Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 196-200)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { لاَ يَغُرَّنَّكَ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . والمراد تثبيته على ما هو عليه ، كقوله تعالى { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ } النساء 136 أو خطاب لكل أحد ، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين والمعنى لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم ، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار ، ثم مصيرهم إلى جهنم ، فقوله { مَتَـٰعٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أي هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه { وَمَأْوَاهُمُ } أي ما يأوون إليه . والتقلب في البلاد الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة ، ومثله قوله تعالى { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ } غافر 4 والمتاع ما يعجل الانتفاع به ، وسماه قليلاً لأنه فانٍ وكل فانٍ ، وإن كان كثيراً ، فهو قليل . وقوله { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم ، أو ما مهد الله لهم من النار ، فالمخصوص بالذم محذوف ، وهو هذا المقدّر . قوله { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ } هو استدراك مما تقدّمه لأن معناه معنى النفي كأنه قال ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } لهم الانتفاع الكثير ، والخلد الدائم . وقرأ يزيد بن القعقاع " لكن " بتشديد النون . قوله { نُزُلاً } مصدر مؤكد عند البصريين ، كما تقدّم في { ثواباً } وعند الكسائي ، والفراء مثل ما قالا في { ثواباً } ، والنزل ما يهيأ للنزيل ، والجمع أنزال ، قال الهروي { نُزُلاٍ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي ثواباً من عند الله { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } مما أعدّه لمن أطاعه { خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار فإنه متاع قليل عن قريب يزول . قوله { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظّ من الدين ، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق ، وفيما سيأتي ، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله ، وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم { خَـٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ } أي يستبدلون { بآيات الله ثمناً قليلاً } بالتحريف ، والتبديل ، كما يفعله سائرهم ، بل يحكون كتب الله سبحانه ، كما هي ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } الذي وعد الله سبحانه به بقوله { أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } القصص 54 وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم . وقوله { عِندَ رَبّهِمْ } في محل نصب على الحال . قوله { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ } الخ . هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } البقرة 164 ، آل عمران 190 ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا ، والآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات ، والشهوات ، والصبر الحبس ، وقد تقدم تحقيق معناه . والمصابرة مصابرة الأعداء ، قاله الجمهور أي غالبوهم في الصبر على الشدائد الحرب ، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشدّ منه ، وأشقّ . وقيل المعنى صابروا على الصلوات ، وقيل صابروا الأنفس عن شهواتها . وقيل صابروا الوعد الذي وعدتم ، ولا تيأسوا ، والقول الأول هو المعنى العربي ، ومنه قول عنترة @ فَلَمْ أرَ حيّاً صَابَروا مِثْل صَبَرْنا وَلا كَافَحوا مِثْلَ الذين نُكَافِحُ @@ أي صابروا العدّو في الحرب . قوله { وَرَابِطُواْ } أي أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها ، كما يربطها أعداؤكم وهذا قول جمهور المفسرين . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا ، والرباط اللغوي هو الأوّل ، ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه وسلم ، لغيره رباطاً ، كما سيأتي . ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول ، وعلى انتظار الصلاة . قال الخليل الرباط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصلاة ، هكذا قال ، وهو من أئمة اللغة . وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال يقال ماء مترابط دائم لا يبرح ، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور . قوله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فلا تخالفوا ما شرعه لكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب ، وهم المفلحون . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن عكرمة في قوله { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تقلب ليلهم ، ونهارهم وما يجري عليهم من النعم ، قال عكرمة قال ابن عباس ، وبئس المهاد ، أي بئس المنزل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله { تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ } غافر 4 قال ضربهم في البلاد . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر في قوله { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لّلابْرَارِ } قال إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء ، والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حقاً . وأخرجه ابن مردويه ، عنه مرفوعاً ، والأول أصح قاله السيوطي . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد { خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } لمن يطيع الله . وأخرج النسائي ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أنس قال لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم " صلوا عليه ، " قالوا يا رسول الله نصلي على عبد حبشي ؟ فأنزل الله { وَإِن مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } الآية . وأخرج ابن جرير ، عن جابر مرفوعاً أن المنافقين قالوا انظروا إلى هذا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على علج نصراني ، فنزلت . وأخرج الحاكم وصححه ، عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النجاشي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد ، والذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدّمنا ذكره . وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها . وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي قال اصبروا على دينكم ، وصابروا ، الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي ، وعدوكم . وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات ، والمصابرة على نوع آخر ، ولا تقوم بذلك حجة ، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي ، وقد قدّمناه . وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط ، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله ، وهو يردّ ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله ، وهو الجهاد ، فيحمل ما في الآية عليه ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى حراسة جيش المسلمين رباطاً ، فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط ، فقال " من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى " وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه ابن السني ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة " وفي إسناده مظاهر بن أسلم ، وهو ضعيف . وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ . وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال « من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة » .