Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 109-111)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } هذا رد على من قال { لَوْلا أُنزِلَ عليه مَلَكٌ } الأنعام 8 أي لم نبعث من الأنبياء إلى من قبلهم إلا رجالاً لا ملائكة . فكيف ينكرون إرسالنا إياك ؟ وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبياً من النساء ولا من الجنّ ، وهذا يردّ على من قال إن في النساء أربع نبيات حواء ، وآسية ، وأم موسى ، ومريم . وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمراً معروفاً عند العرب ، حتى قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة @ أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله والأقوام كلهم على سجاح ومن باللوم أغرانا @@ { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } كما نوحي إليك { مّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } أي المدائن دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو ، ولكون أهل الأمصار أتم عقلاً وأكمل حلماً وأجلّ فضلاً { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني المشركين المنكرين لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أي أفلم يسر المشركون هؤلاء فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } أي لدار الساعة الآخرة ، أو لحالة الآخرة على حذف الموصوف . وقال الفراء إن الدار هي الآخرة ، وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة ، وصلاة الأولى ، ومسجد الجامع ، والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب ، والمراد بهذه الدار الجنة ، أي هي خير للمتقين من دار الدنيا . وقرىء " وللدار الآخرة " . وقرأ نافع وعاصم ويعقوب { أفلا تعقلون } بالتاء الفوقية على الخطاب . وقرأ الباقون بالتحتية . { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْـئَسَ ٱلرُّسُلُ } هذه الغاية المحذوف دلّ عليه الكلام ، وتقديره { وما أرسلنا من قبلك } يا محمد إلاّ رجالاً ، ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا بالعقوبة { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْـئَسَ } من النصر بعقوبة قومهم ، أو { حتى إذ استيأس الرسل } من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } . قرأ ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبو عبد الرحمٰن السلمي ، وأبو جعفر بن القعقاع ، والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء العطاردي ، وعاصم وحمزة والكسائي ، ويحيـى بن وثاب ، والأعمش وخلف { كذبوا } بالتخفيف أي ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا . وقيل المعنى ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم ، وقيل المعنى وظنّ الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون عليهم ، أو كذبهم رجاؤهم للنصر ، وقرأ الباقون " كذبوا " بالتشديد ، والمعنى عليها واضح أي ظنّ الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب ، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظنّ القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد . وقرأ مجاهد وحميد { قد كذبوا } بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا وقد قيل إن الظنّ في هذه الآية بمعنى اليقين لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم ، وليس ذلك مجرد ظنّ منهم . والذي ينبغي أن يفسر الظنّ باليقين في مثل هذه الصورة يفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظنّ فقط من الصور السابقة . { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة ، أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين { فنجي مَّن نَّشَاء } . قرأ عاصم { فنجي } بنون واحدة . وقرأ الباقون " فننجي " بنونين . واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لأنها في مصحف عثمان كذلك . وقرأ ابن محيصن " فنجا " على البناء للفاعل ، فتكون من على القراءة الأولى في محل رفع على أنها فاعل ، والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم ، وهلك المكذبون { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } عند نزوله بهم ، وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين . { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ } أي قصص الرسل ومن بعثوا إليه من الأمم ، أو في قصص يوسف وإخوته وأبيه { عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلأَلْبَـٰبِ } والعبرة الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة ، وقيل هي نوع من الاعتبار ، وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول . وأولوا الألباب هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم ، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدّة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم ، ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ } أي ما كان هذا المقصوص الذي يدلّ عليه ذكر القصص وهو القرآن المشتمل على ذلك حديثاً يفترى { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ } أي ما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور . وقرىء برفع " تصديق " على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو تصديق وتفصيل كل شيء من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها لأن الله سبحانه لم يفرّط في الكتاب من شيء . وقيل تفصيل كل شيء من قصة يوسف مع إخوته وأبيه . قيل وليس المراد به ما يقتضيه من العموم ، بل المراد به الأصول والقوانين وما يئول إليها { وَهَدَىٰ } في الدنيا يهتدي به كل من أراد الله هدايته { وَرَحْمَةً } في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه شرط الإيمان الصحيح ، ولهذا قال { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي يصدّقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره ، وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدي بما اشتمل عليه من الهدى ، فلا يستحق ما يستحقونه . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } قال أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط إلاّ من أهل القرى ، لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } قال كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط ، وقوم صالح ، والأمم التي عذب الله ؟ وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْـئَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قال قلت أكذبوا أم كذبوا ؟ يعني على هذه الكلمة مخففة أم مشددة ، فقالت بل كذبوا تعني بالتشديد . قلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ، قالت أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك ، فقلت لعلها ، وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة ، قالت معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها ، قلت فما هذه الآية ؟ قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر ، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن عبد الله بن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها عليه { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة ، يقول أخلفوا . وقال ابن عباس كانوا بشراً ، وتلا { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } البقرة 214 قال ابن أبي مليكة وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته ، وقالت ما وعد الله رسوله من شيء إلاّ علم أنه سيكون قبل أن يموت ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم ، وكانت تقرؤها مثقلة . وأخرج ابن مردويه من طريق عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة . وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ { قد كذبوا } مخففة . قال يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم ، وظنّ قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاءوا به { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } قال جاء الرسل نصرنا . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ عن تميم بن حذلهم قال قرأت على ابن مسعود القرآن فلم يأخذ عليّ إلاّ حرفين { كُلٌّ أَتَوْهُ دٰخِرِينَ } النمل 87 فقال أتوه مخففة ، وقرأت عليه { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } فقال { كذبوا } مخففة . قال استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم ، وظنّ قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا . وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الأحوص عنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة يوسف { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } خفيفة . وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء } قال فننجي الرسل ومن نشاء { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم ، فأخبروهم أن من أطاع الله نجا ومن عصاه عذب وغوى . وأخرج أبو الشيخ عنه قال { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } العذاب . وأخرج أبو الشيخ عن السدّي { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } قال عذابه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ } قال يوسف وإخوته . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ { عِبْرَةٌ لأَوْلِى ٱلألْبَـٰبِ } قال معروفة لذوي العقول . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ } قال الفرية الكذب . { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } قال القرآن يصدّق الكتب التي كانت قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور ، ويصدّق ذلك كله ، ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .