Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 1-6)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهمّ ، ثم في النبوّة لأنها الواسطة ، ثم في المعاد لأنه الخاتمة . وأصل تبارك مأخوذ من البركة ، وهي النماء والزيادة ، حسية كانت أو عقلية . قال الزجاج تبارك تفاعل ، من البركة . قال ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير ، وقال الفراء إن تبارك وتقدّس في العربية واحد ، ومعناهما العظمة . وقيل المعنى تبارك عطاؤه أي زاد وكثر . وقيل المعنى دام وثبت . قال النحاس وهذا أولاها في اللغة ، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت ، ومنه برك الجمل ، أي دام وثبت . واعترض ما قاله الفراء بأن التقديس إنما هو من الطهارة ، وليس من ذا في شيء . قال العلماء هذه اللفظة لا تستعمل إلاّ لله سبحانه ، ولا تستعمل إلاّ بلفظ الماضي ، والفرقان القرآن ، وسمي فرقاناً لأنه يفرق بين الحقّ والباطل بأحكامه ، أو بين المحق والمبطل ، والمراد بعبده نبينا صلى الله عليه وسلم . ثم علل التنزيل { لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال ، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم ، أو الفرقان ، والمراد بالعالمين هنا الإنس والجنّ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهما ، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلاً إلى الثقلين ، والنذير المنذر أي ليكون محمد صلى الله عليه وسلم منذراً ، أو ليكون إنزال القرآن منذراً ، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة أي ليكون إنزاله إنذاراً ، أو ليكون محمد إنذاراً ، وجعل الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم أولى ، لأن صدور الإنذار منه حقيقة ، ومن القرآن مجاز ، والحمل على الحقيقة أولى ، ولكونه أقرب مذكور . وقيل إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } الإسراء 9 ، ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع الأولى { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } دون غيره ، فهو المتصرف فيهما ، ويحتمل أن يكون الموصول الآخر بدلاً ، أو بياناً للموصول الأوّل ، والوصف أولى ، وفيه تنبيه على افتقار الكلّ إليه في الوجود ، وتوابعه من البقاء ، وغيره ، والصفة الثانية { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } ، وفيه ردّ على النصارى ، واليهود . والصفة الثالثة { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ } ، وفيه ردّ على طوائف المشركين من الوثنية ، والثنوية ، وأهل الشرك الخفيّ . والصفة الرابعة { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء } من الموجودات { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أي قدّر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد ، وهيأه لما يصلح له . قال الواحدي قال المفسرون قدر له تقديراً من الأجل والرزق ، فجرت المقادير على ما خلق . وقيل أريد بالخلق هنا مجرّد الإحداث ، والإيجاد مجازاً من غير ملاحظة معنى التقدير ، وإن لم يخل عنه في نفس الأمر ، فيكون المعنى أوجد كل شيء فقدّره لئلا يلزم التكرار . ثم صرّح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان ، فقال { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } ، والضمير في { اتخذوا } للمشركين ، وإن لم يتقدّم لهم ذكر ، لدلالة نفي الشريك عليهم أي اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله آلهة { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } ، والجملة في محل نصب صفة لآلهة أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء ، وغلب العقلاء على غيرهم ، لأن في معبودات الكفار الملائكة ، وعزير والمسيح { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي يخلقهم الله سبحانه . وقيل عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جرياً على اعتقاد الكفار أنها تضرّ وتنفع . وقيل معنى { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أن عبدتهم يصوّرونهم . ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ ، فقال { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً ، ولا يدفعوا عنها ضرراً ، وقدّم ذكر الضرّ ، لأن دفعه أهمّ من جلب النفع ، وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم ، فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم ؟ ثم زاد في بيان عجزهم ، فنصص على هذه الأمور ، فقال { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً } أي لا يقدرون على إماتة الأحياء ، ولا إحياء الموتى ، ولا بعثهم من القبور ، لأن النشور الإحياء بعد الموت ، يقال أنشر الله الموتى ، فنشروا ، ومنه قول الأعشى @ حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر @@ ولما فرغ من بيان التوحيد ، وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوّة ، فالشبهة الأولى ما حكاه عنهم بقوله { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ } أي كذب { ٱفْتَرَاهُ } أي اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم ، والإشارة بقوله { هَـٰذَا } إلى القرآن { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أي على الاختلاق { قَوْمٌ ءاخَرُونَ } يعنون من اليهود . قيل وهم أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي ، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى ، وجبر مولى ابن عامر ، وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود ، وقد مرّ الكلام على مثل هذا في النحل . ثم ردّ الله سبحانه عليهم ، فقال { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي فقد قالوا ظلماً هائلاً عظيماً ، وكذباً ظاهراً ، وانتصاب { ظلماً } بـ { جاءُوا } ، فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى ، ويعدّى تعديته . وقال الزجاج إنه منصوب بنزع الخافض ، والأصل جاءُوا بظلم . وقيل هو منتصب على الحال ، وإنما كان ذلك منهم ظلماً ، لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وهذا هو الظلم ، وأما كون ذلك منهم زوراً ، فظاهر لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة . ثم ذكر الشبهة الثانية ، فقال { وَقَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي أحاديث الأوّلين ، وما سطروه من الأخبار ، قال الزجاج واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة ، وقال غيره أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال { ٱكْتَتَبَهَا } أي استكتبها ، أو كتبها لنفسه ، ومحل اكتتبها النصب على أنه حال من أساطير ، أو محله الرفع على أنه خبر ثانٍ ، لأن أساطير مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه أساطير الأوّلين اكتتبها ، ويجوز أن يكون أساطير مبتدأ ، واكتتبها خبره ، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب ، وهو الجمع ، لا من الكتابة بالقلم ، والأوّل أولى . وقرأ طلحة " اكتتبها " مبنياً للمفعول ، والمعنى اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أمياً لا يكتب ، ثم حذفت اللام ، فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتتبها إياه ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه ، فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً ، كذا قال في الكشاف ، واعترضه أبو حيان { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ، ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أمياً لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه ، ويجوز أن يكون المعنى ، اكتتبها أراد اكتتابها { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } لأنه يقال أمليت عليه ، فهو يكتب { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } غدوة وعشياً كأنهم قالوا إن هؤلاء يعلمون محمداً طرفي النهار ، وقيل معنى بكرة وأصيلاً دائماً في جميع الأوقات . فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم ، وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة ، وأخبار الأوّلين ، بل هو أمر سماويّ أنزله الذي يعلم كلّ شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء ، فلهذا عجزتم عن معارضته ، ولم تأتوا بسورة منه ، وخصّ السرّ للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر ، والسرّ الغيب أي يعلم الغيب الكائن فيهما ، وجملة { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } تعليل لتأخير العقوبة أي إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسوله ، والظلم له ، فإنه لا يعجل عليكم بذلك ، لأنه كثير المغفرة والرحمة . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { تَبَـٰرَكَ } تفاعل من البركة . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } قال يهود { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً } قال كذباً . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله { تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ } هو القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه ، وفرّق الله بين الحق ، والباطل { لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } قال بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً من الله ، لينذر الناس بأس الله ، ووقائعه بمن خلا قبلكم { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال بين لكل شيء من خلقه صلاحه ، وجعل ذلك بقدر معلوم { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } قال هي الأوثان التي تعبد من دون الله { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وهو الله الخالق الرازق ، وهذه الأوثان تخلق ولا تخلق شيئاً ، ولا تضرّ ولا تنفع ، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً يعني بعثاً { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } هذا قول مشركي العرب { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ } هو الكذب { ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أي على حديثه هذا ، وأمره { أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } كذب الأوّلين ، وأحاديثهم .