Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 114, Ayat: 1-6)

Tafsir: Kitāb at-Tašīl li-ʿulūm at-tanzīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } إن قيل لم أضاف الرب إلى الناس خاصة وهو رب كل شيء ؟ فالجواب : أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس ، فخصهم بالذكر لأنهم المعوذين بهذا التعويذ والمقصودون هنا دون غيرهم { مَلِكِ ٱلنَّاسِ * إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } هذا عطف بيان ، فإن قيل : لم قدم وصفه تعالى برب ثم بملك ثم بإلٰه ؟ فالجواب أن هذا على الترتيب في الارتقاء إلى الأعلى وذلك أن الرب قد يطلق على كثير من الناس ، فيقال فلان رب الدار ، وشبه ذلك فبدأ به لاشتراك معناه ، وأما الملك فلا يوصف به إلا أحد من الناس ، وهم الملوك ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس ، فلذلك جاء به بعد الرب ، وأما الإلٰه فهو أعلى من الملك ولذلك لا يدعي الملوك أنهم آلهة فإنما الإلٰه واحد لا شريك له ولا نظير فلذلك ختم به . فإن قيل : لم أظهر المضاف إليه وهو الناس في المرة الثانية والثالثة فهلا أضمره في المرتين لتقديم ذكره في قوله برب الناس أو هلا اكتفى بإظهاره في المرة الثانية ؟ فالجواب أنه لما كان عطف بيان حسن فيه البيان وهو الإظهار دون الإضمار ، وقصد أيضاً الاعتناء بالمكرر ذكره كقول الشاعر : @ لا أرى الموت يسبق الموت شيء يبغص الموت ذا الغنى والفقير @@ { ٱلْوَسْوَاسِ } وهو مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي ، فيحتمل أن يكون الوسواس بمعنى الموسوس فكأنه اسم فاعل وهذا يظهر من قول ابن عطية : الوسواس من أسماء الشيطان ، ويحتمل أن يكون مصدراً وصف به الموسوس على وجه المبالغة ، كعدَّل وصوَّم أو على حذف مضاف تقديره ذي الوسواس ، وقال الزمخشري : إنما المصدر وسواس بالكفر { ٱلْخَنَّاسِ } معناه الراجع على عقبه المستمر أحياناً وذلك متمكن في الشيطان فإنه يوسوس فإذا ذكر العبدُ الله وتعوذ به منذ تباعد عنه ، ثم رجع إليه عند الغفلة عن الذكر ، وهو يخنس في تباعده ثم في رجوعه بعد ذلك . { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } وسوسة الشيطان في صدر الإنسان بأنواع كثيرة منها : إفساد الإيمان والتشكيك في العقائد فإن لم يقدر على ذلك أمره بالمعاصي ، فإن لم يقدر على ذلك ثبَّطه عن الطاعات ، فإن لم يقدر على ذلك أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها ، فإن سلم من ذلك أدخل عليه العُجْب بنفسه ، واستكثار عمله ، ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد ، والحقد ، والغضب ، حتى يقود الإنسان إلى شر الأعمال وأقبح الأحوال . وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء . واحدها : الإكثار من ذكر الله . وثانيها : الإكثار من الاستعاذة بالله منه ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة . وثالثها : مخالفته والعزم على عصيانه . فإن قيل : لم قال في صدور الناس ولم يقل : في قلوب الناس ؟ فالجواب : أن ذلك إشارة إلى عدم تمكن الوسوسة ، وأنها غير حالة في القلب بل هي محوِّمة في صدور حول القلب { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } هذا بيان لجنس الوسواس وأن يكون من الجن ، ومن الناس ، ثم إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه ، وأقواله الخبيثة ، فإنه الشيطان كما قال تعالى : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [ الأنعام : 112 ] أو يريد به نفس الإنسان إذ تأمره بالسوء ، فإنها أمّارة بالسوء والأول أظهر ، وقيل : من الناس معطوف على الوسواس كأنه قال : أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر الناس ، وليس الناس على هذا ممن يوسوس . والأول أظهر وأشهر . فإن قيل : لم ختم القرآن بالمعوذتين وما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما كان القرآن من أعظم النعم على عباده ، والنعم مظنة الحسد فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله . الثاني : يظهر لي أن المعوذتين ختم بهما " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما : أنزلت عليّ آيات لم ير مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب : " لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها واختتم بسورتين لم يُرَ مثلهما ليجمع حسن الافتتاح والاختتام ، ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما ينظر فيها إلى حُسن افتتاحها واختتامها . الوجه الثالث : يظهر لي أيضاً أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القراءة ، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء ، وليكون القارئ محفوظاً بحفظ الله الذي استعاذ به من أول أمره إلى آخره وبالله التوفيق لا رب غيره .