، وكذلك السُنَّةُ المطهّرة لم يرد فيها نص صريح صحيح على العدد الذي تنعقد به ، ولهذا اختلف الفقهاء على أقوال عديدة : أ - الحنفية قالوا : يكفي أربعة أحدهم الإمام ، وقيل : ثلاثة . ب - الشافعية والحنابلة قالوا : لا بدّ من جمع غفير أقله أربعون . جـ - المالكية قالوا : لا يشترط عدد معيّن بل تشترط جماعة تُسْكن بهم قرية ، ويقع بينهم البيع ، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم . قال الحافظ ابن حجر : ولعلّ هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل . وهناك أحكام أخرى تطلب من كتب الفروع ضربنا صفحاً عنها لأنّ الآية الكريمة لا تدل عليها والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً : الجمعة فريضة على المسلمين المكلفين بالشروط المعروفة . ثانياً : وجوب السعي للاستماع إلى الخطبة وأداء فريضة الجمعة . ثالثاً : حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان . رابعاً : جواز الاشتغال بأمور التجارة والمعاش قبل الصلاة وبعدها . خامساً : الرزق بيد الله ومع ذلك ينبغي أن يأخذ الإنسان بأسباب الكسب . سادساً : لا ينبغي للمؤمن أن تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة . خاتمة البحث : حكمة التشريع الصلاة صلة العبد بربه ، وعبادة تشدُّ القلب ، وتقوِّي الإيمان فيه ، وهي إلى جانب هذا تزيد المجتمع ترابطاً وتآلفاً ، يلتقي فيها أفراده على الخير ، ويتعاونون على البر والتقوى ، وإذا كانت الصلوات الخمس في كل يوم وليلة مفروضة فقد يُشْغل المرء عن بعضها في شغله الدنيوي الذي يُبعده عن المسجد ، أو يتساهل في عدم المجيء إليها ، لذلك فقد فرض الله صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة واحدة ليسرع إلى الصلاة يستمع إلى كلام الله وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وموعظة الخطيب ، فيكون له زاداً إيمانياً ، ويجتمع بإخوانه المؤمنين جميعاً ، فيتفقد الغائب ، ويعين المحتاج ، ويعود المريض ، ويصالح المتخاصمين ، ويبذل نصحه للمقصِّرين … كما يتعلم الآداب الإسلامية في الاجتماع من السلام ، والاحترام ، والبشاشة التي تجعل المجتمع في سلام وأمان ، لهذا كله فرض الله سبحانه صلاة الجمعة على كل مسلم ، وأمره أن يسعى إليها ، وحثه على أدائها .