Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 114, Ayat: 1-6)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقرأ الجمهور { قُلْ أَعُوذُ } بالهمزة . وقرىء بحذفها ، ونقل حركتها إلى اللام . وقرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس ، وقرأ الكسائي بالإمالة . ومعنى { ربّ الناس } مالك أمرهم ، ومصلح أحوالهم ، وإنما قال { ربّ الناس } مع أنه ربّ جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ، ولكون الاستعاذة وقعت من شرّ ما يوسوس في صدورهم . وقوله { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم ، بل بطريق الملك الكامل ، والسلطان القاهر . { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } هو أيضاً عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته ، وملكه قد انضمّ إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام ، وأيضاً الربّ قد يكون ملكاً ، وقد لا يكون ملكاً ، كما يقال ربّ الدار ، وربّ المتاع ، ومنه قوله { ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ } التوبة 31 فبين أنه ملك الناس . ثم الملك قد يكون إلٰهاً ، وقد لا يكون ، فبيّن أنه إلٰه لأن اسم الإلٰه خاصّ به لا يشاركه فيه أحد ، وأيضاً بدأ باسم الربّ ، وهو اسم لمن قام بتدبيره ، وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً ، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك ، فذكر أنه ملك الناس . ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وأنه عبد مخلوق ، وأن خالقه إلٰه معبود بيّن سبحانه أنه إلٰه الناس ، وكرّر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس . { مِن شَرّ ٱلْوَسْوَاسِ } قال الفرّاء هو بفتح الواو بمعنى الاسم ، أي الموسوس ، وبكسرها المصدر ، أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة . وقيل هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة ، والوسوسة هي حديث النفس ، يقال وسوست إليه نفسه وسوسة ، أي حدّثته حديثاً ، وأصلها الصوت الخفيّ . ومنه قيل لأصوات الحلي وسواس ، ومنه قول الأعشى @ تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت @@ قال الزجاج الوسواس هو الشيطان ، أي ذي الوسواس . ويقال إن الوسواس ابن لإبليس ، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ } الأعراف 20 ومعنى { ٱلْخَنَّاسِ } كثير الخنس ، وهو التأخر ، يقال خنس يخنس إذا تأخر ، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم @ فإذا دخسوا بالشرّ فاعف تكرّما وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل @@ قال مجاهد إذا ذكر الله خنس وانقبض . وإذا لم يذكر انبسط على القلب . ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } التكوير 15 يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها ، كما تقدّم . وقيل الخناس اسم لابن إبليس ، كما تقدّم في الوسواس . { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ } الموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتاً للوسواس ، ويجوز أن يكون منصوباً على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على تقدير مبتدأ . وقد تقدّم معنى الوسوسة . قال قتادة إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له ، وإذا ذكر العبد ربه خنس . قال مقاتل إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك ، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفيّ يصل إلى القلب من غير سماع صوت . ثم بيّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني ، وإنسي ، فقال { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } أما شيطان الجنّ ، فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس ، فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق ، فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته ، كما قال سبحانه { شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ } الأنعام 112 ويجوز أن يكون متعلقاً بـ { يوسوس } أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ، ومن جهة الناس ، ويجوز أن يكون بياناً للناس . قال الرازي ، وقال قوم من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله { فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ } لأن القدر المشترك بين الجنّ والإنس يسمى إنساناً ، والإنسان أيضاً يسمى إنساناً ، فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس ، والنوع بالاشتراك . والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجنّ ما روي أنه جاء نفر من الجنّ . فقيل لهم من أنتم ؟ قالوا ناس من الجنّ . وأيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ } الجن 6 . وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ بربّ الناس من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس ، ومن الجنة والناس ، كأنه استعاذ ربّه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربّه من جميع الجنة ، والناس . وقيل المراد بالناس الناسي ، وسقطت الياء كسقوطها في قوله { يَوْمَ يَدْعُو ٱلدَّاعِ } القمر 6 ثم بيّن بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان ، وأحسن من هذا أن يكون قوله { وَٱلنَّاسِ } معطوفاً على الوسواس ، أي من شرّ الوسواس ، ومن شرّ الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإنس . قال الحسن أما شيطان الجنّ ، فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس ، فيأتي علانية . وقال قتادة إن من الجنّ شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس . وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الجنّ ، كما يوسوس في صدور الإنس ، وواحد الجنة جنيّ كما أن واحد الإنس إنسيّ . والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلاّ بالمعنى الذي قدّمنا ، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة . وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله { ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } قال مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب ، فيوسوس إليه ، فإن ذكر الله خنس ، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخنّاس . وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، وأبو يعلى ، وابن شاهين ، والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسيه التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخنّاس " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } قال الشيطان جاث على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، والبيهقي عنه قال ما من مولود يولد إلاّ على قلبه الوسواس ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس ، فذلك قوله { ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } . وقد ورد في معنى هذا غيره ، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان ، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة ، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة .